المطلب الثالث: الطريقة الدعوية المؤثرة في العرض:
الكتابة المؤثرة هي التي تتوفر فيها عوامل التأثير في النفوس، من مخاطبة الوجدان، ومن تحريك الأفهام، ومن إثارة المشاعر والعواطف، ومن أساليب الحض والحث وأساليب التنفير والتحذير، ومن طريقة العرض، ومن التمهيد، ومن المدخل والختام، ومن الترغيب والترهيب، كل هذا وغيره من شأنه أن يؤثر في القارئ وأن يحرك وجدانه، وأن يهيئ له مناخ التفاعل مع الفكرة، التي يراد سيادتها في الأذهان وتملكها الأفهام، وتحويلها إلى واقع عملي وسلوك ملموس.
وفي المقابل هناك كتابات جافة غير مؤثرة افتقدت هذه العوامل فلم تحرك قلبا، ولم تهذب نفسا، ولم تقوم طبعا، بل كانت عبئا على المكتبة الإسلامية وضيفا ثقيلا على موائدها.
والعـبرة في الكتابة كيفها وليس كمها، فكم من الكتب صدرت، وكم من المؤلفـات نشرت، لكنها ليسـت شيئا، ووجـودها كعدمها، ولا تعلق بالأذهـان، ولا تحتـل مكانتها في الذاكرة الإنسـانية، في حين أن هناك كتبا أخرى بقيت آثارها، ولـم تسقط من ذاكرة الأجيال المتتابعة، وحفظت مكانها في المكتبة الإسـلامية كمراجع أصيلة للباحثـين في كل وقت وحين.
فالكتاب الذي يعيش هو المكتوب بحب وعاطفة والذي اجتمعت فيه عوامل التأثير، فهذا الكتاب الذي تتحرك كلماته أمام الأعين، ويلمس
[ ص: 123 ] القارئ صدق الكاتب وإخلاصه من وراء ما كتب وأخرج من أفكار عميقة ورؤى ثمينة.
وكانت "رسائل الإصلاح" من تلك الكتب، التي توفرت فيها عوامل التـأثير، ونالت من المعنيين كل ألوان الإعـزاز والتقـدير، ومن سـبل التـأثير في "رسائل الإصلاح" ما يلي:
- تعميق الفكرة من خلال طريقة الدعوة:
الفكرة في "رسائل الإصلاح" عني بها الإمام عناية بالغة، فأخذ يعرضها في قوالب عدة حتى يتسنى لها القبول، وليس هناك أجمل ولا أكمل من طريقة الدعوة في عرض الفكرة، فكان الإمام يعرض الفكرة تارة بالترغيب وتارة بالترهيب وتارة بالمزج بينهما وبالخلط بين الرغبة والرهبة، ومن ذلك مقاله عن القضاء العادل في الإسلام.
يقـول: "عنيت الشـريعة بالعدل في القضاء عنايتها بكل ما هو دعـامة لسـعـادة الحياة، فأتت فيه بالعظـات الباـلغـات: تبشـر مـن أقامه بعلو المنـزلة وحسن العاقبة، وتنذر من انحرف عنه بسوء المنقلب وعذاب الهون"
>[1] .
ومن ذلك مقاله عن المروءة ومظاهرها الصادقة:
[ ص: 124 ]
يقول: "خصـلة رفيعة القـدر، تجري في منشـآت الأدباء ويتحدث عن معناها في عـلوم اللغـة والشريعة والأدب والأخـلاق تلك الفضيلة هي: المروءة"
>[2] .
- الإعلان عن العاطفة والتأكيد عليها:
من سبـل التأثير الإعـلان عن عاطفـة الكاتب من أنه المحب للدعوة، والمرجح لمصلحة الأمـة، والناصـح الأمين، والمشفق على المسلمين، وغير ذلك من سبل ترجمـة العاطفة والإعلان عن المشاعر وصدق الأحاسيس، وليس هذا فقط إنما التأكيد على سمو العاطفة وصدق الأحاسيس بنسبة العلم إلى الله في صدق أحاسيسه، وهذا فيه ما فيه من تحقيق التوافق الوجداني بين الكاتب والقارئ، وكان هذا موجودا بصورة ملحوظة في "رسائل الإصلاح".
"ونحـن نود والله يعلـم أن يقبل كل من بيـده قلـم على ما فيه خير للناس، والموضـوعات العلميـة والأدبية والسيـاسية مترامية الأطراف، وانصراف نفس الكاتب عن البحث في أمثال هذه الموضوعات ليس بعذر يبيح له أن يخوض بقلمه في الحديث عن الدين خوض من يقولون ما لا يتدبرون.
[ ص: 125 ]
ونود والله يعلم أن نقبل على شأننا، ونمضي في سبيلنا، وليس في فطرتنا الولوع بأن نفند لكاتب رأيا، أو نبطل لباحث قولا، ولكن القوم أصبحوا يتساقطون على طمس معالم الحقيقة والفضيلة تساقط الفراش على السراج، والسكوت عنهم تفريط في جنب الله، ومن فرط في جنب الله خسر الدنيا قبل الآخرة"
>[3] .
فتـكرار الإمـام الإعـلان عن العاطفـة في مقام واحد، وتأكيده هـذا بنسبة العـلم إلى الله دلالة واضحـة عـلى الرغبة في ذلك، وأن من المقـاصـد إشـعـار القارئ بأحاسـيس الكاتب وصدق مشـاعره وسـمو عواطفه.
لكن مع هذا لابد من العلم أن التكلف في العاطفة والإفراط فيها خروج عن الاعتدال، وعدم التزام بالقدر الذي إن زاد عن حده انقلب إلى ضده، فالتكلف منبوذ بالطبيعة، والافتعال مرفوض بالفطرة والسليقة، وأيضا المشاعر الصادرة لغة حية، وإن لم ينبه عليها، ويلفت النظر إليها، فالشعور الصادق يصل إلى الأحاسيس والوجدان بقدرة من الله عز وجل، الذي بيده مفاتيح القلوب.
وأيضا الجوانب الوجدانية في العرض لن تجور على الجوانب العلمية، ولا تؤثر في قواعد البحث السليم، ولا يتخذها الكاتب تكأة لتمرير
[ ص: 126 ] القصور الواضح في البحث، وعدم توفية مطالبه، وتغطية جوانبه، ولا يعتمد على هذا أيضا لتغطية جوانب الضعف في شخصيته العلمية مستغلا الجوانب العاطفية والوجدانية عند المتعاملين مع منتجه العلمي والثقافي.
- إثارة الخير في المتلقي:
إثارة الخير من السبل المهمة في مساندة الفكرة وتدعيم المنهج وإخراج القدرات الفاعلة، والمواهب الفائقة من المتلقين. وفي المتلقي جانب مهم لابد أن يعيه الكاتب أولا، وهو وجود الخير فيه، ولا بد من طريقة إخراج هذا الخير أن يعطيه الكاتب الثقة فيما لديه، وأن يطمئنه على مكانته الخاصة، وأنه يحظى عند المصلحين بالدرجة والمرتبة، وليس منسيا ولا ساقطا من الحسبان ولا موضوعا في سلة الإهمال أو زاوية النسيان.
يقول الإمام: "قد يوجد في أفراد البشر من يولد في بيئة عفاف وحكمة، وتتولاه يد التربية الحازمة بالتنبيه لمواقع الهنات، فتكون سيرته كالسبيكة الخالصة لا يجد فيها الناقد مغمزا"
>[4] .
ويقول: "هذه كلمة نوجهها إلى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، لعلهم يجـدون فيها تحقيق الفرق بين محاكاة الأجنبي المحمودة ومحاكاته المنبوذة
[ ص: 127 ] فيسلكون طريقا وسطا يكفل لهم سعادتي الأولى والآخرة:
( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) (الأحزاب:4)"
>[5] .
وعندما تجد النفوس البشرية هذه الطريقة في التعامل فإنها تعلن عن نفسها، وتظهر للمجتمع كله خيرها، وما كان هذا إلا بالكتابة الحكيمة والطريق البديعة، والرؤية السليمة.
- الإشارة إلى رقي الفكرة:
من سبل جذب المتلقي الإعلان عن الفكرة والإشادة بها، والتشويق إليها، وإشعار المتلقي أنها ذات درجة، ويلزمه أن يتعرف عليها وأن يتابع عرضها خطوة خطوة، يقول الإمام:
"يذكر الكتاب والخطباء تقليد المسلمين للأجانب، ومنهم المسرفون في الدعوة إلى التقليد، ومنهم الراشد، وإليك كلمة تعرض عليك الرأي الذي يقف عند حدود الدين، ويرعى حق القومية، ويقدر المصالح ويحرص على أن لا يفوت الأمة منها مثقال ذرة"
>[6] .
والقـارئ عندمـا يعلم أن المصلحة التامة هي التي عرضـها الكاتب لا يفوته الإطلاع على زوايا هذه المصلحة والوقوف طويلا عندها.
[ ص: 128 ]
ويقول صراحة: "عليك الإنصات وعلينا البيان"
>[7] .
وهذا من حرص الكاتب على شد اهتمام القارئ وجذبه إلى الكلام بكل طريقة، ويتحقق بهذا ضمان عدم ابتعاد القارئ عن الفكرة في كل خطوة من خطوات عرضها، وفي كل زاوية من زوايا طرحها.
- ذكر الانعكاس على الجماعة:
تذكر "رسـائل الإصـلاح" الانعكاس على الجماعة في الجانب الحسـن أو في الجـانب السيئ ليدرك كل فرد مدى نفعه إن التـزم وضرره إن انسلخ.
"والجماعة التي تفقد هذا الخلق تفقد جانبا عظيما من أسباب السعادة، ويدخلها الوهن بعد الوهن، حتى تتفرق أيدي سبأ"
>[8] .
- توجيه الخطاب المباشر للقارئ:
يتوجه الكاتب بالكلام مباشرة للقارئ، حتى تصل للقارئ رسالة من خلال هذا التوجه، وحتى يصل للقارئ معنى أن الكاتب يوجه إليه الكلام بشخصه، وأنه المقصود تحديدا بهذا الخطاب.
يقول، رحمه الله: "وقلة الإنصاف تسقط احترامك من العيون، فإن من يراك تهاجم الآراء المؤيدة بالحجة، قد يحمل هنا الهجوم على قصر
[ ص: 129 ] نظرك.. قلة الإنصاف تسقط احترامك من القلوب، والإنصاف يزيد احترامك في القلوب مكانة..."
>[9] .
ويقول، رحمه الله: "وإذا لم ينصفك الرجل، فرد عليك الحق بالشمال واليمين أو جحد جانبا من فضلك وهو يراه رأي العين، فلا تكن قلة إنصـافه حـاملة لك على أن تقابله بالعناد، فترد عليه حقا أو تجحد له فضلا، واحتـرس من أن تسري لك من خصومك عدوى هذا الخلق الممقوت، فيلج في نفسك"
>[10] .
فقد اتخذت "رسائل الإصلاح" وسائل للتأثير في القارئ، وجذبه إليها، وإشعاره بالحرص عليه، والتمسك بإصلاحه وتهذيب خلقه، وتقويم طبعه، وجعله مقصدا من مقاصد تلك الرسائل، وإنه إن استوعبها تحققت المقاصد بضمه في صفوف المصلحين.
[ ص: 130 ]