الاعتناء بالتزكية والسلوك
شاع في العصور المتأخرة الفصل بين العلم وتزكية النفس، فصار العلم يعني المسائل، وأقوال الرجال، واختلافهم، أما أمور التربية وإصلاح النفس وتزكيتها فهو شأن آخر، وهو سبيل الوعاظ والمذكرين؛ كما شاع في بعض البيئات العلمية التهوين من شأن الأخلاق والسلوك، والنظر إليها على أنها أمر تكميلي وتحسيني.
ونشأ عن ذلك أن نرى من يطلب العلم وفيه جفاء وقصور في سلوكه وهديه لا يليق بأمثاله، ونرى من يعتني بتزكية النفس بعيدا عن طلب العلم فيقع في ابتداع أو هوى.
وذلك كان نتيجة الفصل بين الأمرين، فالتوجيه والتزكية شأن الوعاظ ونحوهم، أما طلبة العلم فشأنهم الانشغال بالمسائل العلمية وأقوال الرجال، وبدأ الاعتناء بالتزكية والسلوك يذبل في مجالس العلم ومدارسه.
وحين نعود إلى كتاب الله عز وجل نجد الارتباط الوثيق بين العلم وتزكية النفس، قال سبحانه:
( قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا *
ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا *
ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ) (الإسراء: 107-109)، فهذه الآية تصف الذين أوتوا العلم من الأمم
[ ص: 142 ] السابقة بهذا الوصف؛ فهو هدي عام لأهل العلم من المؤمنين وليس خاصا بهذه الأمة وحدها.
وقال عبد الأعلى التيمـي: " من أوتي من العلم ما لا يبكيه، لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه، لأن الله تعالى نعت العلماء، ثم قرأ القرآن
( إن الذين أوتوا العلم ) (الإسراء:107) إلى قوله:
( يبكون ) (الإسراء:109)" (أخرجه الدارمي، 299).
ووصف الله عز وجل العلماء بأنهم أهل خشيته سبحانه فقال سبحانه:
( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) (فاطر:28).
ووصفهم سبحانه بالقنوت والعبادة، فقال جل وعلا:
( أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ) (الزمر:9).
وكانت مجـالس المعـلم الأول صلى الله عليه وسلم مجالس يعلم فيها الإيمـان، يصور لنا ذلك أحد شبان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا". (أخرجه ابن ماجه، 61).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:
( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس، حتى لا يقدروا منه على شيء"؛ فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول الله، وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، فقال: ثكلتك [ ص: 143 ] أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟ قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت، قال: قلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ فأخبرته بالذي قال، قال: صدق أبو الدرداء إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلا خاشعا. ) (أخرجه الدارمي،293 )؛ فقد عد عبادة بن الصامت رضي الله عنه الخشوع علما.
ومن بعد الصحابة، رضوان الله عليهم، سار السلف على هذا المنهج.
قال أبو العالية: "كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى صلاته، فإن أحسن الصلاة أخذنا عنه، وإن أساء لم نأخذ عنه". (أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل، 409).
بل كانوا يعدون تعلم هدي العالم وسمته مطلبا أعلى من تعلم المسائل، قال إبراهيم: "كنا نأتي مسروقا، فنتعلم من هديه ودله" (جامع بيان العلم وفضله، 1 / 127 ).
[ ص: 144 ]
وقال ابن سيرين: "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم" (جامع بيان العلم وفضله، 1 / 127 ).
وروى ابن المبارك عن مخلد بن الحسن : "نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من حديث".(جامع بيان العلم وفضله، 1 / 127 ).
وأوصى حبيب الشهيد، وهو من الفقهاء، ابنه فقال: "يا بني اصحب الفقهاء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم؛ فإنه أحب إلي من كثير من الحديث".(جامع بيان العلم وفضله، 1 / 127 ).
وأكد ابن الجوزي هذا المعنى فقال: "رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب؛ إلا أن يمزج بالرقائق، والنظر في سير السلف الصالحين. فأما مجرد العلم بالحلال والحرام، فليس له كبير عمل في رقة القلب؛ وإنما ترق القلوب بذكر رقائق الأحاديث، وأخبار السلف الصالحين؛ لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها. وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوق؛ لأني وجدت جمهور المحدثين وطلاب الحديث همة أحدهم في الحديث العالي، وتكثير الأجزاء، وجمهور الفقهاء في علوم الجدل، وما يغالب به الخصم. وكيف يرق القلب مع هذه الأشياء؟ وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه، لا لاقتباس علمه، وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته. فافهم هذا، وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السلف والزهاد في الدنيا، ليكون سببا لرقة قلبك". (صيد الخاطر، 228-229).
وانتقد حال المنصرفين عن ذلك من أهل العلم: "رأيت أكثر العلماء مشتغلين بصورة العلم دون فهم حقيقته ومقصوده؛ فالقارئ مشغول بالروايات عاكف على الشواذ يرى أن المقصود نفس التلاوة، ولا يتلمح عظمة المتكلم ولا زجر القرآن ووعده، وربما ظن أن حفظ القرآن يدفع عنه
[ ص: 145 ] فتراه يترخص بالذنوب، ولو فهم لعلم أن الحجة عليه أقوى ممن لم يقرأ، والمحدث يجمع الطرق ويحفظ الأسانيد ولا يتأمل مقصود المنقول، ويرى أنه قد حفظ على الناس الأحاديث فهو يرجو بذلك السلامة، وربما ترخص في الخطايا ظنا منه أن ما فعل في الشريعة يدفع عنه". (صيد الخاطر، ص444).
وفي رسالة مطولـة بعثها العلامة الشيخ محمد رشيد رضا، رحمه الله، إلى الخـليفة العثماني.. يؤكد رشيد رضا على صلة التعليم بإصلاح السلوك، فيقول:
"التدريس في جميع تلك الدرجات إنما يقصد منه إشراب القلوب حب الدين وتوقيره وجعله الغاية المطلوبة من كل عمل، حتى تكون للملة وجهة واحدة يقصدونها بأعمالهم فتلتئم قواها الروحية والمادية لخدمة الدين، وتأييد حافظه الأعظم المدافع عن بيضتـه حضرة مولانا أمير المؤمنين؛ فتكون الملة ملة مهيبة يخشى بأسها وتخاف بوائق غضبها، ويؤول بالدولة إلى علو الكلمة في سياستها الخارجية بعـدما عادت بركاته على المسلمين في راحتهم الداخلية".
ويقول أيضا في الرسالة نفسها: "نعلم أن أمير المؤمنين لم يرد من إصلاح الجداول أن يدرج في فنون المدارس الإسلامية بعض الكتب الفقهية مع بقاء التعليم على طرقه المعهودة في المساجد وفي دروس بعض العلماء، فإن العلوم العملية إذا لم تبن على عقائد صحيحة وإيمان صادق لا تلبث أن تضمحل، ولئن ثبتت فإنما تسوق إلى أعمال خالية عن النيات وخاوية من
[ ص: 146 ] سر الإخلاص فتكون أشبه شيء بالباطلة في عدم ترتب الأثر المطلوب عليها كما قدمناه، فلا بد أن يكون مولانا الخليفة -أعز الله نصره- قد أراد أن يوجه النظر إلى فن تقوى به العقيدة ويستحكم سلطانها على العقول، ثم إلى تربية تذكر بما تنال النفس من ذلك الفن، فيكون التذكار مستحفظا لما يصل إليها منه، ثم إلى فن الفقه الباطني وهو ما تعرف به أحوال النفس وأخلاقها، والمهلك منها كالكذب والخيانة، والنميمة والحسد، والجبن، وسائر الرذائل، والمنجي كالصدق والأمانة، والرضا والشجاعة، وسائر الفضائل، ويضم إلى ذلك باقي علم الحلال والحرام على ما هو مذكور في الكتاب والسنة، ومتفق عليه بين أئمة الملة الإسلامية، ثم إلى تربية تحفظ ذلك وتروض النفس على العمل بما تعلم منه". (المنار، 9 / 889 ).
والحديث في هذا يطول، وليس هذا مقام بسطه، والمقصد من الاستطراد في النقول تأكيد اللحمة القوية بين العلم ومجالسه، وبين التزكية والسلوك، وأنهما ليسا كيانين منفصلين.
وأحسب أن إحالة الأمر للوعاظ ومجالس الوعظ، لا يكفي، وأنه من المهم أن يرتبط الاعتناء بالتزكية والسلوك بمجالس العلم ودروسه، لا أن يكون منفصلا يتولاه الوعاظ وحدهم؛ فهذا مما يؤدي للخلل في بناء شخصية طالب العلم، والنظر إلى التزكية والسلوك على أنها تعني غيره، وأن مرتبتها دون مرتبة تعلم المسائل وأقوال الرجال.
[ ص: 147 ]