الفقرة الأولى: في موقع مناهج العلوم الإسلامية في ثنائية القطع والظن (الثبات والتغير):
كانت ثنائية القطع والظن
>[1] ، ولا تزال، من أهم القضايا والمسائل، التي حظيت ولا تزال تحظى بعناية الفكر الأصولي المتواصل على مختلف الأصعدة، إذ لا يكاد يخلو مبحث في الدرس الأصولي من حضور هذه الثنائية فيه بطريقة مباشرة وغير مباشرة، ويعبر عنها في كثير من الأحيان بثنائية النص والاجتهاد، اعتبارا بكون مصطلح النص يراد به عند إطلاقه في الدرس الأصولي القاطع والمحكم، الذي لا يحتمل تأويلا ولا نسخا، وكون مصطلح الاجتهاد شاملا لكل ما عدا النص من الأحكام.
ومن ثم، فإن طبيعة تعامل الباحث والدارس الأصولي مع مختلف القضايا والمسائل والموضوعات القديمة والمستجدة في دنيا الناس، تتحدد من خلالها تحديده الأولي موقع تلك المسألة في ضوء هذه الثنائية القارة، حيث إذا ألفاها واقعة ضمن المسائل أو الموضوعات الموسومة بالمنصوص عليها نصا قطعيا، انصرف همه في التعامل معها حول البحث عن سبل تنـزيل مراد الشرع من تلك النصوص في الواقـع المعيش، وعدها -عندئذ- من جنس الثوابت، التي لا يجوز المساس بجوهرها؛ كما لا يجوز عرضها للنقد أو المناقشة، بل غاية ما ينبغي له القيام به تطبيق معاني تلك النصوص في واقع الأفراد والجماعات والدول.
[ ص: 74 ]
وأما إذا وجد الأصولي المسألـة المعروضـة للنظر واقعة ومندرجة ضمن المسـائل أو الموضوعات الموسومة بالمنصوص عليها نصا ظنيا، أو المسائل المسماة بالمسائل غير المنصوص عليها، أوسعها - حينئذ - جانب البحث والتحليل والتحقيق والتجديد مصنفا إياها ضمن المتغيرات والمجتهدات والفروع والمتشابهات.
بناء على هـذا، فإنه يمكن الخلوص إلى تقرير القول: إن موقف الأصولي يتحدد وينضبط من خلال ما يسعفه من نصوص إزاء الموضوع والمسـألة المعروضة، فـإذا كانت المسـألة عديمة النصوص، أو كانت ذات نصـوص ظنية، اتسع فيها مجال تعامل الأصولي، نظرا وتطبيقا، وأما إذا كانت المسـألة ذات نصوص قطعية، فإن حظ الأصولي في التعامل فيها يضيق وينحسر.
وتأسيسا على هذه المنهجية الأصولية في التعامل مع مختلف المسائل الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، يمكننا النفاذ من خلالها إلى بيان موقع مناهج العلوم الإسلامية في ثنائية القطع والظن وصولا إلى ضبط محكم لعلاقتها بقاعدة: تغير الأحكام والفتاوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال.
على أنه من الحري بنا تمهيد ذلك البيان بإزالة ذلك الغبش في الرؤية المتمثل في الخلط الفادح بين العلوم الإسلامية ومدارها، إذ إن المتمعن في الطروحات الفكرية المكرورة لا يجد - إلا في النادر- تفريقا علميا قارا بين مدار تلك العلوم المسماة بالعلوم الإسلامية من جهة، وبين العلوم نفسها من جهة أخرى، والحال أن ثمة فرقا واضحا بين مدار تلك العلوم والعلوم نفسها، أعني أن مدارها المتمثل في الوحي الإلهي المنزل ليس معنيا بأي حال من الأحوال
[ ص: 75 ] بمسألة ثبات العلوم الإسلامية وتغيرها، وذلك بحسبان ذلك المدار (=الوحي) شأنا أزليا متعاليا على الزمان والمكان لكونه سابقا عليهما، وبالتالي فلا يمكن أن يمسه تغير أو تطور أو تبدل، وبالتالي، فإنه لا يعد - منهجيا - مجالا لمسألة الثبات والتغير.
وأما المعارف والمفاهيم والمعلومات المستقاة من ذلك المدار عبر مختلف المناهج والوسائل، فإنها غير متعالية على الزمان والمكان، ولا سابقة عليهما اعتبارا بكون أولئك كلها من صنع الإنسان، الذي يؤثر فيه الزمان والمكان والحال، وبالتالي، فإن تلك العلوم والمعارف بمناهجها وفلسفاتها ونظمها ومحتوياتها ومقرراتها ووسائلها وأساليبها تخضع - بالضرورة المنهجية - لمسألة الثبات والتغير والتطور والتبدل كلما تغير ذلك الإنسان، الذي يتعامل مع المدار (=الوحي)، وتبدل ذلك المكان، الذي يتحرك فيه الإنسان المتعامل مع المدار الثابت. وبعبارة أخرى ينبغي أن ينصب حديث الثبات والتغير في العلوم الإسلامية لا على مدارها الموسوم في علم الابستمولوجيا بموضوع العلم، أي مجال العلم وما يدور حوله مباحثه ومناهجه ووسائله!
وتأسيسا على هذا التمييز المنهجي الضروري اللازم لمسألة الثبات والتغير فيما يخص العلوم الإسلامية ومدارها، فإننا نهرع إلى تقرير القول: إنه إذا كانت العلوم والمعارف المستقاة من الوحي الكريم يكتنفها التغير والتبدل والتحول، فإنه من فضول القول: إن موقع مناهج هذه العلوم، عناصرها الأربعة
[ ص: 76 ] (الأهـداف + المحتـويات + أساليب التعليم + طرق التقويم) في ثنائيـة القطع والظن، هو الظن (التغير)، وذلك اعتبارا بكونها صياغات واجتهادات بشرية غير معصـومة لجملة حسنة من الحقـائق والقيم والمعلومات والمعارف في شكل مقررات دراسية هـادفة إلى الارتقـاء بالمتعلم وتمكينه من حسن فهم الوحـي الإلهي وتمثـله في الواقع الذي يعيش، فضلا عن كون الأساليب التعليمية ممارسات اجتهادية رامية إلى نقل تلك الحقائق والمعلومات والمعارف إلى المتعلمين.
إنه ليس من ريب في أن نصوص الكتاب والسنة خلت من التنصيص على الأهداف التعليمية، أو المقررات الدراسية، كما أنها لم تشمل الأساليب التعليمية وطرق التقويم بشيء من البيان أو التوضيح أو التأصيل، وإنما يمكن القول: إن الشرع الحنيف اكتفى في تشريعاته في مجال التربية والتعليم بإيراد نصوص عامة تتضمن مبادئ كلية، ومقاصد عامة ينبغي توافرها في الأهداف والمقررات والأساليب وطرق التقويم.
وبناء على هذا، فإنه يمكن الانتهاء إلى القول: إن مسألة مناهج العلوم الإسلامية تعد مسألة ذات نصوص ظنية من حيث الإجمال، اعتبارا بورود نصـوص عامة تسعها، كما تسع غيرها من المسـائل التعليمية بشـكل عـام، كما أنها تعد أيضا من المسائل الظنية انطلاقا من كونها في صياغاتها البشرية من جنس المسائل عديمة النصوص من حيث التفصيل، إذ إنه لم يرد في شأن أي عنصر من عناصرها الأربعة نص مباشر من الكتاب الكريم أو السنة النبوية الشريفة.
[ ص: 77 ]
وتأسيسا عـلى هـذا، فإن حظ الأصولي في التعامل مع المسألة التعليمية عـامة، ومع مسـألة مناهج التعليم الديني/ غير الديني خاصة، واسع جد واسع، إذ إن للأصولي أن يسع بذهنه المتقد الأهداف التعليمية جانب التحـليل والتحقيق والنقد في ضوء كليات الشرع، ومقاصده العامة، كمـا أن له أن يشمـل المحتويات (= المقررات الدراسية) بتحليله ونقده إياها في ضـوء قاعـدة: ضرورة مراعاة الأولويات، ومراعاة أسس فقه الواقع، وضرورة الاعتداد بمآلات الأفعال، وضرورة الاحتكام إلى قاعدة المصالح والمفاسد، جلبا ودرءا.
وأما الأساليب التعليمية وطرق التقويم، فإنه من حقه أن يحاكمها إلى جملة حسنة من القواعد النبوية الصافية في مجال التربية والتعليم، وعلى رأسها قاعدة: تغليب التبشير على التنفير، وقاعدة: تغليب التيسير على التعسير، وقاعدة: مخاطبة الناس على قدر عقولهم، وقاعدة: الرحمة والسماحة، والرفق، والصفح، وغيرها من القواعد، التي ينبغي توظيفها في مجال التعليم والتربية توظيفا حسنا.
وعلى العموم، إننا نخلص إلى تقرير القول: إنه من حكمة الشرع الحكيم أن جعل المسألة التعليمية عامة، ومسألة المناهج خاصة من جنس المسائل الظنية، ذلك لأن ظنيتها هي التي تجعلها مرنة منفتحة وقابلة للمراجعة والنقد والتطوير والتجديد، ويبعد عنها التقديس والتعصيم، كما تجعل صياغة أهدافها، وضبط محتوياتها، وتحديد أساليبها التربوية، وطرق التقويم فيها خاضعة
[ ص: 78 ] لضرورة مراعاة العديد من المبادئ الكلية والقواعد العامة والمقاصد السنية، التي سبق الإشارة إلى بعضها سعيا إلى الارتقاء بها، وتطويرها، وترسيخها بين الفينة والأخرى، ويعني هذا كله أن أية محاولة للانتقال بالمسألة التعليمية عامة وبمسألة المناهج خاصة من موقع الظنية (المتغير) إلى موقع القطعية (الثابت)، يعد ذلك محاولة غير مشروعة، وتضر بالمسألة أكثر مما تنفعها، إذ إن شأن تلك المحاولة الحيلولة دون تطوير المناهج، وإبعادها عن أداء الوظيفة الحضارية المنوطة بها، فضلا عن انحسارها دون تحقيق الأهداف المرجوة من العملية التعليمية كلها، ولا يخفى ما لذلك من مفاسد فكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية.
وصفوة القول، إنه لا بد من التأكيد والتقرير بأن المناهج سواء أكانت مناهج تعليم ديني أم مناهج تعليم دنيوي لا ينبغي اعتبارها - كما أوضحنا - "..آية منـزلة، مطيبة بعبير الألوهية، وإشراقة من الجنة لا يشوب صفاءها كدرة أو دكنة، لا، بل هي ككل عمل إنساني يبدو نقصه عندما يظن صاحبه أنه تم واكتمل. وإلا لما كانت أرقى أمم الأرض تعدل مناهجها كل مدة حسب مقتضيات العصر والبيئة، وتقدم العلوم، وفنون التربية. فنظرتنا إلى المناهج يجب ألا تكون نظرة العابد إلى.. قرآنه، بل نظرة المسافر إلى الطريق الذي يستخدمه، ويسترشد به لبلوغ غايته وتحقيق هدفه. وما أغبى المسافر الذي لا يمتد نظره إلى أبعد من الخط المرسوم للطريق.."
>[2] !
[ ص: 79 ]
وبهذا يتجلى لنا موقع مناهج العلوم الإسلامية في ثنائية القطع والظن في الدرس الأصولي، ولنتبع هذا البيان بتحرير القول في علاقتها الوثيقة بقاعدة: تغير الأحكام والفتاوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال، اعتبارا بأن ثمة ثنائية لصيقة تعرف بثنائية الثابت والمتغير من الأحكام، وتعد هذه الثنائية تجليا من تجليات الثنائية السابقة، ثنائية القطع والظن.
وعليه، فهلم بنا إلى جنبات هذه الفقرة التالية لبيان تلك العلاقة الثاوية بين المناهج والقاعدة الفقهية الأصولية التالية: