أ- معنى اصطلاح الحضارة:
لابد من الاعتراف بداية أننا أمام مصطلح ليس من السهل الاتفاق حول معناه بشكل دقيق، ولعل هذا ما يفسر تعدد التعريفات الخاصة به
>[1] . ولأنه لا يعنينا هنا الخوض في هذا الأمر، فإنه يكفي أن نشير إلى موقف كل من الفكر العربي والفكر الغربي في هذا الخصوص، ثم نتعرض للحضارة كحالة بشكل عام وإلى الزوايا المرتبطة بها.
[ ص: 25 ]
فالفكر العربي أخذ كلمة الحضارة من التحضر الناجم عن الإقامة في مكان ما وما ينجم عنه من تمدن، وبهذا المعنى تحدث ابن خلدون عن العمران المدني، كنقيض للبداوة، التي تشير إلى الارتحال والتنقل وعدم الاستقرار. الحضارة بهذا التحديد تبرز مع الاهتمام بالعمران وتشكيل المجتمع المديني المستقر المترابط والمتمدن
>[2] .
وهو يرى أنها تركز بصورة أساسية على الدين؛ لأنه يتضمن الجانب الروحي الذي يكفل الالتزام الأخلاقي الذاتي، ويوفر الترابط بين الأفراد وتلاحمهم، وتحفيزهم على ضرورة الالتزام بالمبادئ، التي تساعدهم على تطوير حياتهم كالعدل والمساواة والتسامح والتعاون والرحمة، والابتعاد عن الجرائم، التي تهدد حياتهم كالغش والظلم والسرقة والقتل وغيرها
>[3] .
تضم الحضارة بهذا التحديد نوعين من البنى، إحداهما عمرانية والأخرى اجتماعية، وهي بهذا التحديد مزيج من جانبين، المدنية والثقافة، أي أنها ثمرة جهد ضخم لعمارة الأرض وفق ثقافة ما
>[4] . وتقدم الحضارة الإسلامية أنمـوذجا بارزا في هـذا الخصـوص، فقـد أظهـرت الاهتمام البالغ
[ ص: 26 ] بالعمران، في إطـار ثقـافة هذبت سـلوك العرب أفـرادا وجمـاعات، بعد أن كانوا أقرب إلى التوحش وأبعد عن الانقياد، فضلا عن الاتصاف بالتحاسد والتنافس
>[5] .
أما الفكر الغربي فقد عرف مدرستين تعبر كل منهما بطريقتها الخاصة عن معنى الحضارة. الأولى تستخدم لفظ الحضارة Civilization بمعنى المدنية، بينما تلجأ الثانية إلى مصطلح الثقافة Culture. وما بين المدرستين طبعا جدل طويل في هذا الخصوص
>[6] .
إذن هناك في الغرب من لا يرى في الحضارة الغربية سوى مظهرها التقني، باعتبارها نتاج جهد بشري تراكمي في هذا المجال. صحيح أنها ارتكزت بداية على قيم الديانة المسيحية إلا أنها ابتعدت عنها بعد التصاقها بالدولة
>[7] ، وأضحت مع مبالغتها في الاهتمام بالجانب المادي تعيش حالة من الفراغ الروحي.
وهناك أيضا من لا يرى فيها سوى الجانب الثقافي، حيث لكل أمة أداء قيمي يعكس منهجها وسلوكها
>[8] . وبهذا المعنى تبرز في البناء الحضاري
[ ص: 27 ] للأمة السمات الأخلاقية على نحو يفوق أي شيء آخر، فتظهر الثقافة هويتها وطبيعة تأثيـرها الحضاري في حياة الإنسان وبيئته، سلبا أو إيجابا. وفي هذا السياق تم تناول موضوع الحضارة من جانب أكثر من مفكر
>[9] .
والهوية الثقافية، كمضمون للبناء الحضاري، تبدو في كونها مظلة لثقافات متعددة، مما يعني أن تكون الحضارة هوية ثقافية واسعة لمجموعة معينة من الشعوب. ومع أهمية الثقافة وبروزها على هذا النحو تصبح مرادفة للحضارة. وعلى هذا الأساس ميز "صاموئيل هنتنجتون Samuel Huntington" بين عدة حضارات في عالمنا المعاصر، وهي: الحضارة الغربية، الحضارة الإسلامية، والحضارة اليابانية، والحضارة الكونفوشيوسية، والحضـارة الهندية، والحضـارة السـلافية، وحضارة أمريكا اللاتينية، والحضارة الأفريقية
>[10] .
ولكن إذا اتسعـت حـدود الحضـارة ونطاقها فإنـها تصبح نسقا واسعـا لا يرتبط بجنـس معـين، ولا ينتمي إلى شعب مـحـدد. ورغم أنها، أي الحضارة، قد تنسب إلى أمة بعينها، فإنها تبتعد بها عن أي أساس عرقي. وبذلك تكون أكثر اتساعا من الثقافة، التي هي في الغـالب رمز الهوية ومحور الخصوصية.
[ ص: 28 ]
إن مصطلح الحضارة يشير عموما إلى حالة متقدمة لواحد أو أكثر من المجتمعات تتميز بمستوى متطور، ولذلك يلاحظ أن التعريفات المختلفة تلتقي حول كون الحضارة بناء يضم إنجـازات هـائلة، تحققت لشعوب معينـة أثناء انتقـالها من الماضي إلى الحاضـر عبر مراحـل متتابعة من الجهد والعمل، مما يجعل هذا البناء متميزا بخصائص تبدو بوضوح في مظاهر الحياة المختلفة.
فالبناء الحضاري، لأنه يقوم على مستوى رفيع لجوانب عديدة، نراه يرتبط بعناصر بنائية كالعلم والفن والدين والتكنولوجيا والأدوات المادية. وهذا أمر طبيعي إذ لا يمكن تشييد هذا البناء بدون هذه العناصر، حتى أن غياب أي منها سيؤثر سلبا في تحديد طبيعة الحضارة. فغياب التكنولوجيا المتطورة في العصور القديمة، مثلا، كان يعني أن لا تكون هناك سوى حضارة زراعية.
ويمكن النظر إلى البناء الحضاري من عدة زوايا تبرز من بينها ثلاث بصورة رئيسة، يدور الأول حول العناصر البنائية للحضارة، ويتعلق الثاني بالهوية الثقافية، أما الثالث فإنه يرتبط بحدود الحضارة وشموليتها
>[11] .
[ ص: 29 ]