2- عدم القدرة على الانعزال:
إن التفاعل الحضاري ضرورة إنسانية لابد منها، لتحقيق التقدم في كل ما من شأنه أن يأخذ بيد الإنسان نحو حياة أفضل، وأن يشيع في المجتمعات البشرية جو من الأمن والسلام، بخلاف العزلة الحضارية، التي تحول دون انسياب المعرفة بين الأمم، ومن ثم عدم بلوغ ما تنشده من تطور وتقدم. وهي لذلك، أي العزلة، تعبير عن الجهل وانعكاس للتخلف
>[1] .
والعزلة الحضـارية والانغـلاق أمر غير ممكن مع التقدم الهائل في وسائل الاتصال، فلم يعد بإمكان أية أمة أن تتقوقـع على نفسها وتبتعد عن الآخـرين في ظـل ضغوط القضايا المشتركة وتشابك العلاقات الإنسانية، ووجود تحديات لا يمكن لأي أمة، مهما بلغت من قدرة، أن تواجهها بمفردها.
والتطـور الحضـاري نتـاج تواصل دائم، وتفاعل مستمر بين الأمم، مما يعني أنه كلما ازدادت فرص الالتقاء ازدادت فرص التفاعل والتطور. وبخلاف ذلك تكون نتيجة العزلة الحضارية التقهقر والاضمحلال الحضاري. لقد تحققت العزلة قديما بسب بدائية وسائل الاتصال، ولذلك يمكن القول: إنها باتت مستحيلة في ظل ثورة المواصلات والاتصالات.
[ ص: 48 ]
ولذلك يمكن القول: إنه رغم اختلاف الحضارات وتباينها، فإن التداخل لابد أن يظل قائما فيما بينها بشكل أو بآخر. وقد ظهرت حضارات راسخة تركت أثرا فعالا في مجرى حياة الإنسان، كالحضارة الصينية والمصرية، ثم الفارسية والرومانية، ومن بعدهما الحضارة العربية الإسلامية. وكان التواصل قائما بين الحضارات منذ فجر التاريخ وبالقدر، الذي كان يتيحه لها تطورها التكنولوجي
>[2] .
لكن ما تم من غزو ثقافي في ظل العولمة دفع العديد من المجتمعات، في سياق المحافظة على ثقافتها، إلى العودة إلى كل ما يتعلق بماضيها وتراثها، والتحول إلى ما يشبه الكيانات المعزولة. ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى بروز البعد القومي على حساب النظرة الكونية للعالم وما يرتبط بذلك من تأثير على الإبداع الحضاري الإنساني المعاصر.
ومع ذلك لا يزال التواصـل بين الحضـارات المختـلفة قـائما بشكل أو بآخر. ورغم أنه يجري وفق معايير حددها الغرب بمكانته ودوره القيادي، إلا أنه تظل له، أي التواصل، أهميته ومقتضياته، التي تساعد على تحديد السمات الإيجابية المميزة لمسار التفاعل بين الحضارات المختلفة وتدفع به بعيدا عن التفاعل السلبي.
[ ص: 49 ]