- الفقرة الثانية: في المسألة التعليمية والمناهج: الأهمية:
لا مرية في أن التعليم بنظمه ومؤسساته ومناهجه، كان، ولا يزال، الجهة المسؤولة عن المستقبل الروحي والمادي للشعوب والأمم، وذلك بحسبانه المصنع، الذي يتم من خـلاله إعـداد الأجيال التي تقود غيرها، أو يقودها غيرها، كما يعد ذلك المنبع الذي يتكون من خلاله تلك العقول النيرة، التي ترتقي بأممها، وتنهض بشعوبها من خلال تمكنها الرصين من وسائل الترقي والتحضر والشهود، التي ترسمها نظمها التعليمية، وتترجمها مناهجها التعليمية، وتقدمها مؤسساتها التعليمية، فضـلا عن تمـكين تلك العقول من الاستفادة الواعية بما تركها الآباء من ثروات علمية، وورثها الأجداد من كنوز معرفية كبرى!
بل إنه ليس من ريب في أن التعليم يعد - أيضا - ذلك المصدر المسؤول مسؤولية مباشرة عن صناعة تلك العقول المنغلقة المتوجسة المترددة، التي تغيب الأمة عن الشهود الحضاري، وذلك نتيجة افتقارها إلى نظم ومناهج ومؤسسات تعليمية فاعلة وقادرة على تمكين النشء من أدوات التمكين الحضاري، والمشاركة الواعية في الفعل الحضاري، فضلا عن مسؤوليته عن تكوين تلك العقول المنغلقة، التي تضيع منجزات الآباء، وتفرط في مكاسب الأجداد من خلال خلطها الفاضح بين الثابت والمتغير من تلك المنجزات العلمية والمكاسب المعرفية!
ومن ثم، فإنه من المشروع، فكرا ومنطقا، أن يكون التعليم - بنظمه ومناهجه ومؤسساته- قبلة يؤمها أولئكم المصلحون الطامعون في النهوض [ ص: 41 ] بأممهم المنسحبة عندما تدور عليها الأيام، وتتكالب عليها الأمم، كما أنه من المنطق السديد أن يكون التعليم ذلك الملاذ، الذي تلوذ به تلك الأمم الشاهدة المتصرفة في أقدار غيرها عندما تراودها نفسها تحقيق مزيد من السيطرة الحضارية والهيمنـة السياسية والتبعية الثقافية والاستلاب الفكري وجني أقصى ما يمكن جنيه من المنافع المادية والروحية ترسيخا لنـزعتها في التحكم والتصرف في مقدرات تلك الشعوب المغلوب على أمرها، بحبل منها ومن الناس، لا بحبل من الله جل جلاله!
واعتبارا بما تحظى به المناهج في المسألة التعليمية من مكانة موضوعية وأهمية مرجعية مؤثرة في صعود الأمم وهبوطها، لذلك، فليس من عجب في شيء في أن تعتني الأمم الراقية بمناهجها التعليمية اعتناء يقوم على ديمومة تعهدها إياها بالمراجعة الحصيفة والتطوير النوعي والكمي والترقية الواعدة والإصلاح الدؤوب لأهدافها، ومحتوياتها، وأساليبها. وأما الأمم المغلوب على أمرها، فإنها تستورد نظمها التعليمية، وتقدس مناهجها التعليمية تقديسا يقوم على تبرئة ساحتها - أهدافا ومحتويات وأساليب وطرق تقويم - من أي إسهام في إخفاقاتها، وأزماتها، ونوازلها تعميقا منها - على حين غرة - لانسحابها الحضاري، وتخلفها عن الركب الشهودي، وتهميشا لدورها المرتجى في الفعل الحضاري الإنساني المشرف!
ومن ثم، فإنه لا يماري أحد من أولى النهى والبصيرة ما لمسألة المناهج عامة من حساسية عميقة لدى مختلف الأمم، وذلك بوصفها - كما أسلفنا - [ ص: 42 ] أداة يمكن توظيفها لبناء الأمم ونهضتها وتطورها وتقدمها، كما يمكن توظيفها لهدم الأمم وتدمير مقدراتها، وتهميش دورها، وترسيخ تخلفها وتأخرها، بل ليس بخاف على أحد من أهل النظر والفكر ما لمناهج العلوم الإسلامية خاصة من مكانة سامية ومن-زلة عظيمة في نفوس الأمة في جميع أنحاء المعمورة، وذلك بحسبانـها الوسيط، الذي يتم من خلاله تعريف النشء بخالق الكون ومدبره، وما يجب عليهم تجاه هذا الخالق، فضلا عن تعريفهم بما يحب هذا الخالق ويرضاه من قول وعمل، وبوصفها المخزن، الذي يحتضن بين جنباته الإرث العقدي والثقافي والتشريعي لعموم الأمة.
ولذلك، فإن أي تعامل مع مسألة مناهج العلوم الإسلامية - أهدافا ومحتويات وأساليب- في العالم الإسلامي في العصر الراهن قصد مراجعتها لإصلاحها، وتطويرها، ينبغي أن يتخذ من مبدأ الوسطية الخالد، والاعتدال الموجه، والانفتاح الرشيد، والاستيعاب الأمين لما يموج العالم المتغير، مرتكزات يتحرك من خلالها لتحقيق الإصلاح المنشود والتطوير المرتجى، من خلال مراجعة هادئة هادفة للعناصر، التي تتكون منها هذه المناهج، ولينبثق التعامل القائم على الركائز المذكورة من التبرؤ الأمين الأكيد من جميع أشكال الغلو والتطرف في تقديس الاجتهادات التربوية والتعليمية المتمثلة في الصياغات الناظمة والضابطة للمعارف والحقائق والقيم، التي تنتظمها نصوص الكتاب والسنة النبوية الصحيحة الطاهرة، كما ينبغي التبرؤ من جميع صور المغالاة في التفريط والإفراط فيما كان موفقا من تلك الاجتهادات التربوية والتعليمية. [ ص: 43 ]
إن الشأن في التعامل مع هذه المناهج كالشأن في التعامل مع غيرها من الاجتهادات الفقهية والعقدية والتربوية وسواها من النظرات والرؤى، التي جادت بها القرائح الإسلامية عبر التاريخ، وذلك انطلاقا من كونها أنظارا اجتهادية يسري عليها ما يسري على غيرها من قصور ونقص وعجز وتأثر بالواقع الفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي الدائب التغير والتبدل والتحول، وبحسبانها - كما قررنا سابقا- رؤى بشرية محدودة تشكلت متأثرة تأثرا واضحا بظروف الزمان والمكان، وبعوامل الطبيعة والبيئة، مما يستوجب تعهدها بالمراجعة الدائبة والتطوير المستمر كلما تغير الزمان، وتبدل المكان.
وصفوة القول، إن استحضار هذا البعد المنهجي الموضوعي عند التعامل مع مسألة مناهج العلوم الإسلامية في العالم الإسلامي، ينطلق من الاعتداد الأصولي المكين بكون مسألة المناهج -كما سيأتي بيان ذلك بتفصيل- من جنس المسائل الموسومة في البحث الأصولي بالمسائل الاجتهادية، التي سكتت عنها نصوص الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة، إذ لم تشملها تلك النصوص المعصومة ببيان صريح مباشر مما يجعلها تتسم بالمرونة والسعة، وتقبل التعددية والتجدد والانفتاح، كما تنفسح بطبيعتها للاجتهادات المخلصة الهادفة والمتجددة بتجدد الأزمنة والأمكنة والأحوال والعادات والأوضاع والظروف، اعترافا بما للزمان والمكان والأحوال والعادات والأوضاع والأحوال من تأثير غير منكور على الاجتهادات البشرية غير المعصومة إزاء مختلف القضايا والموضوعات. [ ص: 44 ]
التالي
السابق