تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي جعل رابطـة الأخـوة ثمـرة الإيمـان، فقـال تعـالى:
( إنما المؤمنون إخوة .... ) (الحجرات:10)، واعتمدها الركيزة الأساس في بناء الأمة وتشكيل نسيجها الاجتماعي وتحديد هويتها الثقافية، كما جعلها أسمى من رابطة الدم واللون والقوم والتاريخ والجغرافيا؛ لأن فيها وعندها تتحقق كرامة الإنسان وحرية اختياره، ويسمـو باختيارها على جميـع الروابط القسرية، التي لا يد للإنسان في وجودها أو نفيها، ذلك أن الصفات القسرية لا تصلح لأن تكون مجالا للتفاضل والتسابق والرقي في مدارك الكمال وتحقيق إنسانية الإنسان وارتفاعه عن سائر الخلق وروابط القطيع.
كما أن رابطة الأخوة تحول، بطبيعتها وانفتاحها، دون النزعات العنصرية، وتجعل المجتمع البشري مجتمعا إنسانيا مفتوحا ومتاحا للجميع، لا تفاضل فيه إلا بالكسب الأرقى والأعلى والأتقى في ميدان تتكافأ فيه الفرص ويتاح المجال للجميع على قدم المساواة.
هـذه الرابطة الأخوية، ليست مصلحة سياسية موقوتة أو وثاقا خارجيا، لا صلة له بوعي الإنسان، وإنما هي قيمة، دين، ومسؤولية، تنظم العلاقة بين
[ ص: 5 ] الناس وتحكمها، ومحصلة لقناعات، ومحل لتحقيق إنسانية الإنسان، فهي من عقود الإيمان والمقومات النفسية والأسس الفكرية للتكافل والتعاون على البر والتقوى، وسبيل اللقاء والانسجام والتعاون الإنساني على المستوى العالمي؛ حيث إنها أثمرت ولا تزال تثمر المواطن العالمي في أمة الإسلام، أو المواطن الإنساني، وتؤدي باختيارها إلى إزالة الحواجز والقضاء على أسباب التعصب والانغلاق والتمايز وجميع أسباب الصراعات، فإذا كانت رابطة الأخوة قيمة وفكرة وإيمان وحركة وسـلوك فإن الأمـة المرتـكزة إليها هي أمة الفكرة، التي لا حدود جغرافية لها وإنما هي ممتدة في فضاء الفكرة، التي تؤمن بها وتدين لها.
وكم حاولت البشرية وتحاول اليوم التوجه صوب الرؤية والثقافة والأخوة الإنسانية والحوار الحضاري ومعالجة نزعات التعصب والتميز، لكنها رغم ذلك كله لم تتحقق بها؛ لأنها لم تؤمن بالقيم والمتطلبات المؤسسة لها.
والصلاة والسلام على الذي جعل اللبنة الأولى في بناء الأمة الجديدة والخطوة الأولى في إقامة المجتمع الوليد المؤاخاة، وحدد حقوق الأخوة وواجباتها واستحقاقاتها، وربط ذلك بأصل الإيمان ومعطياته، فقال عليه الصلاة والسلام:
( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) (أخرجه البخاري)، وقال:
( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ) (أخرجه البخاري)، كما حدد أبعادا ومفاهيم جديدة لرابطة الأخوة، فقال:
( انصر [ ص: 6 ] أخاك ظالما أو مظلوما"، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما، كيف أنصره؟ قال: "تحجزه عن الظلم، فإن ذلك نصره ) (أخرجه البخاري)، مصوبا المضمون والمنحى الجاهلي، الذي يتمثل في قول أحدهم: "كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر"، وقول الشاعر:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
وإنما هو البعد الجديد للرابطة الجديدة والإنسان الجديد، بعد الحيلولة دون العدوان ونفي الظلم، من أي جهة كانت، فإن كان أخوك مظلوما تقف إلى جانبه، وتأخذ بيده، وترفع عنه الظلم، وإن كان ظالما تقف ضده، وتمنعه، وتأخذ على يده:
( تحجزه عن الظلم، فإن ذلك نصره ) (أخرجه البخاري)، وهذا بلا شك مفهوم جديد لمبدأ النصرة وحقوق الأخوة والتعاون على البر والعدل والتقوى.
ونسارع إلى القول هنا: إن رابطة الأخوة، التي شرعها الإسلام، وجعلها من مقتضيات الإيمان، على مستوى الأمة، لا تلغي أو تتعارض مع العقود الاجتماعية الأخـرى وعقود المواطنة ومواثيقها، كما يتوهم بعض الجهلة ومن لا فقه لهم ولا علم لهم بالسيرة النبوية، محل الاقتداء في التشريع والتنظيم وعقد المواثيق السياسية، وإنما رابطة الأخوة تشكل النواة الصلبة لتماسكها وحمايتها ورعاية حقوقها.
[ ص: 7 ]
فإلى جانب عقد المؤاخاة، الذي بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم إقامة الدولة وتشكيل الأمة وبناء المجتمع الوليد، عقد أيضا وبشكل مواز له ميثاقا للمواطنة، ووضع دستورا ينظم شؤون جميع المواطنين، ويحدد حقوقهم وواجباتهم، مسلمين ويهود ووثنيين، حيث لا يزال هذا الدستور أو هذه الوثيقة (وثيقة المدينة) تشكل الخطوة الرائدة الأولى والمبكرة في حياة البشر للاعتراف بالمواطنة المشتركة، التي لـما يصل إليها البشر بعد، على الرغم من تطاول القرون، حيث لا تزال الاختناقات القبلية واللونية والعنصرية والتعصب والانغلاق الديني ونزعات الهيمنة والاستعباد والظلم تشكل ألغاما موقوتة ومستمرة تنغص على البشرية حياتـها وتفقـدها أمنها وأمانها وسعادتها حتى اليوم، حيث لم تستطع الانعتاق منها.
وبعد:
فهذا "كتاب الأمة" الثاني والستون بعد المائة: "المسلمون في تايلاند.. الحاضر والمستقبل"، للأستاذ محمد داود سماروه، في سلسلة "كتاب الأمة"، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في محاولة منها لإعادة البناء، واسترداد الفاعلية، وتصويب الرؤية، ومعالجة الخلل، ومعالجة أسباب التبعثر والتمزق والتعصب والتشدد والتطرف والتشرذم وجميع أمراض التخلف، على مستوى الجماعات والأحزاب والمذاهب والطوائف، التي تموضعت وراء مفاهيم وأفكار ابتدعتها حتى وصلت في عالمنا أو في أمتنا الإسلامية إلى درجة المسلمات، رغم عقمها
[ ص: 8 ] وعجزها عن فعل شيء سوى تكريس التخلف والتمزق والتراجع الحضاري، وشكلت ثقافة يستوي فيها جميع أبناء الأمة، سواء أكانوا أقلية أو أكثرية.
وإذا كان نهوض أي مجتمع ومعاودة إخراج أية الأمة أو إحياء أية حضارة أو إعادة التبشير بقيمها وأفكارها مرهون بتوفير ظروف وشروط ميلاد مجتمعها الأول، أو كما قال الإمام مالك، رحمه الله، في رؤية مبكرة لنذر المستقبل وعواقب الأمور: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها)، فإن مقومات معاودة إخراج الأمة المسلمة واستئناف ريادتها وحمل رسالتها في الإنقاذ إلى العالم والتأهل للشهادة على الناس منوطة بمراجعة واقعها، وتقويمه بقيم الكتاب والسنة ومسيرة خير القرون، وتحديد الإصابات التي لحقت بها، ووضع الخطط والبرامج المدروسة والمتدرجة، التي تأخذ باعتبارها الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة، التي يقترحها أو يعتمدها المتخصصون بشعب المعرفة المتنوعة، بعيدا عن الحماس وسوء التقدير.
ولعلنا نقول: إن إمكان الاستئناف الحضاري ومجاوزة الواقع، الذي تعيشه هذه الأمة، متوفر فيها، باعتبارها أمة الشهود الحضاري وأمة الرسالة الخالدة، يقول تعالى:
( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143)، وبدلالة إخبار الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم :
( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار... ) فإن الإمكان الحضاري والقابلية للنهوض متوفرة وخارطة الطريق واضحة دائما للقيام بعملية الإقلاع والاستئناف من جديد.
[ ص: 9 ]
لكن، تبقى الإشكالية في فقه هذه الخارطة، في المواقع المتعددة، والقدرة على استيعابها، ومرحلة رحلة العودة في ضوء الإمكانات المتوفرة والظروف المحيطة وحسن التقدير - كما أسلفنا- ذلك أن معظم الإصابات، التي لحقت بمؤسسات الدعوة والعمل الإسلامي ناشئ - فيما نرى- من المجازفات والحماسات وسوء التقدير، الذي أنتج ولا يزال هدر الطاقات وسوء الإدارة للإمكانات والعجز عن حسن توظيفها، وسوء إدارة الأزمات وحسابات المخاطر، الواقعة والمتوقعة، ورؤية البدائل وإبصار الحلول الملائمة لكل مرحلة.
ولعل ذلك ناتج -فيما نرى- عن إشكاليتين أساسيتين: الأولى، وهي تتمثل في غياب الاختصاص بشعب المعرفة في المجالات المتعددة، عن النخب أو ما يسمون بأهل الحل والعقد، التي تمكن من الإحاطة بعلم الأشياء وامتلاك القدرة على تحليلها إلى عناصرها الأساسية، واكتشاف قوانينها ومسارها من خلال مقدماتها، وتقدير تداعياتها وعواقبها، وحسن الإعداد لها، فالله سبحانه وتعالى يقول:
( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) (يونس:39)، ويقول:
( ولا تقف ما ليس لك به علم ) (الإسراء:36)، فالدنيا من حولنا باتت اليوم تتحقق بالعلم والمعرفة والتخصص والتخطيط، وتعتمده في كل شيء، بل تقيم له المعاهد ومراكز الدراسات والمؤسسات، التي تقوم بالدراسات المطلوبة، ونحن ما نزال نصر على العشوائية، ونعتمد الصوت الأعلى والحناجر الأقوى، بحيث تسبق أقدامنا رؤوسنا، في كثير من الأحيان.
[ ص: 10 ]
وهذا الهياج والحماس والغضب والعشوائية وما ينتج عنها من الخراب والهدم لا يتكلف علما ولا اختصاصا ولا خبرة، بطبيعة الحال، وإنما هو مخزون عاطفي انفعالي تدميري وردود أفعال قد يحركها ويتحكم بها العدو، إلى حد بعيد، ويستطيع أن يحركها ويثيرها ويجيرها لصالحه، أما نحن فتستمر حياتنا الفاشلة في التلاوم والتفتيش عن الأعذار والمسوغات، أما التخطيط وحسن التقدير والإحاطة بعلم القضية المطروحة وانتقاء الوسائل والأدوات المناسبة والمراجعة المطلوبة لكل مرحلة فذلك يتطلب عقلا وتخصصا وحكمة وأناة وحسابات دقيقة للواقع والمتوقع، كما يتطلب بصيرة نافذة تدرك التداعيات والاستحقاقات معا.
لذلك نقول: إن أهل الحل والعقد لكل أمر يجب أن يكونوا من المحيطين بعلمه؛ والنخب القائدة الرائدة في كل مجال تبنى أو تختار من خلال تمكنها وتخصصها، لا من خلال ما يطفو من زبد الهياج، الذي يعلو على السطح:
( ... ولكنكم غثاء كغثاء السيل ) (أخرجه أبو داود)، ولا من خلال بعض المشايخ أصحاب الفضائل، الذين قد نقبل أيديهم ولا نقبل حديثهم، ممن يتجرأون على إبداء آرائهم رغم أنهم لا يمتلكون علما ولا خبرة بالقضية المطروحة؛ ولا ندري بسبب ماذا، وما هي المؤهلات، التي مكنت من هذه الألقاب، واعتمدت اجتماعيا؟
والأمر الآخر، أو الإشكال الآخر، وقد يكون الأخطر، وهو مترتب على الإشكال الأول؛ لأنه ناتج أيضا عن عدم العلم والفقه، الذي قد يشكل نوعا
[ ص: 11 ] من ممارسة التغرير والإساءة إلى أنموذج الاقتداء، والتضليل لمسالك خارطة الطريق الصحيحة، التي ضلها العمل الإسلامي المعاصر، إلى حد بعيد، هو: الخلط بين السنن الجارية، قوانين الأشياء، قوانين السنن الاجتماعية، التي تحكم الحياة والأحياء، وهي من تكاليف البشر وفروض إيمانهم الكفائية وقدرتهم على التخصص بها وحسن تسخيرها وتفعيلها ومغالبة سنة بسنة أو قدر بقدر؛ وبين السنن الخارقة، المنوط إنفاذها بإرادة رب العالمين، خالق كل شيء ومليكه:
( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) (يس:82)، لذلك فالعدول عن التعاطي والتعامل مع السنن الجارية، التي تتطلب عقلا وعلما وتخصصا وتدبرا واعتبارا وتقديرا ودراسة الاحتمالات، وانتظار السنن الخارقة، التي لا يد للبشر في إحداثها، وجعل السنن الخارقة سبيل الهزيمة والنصر، على مستوى التكليف البشري، نوع من الفكر المغشوش، والتدين الأعوج والتضليل الخادع، الذي قد يمارسه بعض الوعاظ الجهلة وغير المتخصصين، بحيث يسيئون من حيث يظنون أنهم يحسنون صنعا؛ لأن في ذلك تعطيلا للطاقات ووضعها في غير موضعها، والانتهاء بها إلى الفشل والإحباط، وقد تقود إلى الشك والارتياب في قدرة تلك القيم، نتيجـة لسـوء الفهم وسـوء الاستـخدام، على انتشال المؤمن بها من أزماته وإشكالياته، دون أن ندري أننا بذلك نضع المفتاح في الجدار، وننعي حظنا في استمرار الانغلاق، بدل أن نضعه في موضعه من قفل الباب.
هذا إلى جانب العبث في التعامل مع الأحكام الشرعية، وإسقاطها على غير محالها، والذهاب إلى مجازفات وممارسات نكون أول ضحاياها، دون النظر
[ ص: 12 ] للاستطاعات المتوفرة والظروف المحيطة وسنن الاجتماع والتدرج وفقه الحالات، التي عليها الناس.
وقد لا يقل عن ذلك شأنا ما نشهده اليوم مما انتهى إليه بعض القائمين على أمر أو قيادة العمل الإسلامي من تمحور جهودهم حول المغالبة السياسية، وما يترتب عليها من الصراعات الحزبية والتعصب المذهبي والنزوع الطائفي، الأمر الذي قد يوصل إلى استباحة المحرمات ويؤدي في كثير من الأحيـان إلى الجنوح عن منهـج الدعوة والغياب المـذهل لمقـاصـد الدين، كما ينتهي إلى ما نعانيه من الخلل والاضطرابات في ضبط النسب واهتزاز الجوانب في الرؤية الإسلامية الشاملة، حيث أدى ذلك إلى تضخيم البعد الحزبي والعمل السياسي، الذي طوعت له المفاهيم الإسلامية وأدى إلى الوقوع في ما ترتب عنه من اجتهادات، إلى ممارسات وحزبيات وخصومات وعداوات وجماعـات متناحرة، تجـاوزت عصبية القبيلة الجاهلية وحميتها وعميتها، وأنشأت أنصـابا من زعامات فاشلة، وقيادات خائبة، وكيانات هزيلة، ونخب لم تنتخب نصبت نفسها على رأس الأمة، وما تزال تصر على تسليمها من فشل إلى فشل.
ولعلنا نقول: كون محاولات النهوض والتجديد واستئناف الدور الحضاري في الشهود على الناس وإلحاق الرحمة بهم لم تتحقق بالنجاح المطلوب والمأمول، على الرغم من امتلاك قيم الوحي السليمة والتجربة التاريخية الحضارية، فإن ذلك يعني أهمية إعادة النظر في المناهج والوسائل والأدوات المستخدمة، إعادة
[ ص: 13 ] النظر بمنهج النظر، وكيفية التعامل مع هذه القيم المعصومة، المجربة والموحى بها، وعدم الهروب من مسؤولية الذات إلى إلقاء التبعة على الخارج.
وقد تكون هذه هي الإشكالية، التي تعاني منها الأمة المسلمة، سواء أكانت مساحة المسلمين أقلية أو أكثرية، فالإصابات والأمراض تكاد تكون واحدة، على الرغم من اختلاف البيئة المحيطة والنظام السياسي والواقع الحضاري والثقافي.... ولعلنا نقول هنا: إن ما يمتلك الإسـلام من رصيد الفطرة الإنسانية، وما يتحقق به من القوة الذاتية هو الذي ضمن استمرار انتشاره واستقراره وإقبال الناس على اعتناقه، رغم تخلف المسلمين وإصاباتهم المتعددة اليوم.
فالإسلام اليوم يمتد في العالم، بمستوياته الحضارية المتفاوتة ومكوناته البشرية المتعددة وعقائده المختلفة، مصداقا لبشائر النبوة ومواثيقها:
( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل به الكفر ) (أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم وصححه)؛ لأنه دين أنبياء البشرية جميعا، من لدن آدم، عليه السلام، وهو الدين القيم، دين الفطرة، التي فطر الله الناس عليها:
( فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (الروم:30)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
( ما من مولود إلا يولد على الفطرة ) (أخرجه مسلم)، فهو دين الإنسان حيثما كان، وفي أي زمان ومكان
[ ص: 14 ] كان، فرصيده كامن في خلق الإنسان، وكأن بين وحي الله للأنبياء وبين الإنسان، المتلقي المخاطب، الذي خلقه الله، تواعدا والتقاء، يقول تعالى:
( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك:14)، لذلك فإننا نعتقد أنه إذا خلي تماما بين الإنسان واختياره، وأزيلت الحواجز والعقبات من طريق وجهة الفطرة فإنها ستنتهي بصاحبها لاختيار الإسلام، دين الأنبياء الجامع؛ هذه عقيدة المسلم، وهذا واقع الحال، الذي يدل عليه استقراء التاريخ واستقراء واقع المجتمعات البشرية في جغرافيتها المتعددة والمتنوعة.
فإذا تحقق للإنسان حرية الاختيار، فهذه الحرية في حقيقتها هي التخلية بين الإسلام والناس؛ والدفاع عن الحرية والانتصار لها هو دفاع عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( خلوا بيني وبين سائر الناس ) (أخرجه أحمد)؛ والإسلام ينتشر في مناخ السلم والأمن وينكمش في بيئة الظلم والاستعباد، فإن من لوازم الحرية ونتائجها إسلام الإنسان، لذلك كان الشعار الكبير:
( لا إكراه في الدين ) (البقرة:256)، وكان مطلب النبوة الخاتمة الكبير والأساس بعد كل الإغراءات، التي حاولت تغير الوجهة، وكل المساومات، التي مورست عليه للعدول عن هداية الناس:
( خلوا بيني وبين سائر الناس ) وكانت مهمة النبوة وإرثها الممتد في الحياة ورسالة الجهاد الكبرى في الإسلام: إبلاغ قيم الدين إلى الناس:
( فإنما عليك البلاغ ) (النحل:82)،
( وما أنا عليكم بحفيظ ) (هود:86)،
( نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) (ق:45)، وإزالة الحواجز والعقبات، التي تحول بين الفطرة الإنسانية
[ ص: 15 ] ووحي الله للإنسان، وكانت مشروعية القتال في المحصلة النهائية حماية حرية الاختيار، والحيلولة دون إجبار الناس على غير اختيارهم وفتنتهم عن اختيارهم، فقال تعالى:
( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) (البقرة:193)، حتى لقد اعتبر الإسلام أن القتل وانتهاء الحياة أهـون من الفتنة والإكراه وتغييب الحرية في الاختيار، يقول تعالى:
( والفتنة أكبر من القتل ) (البقرة:217).
من هنا نقول: إنه من غير الطبيعي ولا المنطقي ولا الواقعي ولا الشرعي نشر دين الله وحمل الناس على قبوله بالعنف، حتى ولو أسميناه جهادا، وحد السيف والظلم والتسلط والاستعباد؛ لأن الدين محله الوعي الإنساني، محله العقل بكل استحقاقاته، والقلب بكل اطمئناناته وارتياحاته، محله داخل الإنسان، ولا سلطان لأحد عليه إلا سلطان الحق والدليل والبينة وحصول القناعة والارتياح.
لذلك، المتأمل في مسيرة التاريخ الإنساني وواقع الوجود الإسلامي في العالم وامتداد الإسلام وانتشاره ووجوده في دنيا الناس اليوم، ابتداء من أكثر الشعوب تخلفا وبدائية إلى أرقاها حضارة ومدنية، على الرغم من وهن المسلمين وهزيمتهم وتراجعهم ومحاولات تشويه صورتهم بكل الوسائل، يعي هذه الحقائق، ويدرك خلود الإسلام وقدرته على انتشال الإنسان من إصاباته، وملاقاته للفطرة، وصلاحيته لكل زمان ومكان وإنسان.
كما يدرك السبب الحقيقي لانقراض كثير من الأمم والحضارات، التي سادت ثم بادت، والكثير من الإمبراطوريات، التي بسطت سلطتها على العالم
[ ص: 16 ] بالعسـف والطغيـان، ومن ثـم أصبحـت أثرا بعد عـين، والإسلام لا يزال يتقدم ويفتح القلوب والعقول، يحمله الدعاة والتجار والعلماء والطلاب والسياح والمسافرون.
وأمة الإسلام أمة الفكرة المختارة بحرية ورغبة، التي تشكلت من خلال كتاب (القرآن وحي الله)، وأمة الفطرة، التي تهيأت بخلق الله لقبول هذا الدين، تملأ الأرض وتنتشر في الوجود جميعه، تفكك الحواجز، وتلغي الفوارق، وتزيل الحدود والسدود، وتقضي على نزعات العنصرية والتمييز، وترتكز إلى المواطن العالمي في أمة الفكرة.
والأمة بطبيعة الحال غير الدولة، التي هي دائلة على كل حال، بكل مكوناتها وحدودها وقوانينها، وغير الوطن بكل حدوده وأرضه وروابطه؛ وهذه الغيرية لا تعني ولن تعني التعارض والمواجهة والانطلاق من المقدمات الخاطئة، التي تقود إلى نتائج خاطئة وسلبية، فالأمة خيار إنساني عالمي يرتكز إلى الإيمان بالفكرة المشتركة، بالعقيدة المشتركة، التي تلغي الفوارق وتحقق المساواة وتؤصل الانتماء للوطـن والقـوم والدولة، كأطر لا تتعـارض مع أمة العقيدة وميثاقها في الأخوة وحقوقها، فالرسول القدوة صلى الله عليه وسلم كان أول خطواته بعد المؤاخاة في إقامة الدولة وبناء المجتمـع وحماية الوطن وبيان الحقوق المترتبة على الانتماء إليه، العقد الاجتماعي والميثاق السياسي الدفاعي الوطني، بمـا أسمي وثيقة المدينة، أو دستور المدينة بين جميع المواطنين، من الوثنيين واليهود والنصارى والمسلمين، كما أشرنا إلى ذلك.
[ ص: 17 ]
والأمر الذي نحب أن نلفت النظر إليه هو أن الأمة المسلمة هي أمة الأنبياء، بكل أقوامهم وتنوعاتهم، يقول تعالى:
( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم *
وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) (المؤمنون:51-52)، هي الأمة ذات العمق التاريخي، بكل عطاء حضارة النبوة وتجاربها والتي انتهت إلى النبوة الخاتمة، إضافة إلى المساحة الجغرافية اليوم، حيث الأمة المسلمة ممتدة بتراث النبوة في كل مكان، فهي ذات وجود عالمي إنساني، تسع كل الألوان والعروق والأجناس، وتنعم بأخوة الإيمان، وتلتزم بحقوق الأخوة، وتقيم المجتمع المفتوح، وتحمل قيم ومؤهلات الشهود الحضاري، الذي يأبى التعصب والعنصرية والتمييز، فباب الإيمان فيها مفتوح، وآصرة الأخوة فيها ممتدة، وطريق الفطرة سالك إلى الدخول في نطاق الأمة المسلمة؛ وبتلك الفطرية وذلك الانفتاح وهذه الإنسانية والحرية جعلت أمة وسطا لتكون شهيدة على الناس، وكانت خير أمة أخرجت للناس، حيث يختنق الناس اليوم وبعد هذه القرون من التمدن والادعاءات بالعنصريات والتعصبات من كل الأشكال.
نعود إلى القول: إن الوجود الإسلامي قائم في جغرافية الأرض، والأمة المسلمة بقيمها لها حضور عالمي وإنساني، وبذلك فالمسلم مواطن عالمي يعتقد أن الأرض ليست ملكا لأحد حتى يحتكرها ويتحكم فيها، فهي لله يورثها من يشاء من عباده، لذلك هو إنسان الفطرة، هو مواطن عالمي قادر على الإنبات في كل الظروف والأحوال والبيئات، يدعو إلى الخير، وينشر
[ ص: 18 ] الرحمة، ويحمل رسالة التحرير من الاستعمار والاستبداد والعبودية، ولا يعاني من عقدة الاغتراب والسلبية، سواء كان يعيش في محضن الأكثرية أو في نطاق الأقلية.
لقد حمل المسلمون الأوائل هذه الدين الإنساني، بسلوكهم وأخلاقهم ومعاملاتهم، إلى العالم، فأثاروا الاقتداء، وأغروا باعتناقه، وكانوا بسطاء على الفطرة، مسالمين، يحملون الأمن والسـلام والأخوة إلى الناس، دون أن تكون لهم شوكة، غرسوا البذور الطيبة فكان النبات الطيب والثمار الطيبة.
وعلى الرغم من امتداد الإسلام، واستمرار تلقي قيمه بالإقبال والقبول، وعلى الرغم من الصور المشوهة لتدين المسلمين وتخلفهم، وإصابة وسائل الدعوة ونشر الدين والانفتاح على الناس، وتحول العمل الإسلامي إلى طوائف وأحزاب متناحرة، وتشكيل بعض الجماعات أجساما منفصلة عن مجتمعاتها، محل الدعوة، وانسداد الأفق إلى حد بعيد، فقد يكون من المطلوب اليوم، عند الحديث عن الدعوة للإسلام في بلد ما ونشره بين أهله، أن يأتي الحديث ثمرة لدراسة مستوفية لمكونات تلك المجتمعات وقابلية أهلها وعقيدتهم، التي هم عليها وواقعهم وتاريخهم، ونصيب تلك العقيدة من حاضرهم، واختيار الوسائل الناجعة والمؤثرة، في ضوء ذلك كله، لمعرفة كيفية التعامل معهم، وتجسير الفجوة بينهم وبين الإسلام، وبذل الجهود المقدورة للتمييز بين قيم الدين وواقع التدين، بين الصورة والحقيقة، والتوقف مليا عند وسائل وأساليب من حملوا الإسلام إلى هـذه المجتمعات، ومراجعـة واسـترجاع وسائل نشر الإسلام الأولى، التي كان
[ ص: 19 ] لها الأثر في دخول تلك الشعوب والأقوام الدين، ومحاولة تجريدها من حدود الزمان وظروف المكان، والإفادة منها، وتطويرها، في ضوء المعطيات الجديدة.
ويستمر طرح السؤال الكبير، الذي لا يجوز أن يتوقف: لماذا نجح المسلمون الأوائل في الوصول إلى قلوب وعقول الناس، وأين نحن من ذلك، وأين موقعنا ووسائلنا اليوم من تلك التجارب الناجحة؟ وما هي العوائق والعثرات، التي تتلبس بـها والتي تقيم الحـواجز النفسية وتحول بين الشعوب وقيم الإسلام؟
وتبقى الحقيقة الغائبة اليوم أن أية دراسة لمجتمع من المجتمعات قد تغيب عنها المقاصد المشروعة منها، والأهداف الواضحة، التي تنعكس على وضع مناهج دقيقة وناضجة؛ فدراسة أي مجتمع، من حيث مكوناته وتاريخه وعقيدته وثقافته واهتماماته وقابلياته وأديانه، والمنابر المؤثرة في إنسانه، والمشكلات التي يعاني منها، تتطلب من القيم الجديدة، المبشر بها، أن تقدم حلولا، وتساهم بارتقاء هذا المجتمع؛ أو بمعنى آخر: أن التعرف على خارطة المجتمع الفكرية والاجتمـاعية والاقتصـادية وعاداته وثقافاته وتقاليده، ليست لتسجية الوقت أو للحصول على اللقب العلمي أو الموقع الأكاديمي، وإنما هي وسيلة للارتقاء بـ(الذات) وتنميتها واستشعارها بمسؤوليتها واستكمال مؤهلاتها، إضافة إلى وضع خطة علمية وموضوعية ودقيقة لكيفية التعامل مع هذا المجتمع، لكيفية توصيل قيم الدين لشرائحه المتعددة والمتنوعة، ماذا نقدم وماذا نؤخر، وماذا نؤجل، وكيف نختار وسائلنا، ونختبر جدواها، نقوم بمراجعات دائمة، كيف
[ ص: 20 ] نشرع قوانين للمواطنة ونبحث عن المشتركات الوطنية والثقافية لتكون وسيلة للتفاهم ومدخلا للتعارف، ونحدد الإشكاليات، التي تعترض الشراكة الوطنية، والعلاج الذي يضمن الخلاص منها، وكيف ندرس ونبحث ونكتشف ونمتلك المفاتيح الفاعلة للوصول إلى موقع العطاء المتميز للجميع؟ متأسين في ذلك برسالة النبوة، بمواقعها المتعددة ووسائلها المتنوعة.
فالدارس لقصص الأنبياء وتاريخهم مع أقوامهم ووسائلهم في الدعوة، من حيث محل العبرة والاقتداء، يبصر أن القرآن الكريم، جماع النبوة، قدم لنا خارطة فكرية عقائدية ثقافية اجتماعية اقتصادية لمجتمع النبوة، وتدرج في أخذ الناس ودلالتهم على الخير شيئا فشيئا، وتمحور حول المشكلات والإصابات، التي كان يعاني منها المجتمع، وقدم لها العلاج الملائم، واعتبر ذلك هو سبيل الخلاص.. فدراسة المجتمعات محل الدعوة، بشكل عام، والمجتمعات التي تقطنها الأقلية المسلمة، وفحص التربة الاجتماعية، التي تود أن تضع فيها بذرة الإسلام، والبيئة المحيطة بهذه البذور، وشروط رعايتها حتى تستوي على سوقها، من الأمور الأساسية التي لا بد أن تنعكس على وسائلنا في الدعوة والبلاغ المبين، والسير على بصيرة، والبعد عن الضياع والتبعثر واستعجال النتائج والحراثة في البحر وضياع الأجر والعمر.
إضافة إلى ذلك، فقد يكون من الأهمية بمكان أيضا التعرف إلى (الذات) التي سوف تضطلع بمهمة البلاغ والدعوة ومؤهلاتها المناسبة واستطاعتها وإمكاناتها وحدود تكليفها، ومن ثم وضع استراتيجية عمل تأخذ باعتبارها
[ ص: 21 ] واقع المجتمع وإمكانات (الذات) بعيدا عن التمني أو الأماني وسوء التقدير وتجاوز السنن الجارية ومن ثم القيام بمجازفات وانفجارات وممارسات عشوائية، توهما منا باختزال الزمن والقفز من فوق السنن، والعدول عن مناهج وأخلاق الدعوة إلى مكائد السياسة، قد تفقدنا ما نمتلك من إمكانات بدل أن تساهم بتوسيع إمكاناتنا وتمتين الثقة بنا.
إن الرؤية الاستراتيجية، أو الخطة الاستراتيجية للعمل، التي تنطلق من مسيرة تطبيق قيم الوحي، وتحسن اختيار موقع التأسي بدقة، وتبصر أهدافها لكل مرحلة، وتنتج الوسائل والأدوات المناسبة، وتعمل على حسن توظيف الطاقات واختيار الموقع المجدي، بحيث توضع الطاقات في محلها، والأمور في نصابها، هي السبيل لتحقيق كسب أكبر للدعوة وللمجتمعات، التي نعمل فيها، ونجتهد على إبراز محاسن الإسلام وبيان مقصده في إلحاق الرحمة بالعالمين، بعيدا عن الأنانية وحظ النفس وصناعة الزعامة المزيفة ومزاحمة الناس على الدنيا والمغالبة السياسية.
ولا شك أن لكل مجتمع مكوناته ومشكلاته وتاريخه وعقيدته وطبيعة إنسانه، وما يصلح لمكان وزمان قد لا يصلح لمجتمع آخر بالضرورة، وحدود الاستطاعة والتكليف تتفاوت من حين لآخر، ومن مجتمع لآخر.
وقد تكون الإشكالية والإصابات، التي نعاني منها اليوم هو التصرف الأعشى وحمل القوالب الجاهزة والجامدة، التي قد تصلح لمجتمع بحسب مكوناته وعمره الحضـاري والثقـافي ومشـكلاته، التي يعاني منها، إلى مجتمع آخر،
[ ص: 22 ] علما بأن معطيات تاريخ النبوة وعلاجها كان ينصب على ما يعانيه كل مجتمع، وإلا لما كان هناك حاجة لتعدد الأنبياء واختلاف أزمانهم وتقديم الحلول لمشكلات مجتمعاتهم.
ولعلنا نقول هنا: هذه الإشكالية هي الإصابة الكبرى للمسلمين في العالم (استيراد القوالب الجامدة)، وعلى الأخص في ذلك مجتمعات الأقلية المسلمة، حيث تستوطن فيها وتنتقل إليها الكثير من أمراض وإشكاليات ووسائل مجتمعات المسلمين، وكأننا نعيش عمى ألوان ونصاب بعاهة عدم التمييز، ونتوهم أن ما يصلح لمرض من الدواء يصلح لآخر، علما بأن لكل مجتمع إشكالياته وحلولها، ولكل داء دواؤه، فإذا وضعنا الدواء في غير محله من المرض ساهمنا بقتل المريض، على الرغم من أن اسمه دواء، لكنه وضع لغير دائه.
لذلك نقول: إن الابتعاث، على ما فيه من خير عميم وتمازج ثقافي وتجانس اجتماعي واكتساب خبرات ومعارف، إذا لم يتمتع صاحبه بالوعي والفطنة والذكاء والتبصر والقدرة على تجريد الرؤية الإسلامية من ظرف الزمان والمجتمع، والاجتهاد في توليدها في زمان ومجتمع آخر له ظروفه ومشكلاته الخاصة، يتحول الابتعاث من حل وطاقة إلى مشكلة ومعوق، حيث ينقل المبتعث إلى وطنه الأصلي مناهج وبرامج وفتاوى واجتهادات ومواقف مجتمع آخر غير مجتمعه، ويحاول غرس ذلك فيه؛ وفي كثير من الأحيان يكون الابتعاث جسرا لنقل المشكلات، لذلك فعندما تتعدد الابتعاثات قد تتعدد الرؤى والمذاهب والموجهات والتقاليد، وتنقلب إلى مماحكات وخلافات
[ ص: 23 ] ومواجهات، تؤدي إلى هدر للطاقات، وتبديد للإمكانات، ونقل للأمراض، وتكريس للتخلف والتراجع والتعصب والتشنج والتطرف، وحتى المواجهة، بعيدا عن الموقع المطلوب.
وقد نقول هنا: إن تاريخ النبوة وتعدد مناهج الأنبياء، وحكمة ذكر ذلك في كتاب الرسالة الخاتمة، الخـالد، القرآن، له مغزى كبير، وليس ذلك فقط وإنما نرى أن الخطاب القرآني في مجتمع مكة، الذي كانت له مشكلاته وطبيعته، هو غير الخطاب القرآني في مجتمع المدينة، ووسائل العمل في مجتمع مكة غير وسائلها وطبيعتها في مجتمع المدينة، فما بالنا بمجتمعات الأقلية، التي تعيش في وسط ثقافي وحضاري وتربوي وتعليمي، له خصائصه وطبيعته، لا بد أن يؤخذ ذلك كله بعين الاعتبار؟!
ولقد أدرك فقهاؤنا منذ وقت مبكر ذلك، فغيروا مذاهبهم وفتاواهم بتغير مجتمعاتهم وتغير مشكلات الحياة ونوازلها، وكان للأقلية المسلمة، في مجتمع الأكثرية غير المسلمة، أحكام خاصة بها، فقه خاص يتناسب مع واقعهم، ويناسب حياتهم، فأين رؤية الأقلية المسلمة اليوم من سيرة نبيها وتراث فقهائها وفقه عصرها؟
والحقيقة، التي باتت واضحة اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن موازين الأقلية والأكثرية لم تعد ثابتة؛ والقضية أصبحت تحكمها معايير جديدة ومتجـددة، فـالأمر لم يعـد يقـاس بالحجـوم، وإنـما هـو بالعطـاء:
( فقال قـائل: ومـن قلة نحن يومئذ، قـال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء [ ص: 24 ] كغثاء السيل ) (أخرجه أبو داود)، أو بالتخصص والتميز المعرفي والقدرة على العطاء؛ فكم من أكثرية لا تعدو أن تكون حزمة أرقام، وكم من الأصفار، وكم من أقلية متميزة متخصصة ومنتجة ومبدعة ونوعية، أبصرت مجتمعاتها، وأبصرت رسالتها، وتأهلت لدورها واختيار تخصصها الدقيق وموقعها في الحياة ومنبرها في المجتمع، أبصرت حاجات الأمة، وعلاج مشكلاتها، واكتشفت سنة المدافعة، عرفت أين تضع جهدها ونفسها من مسيرة المجتمع، فكان لها بذلك الأثر والتأثير وحتى القيادة وتوجيه المجتمع وتحقيق التفوق وقصب السبق، والتحكم بمسيرة المجتمع كله، وكانت لها الغلبة والتميز الحضاري
( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) (البقرة:249)!!
إن اختيار التخصصات الدقيقة وحسن بناء (الذات) وامتلاك ما يفتقده الآخرون، إضافة إلى السلوك المتميز، والإحسان إلى المجتمع، وعدم الانحياز للتكتلات السياسية والحزبية، والدوران مع الحق حيث دار، فقد تمتلك فئة قليلة تحسن اختيار دورها ترجيح كفة على أخرى، تأمل أن تحقق لها مصالحها، عندما تتساوى الكتل الحزبية، وبذلك تمتلك الزمان وتحقق مصالحها ومصالح المجتمع.
إن التحقق بخصائص وصفات مميزة، والإيثار لأفراد المجتمع، والوفاء لعهوده، واستنقاذه من أزماته، وإشعاره بحمل همومه، واللقاء معه على كلمة سواء، يجعل من الأقلية هي الرأس المفكر لجسم المجتمع.
ولعل ما ترتكز إليه الأقلية المسلمة في العالم من عقيدة الفطرة، والقيم المعصومة الثابتة والمتأتية من الوحي المعصوم، وما تتمتع به من النزوع الإنساني
[ ص: 25 ] والمجتمع المفتوح، والأمة العالمية، والتجربة الحضارية التاريخية، يؤهلها للاضطلاع بالدور الرسالي في المجتمعات جميعها، وتحويلها من مجتمعات الملحمة إلى رحاب مجتمع المرحمة.
فالأقلية المسلمة تمثل الطلائع المتقدمة وجسور التواصل لعالم المسلمين في مجتمعات غير المسلمين، فهي بذلك تتحمل مسؤولية كبرى لإعطاء الصورة الصحيحة، كما أن المسلمين في العالم مسؤولون عن دعم ومساندة هذه الطلائع المتقدمة، ورفدها بالإمكانات المادية والعلمية والثقافية.... إلخ، للارتقـاء بأدائـها، وتمـكينـها مـن امـتلاك القـدرة على تقديـم الأنمـوذج المثير للاقتداء.
إن التفكير في بناء مجتمع المعرفة المتخصصة في حاجات الأمم والمجتمعات، في إطار الأقلية المسلمة في المجتمعات غير المسلمة، بحيث يكون فيهم المحامي المتميز، والطبيب المتميز، والمهندس المتميز، والإعلامي المتميز، والمعلم المتميز، والجامعة المتميزة، والنادي المتميز، والباحث المتميز، والزعيم المؤهل، والقائد البصير، والتاجر الصادق....إلخ، سوف يجعل الحاجة إلى تلك الخبرات حاجة وضرورة اجتماعية يسعى الناس إليها، فإذا ما أضيف لها جميعا السلوك المتميز المتفرد، السليم من العاهات النفسية والاجتماعية، فسوف نجد الطريق ممهدا لتلتقي فطرة الإنسان بقيم الإسلام، والأمثلة على ذلك كثيرة:
فعدد اليهود في العالم لا يتجاوز الثلاثين مليونا، على أحسن الأحوال، وعلى الرغم من عقيدتهم العنصرية وأنهم أصحاب التميز العرقي وشدة
[ ص: 26 ] الحساسية من الأغيار والحياة في مجتمعات مغلقة، مع ذلك فهم يهيمنون على العالم ويتحكمون فيه، باقتصاده وإعلامه وأسواقه ومذاهبه ومؤسساته التعليمية...إلخ؛ والأمر لم يأت عبثا وإنما جاء ثمرة لقراءة دقيقة للواقع وللذات، ولجهود متميزة، ورؤية ثاقبة أدت إلى النزوع نحو التخصصات الدقيقة والمواقع المؤثرة، فالقضية أو الإشكالية ليست في أكثرية أو أقلية، ليست قضية أحجام -كما أسلفنا- وإنما هي قضية خبرات واختيارات وثقافات وبصارة بالمواقع المجدية وحسن استخدام الطاقات المتوفرة؛ فالسبيل الوحيد إلى ذلك التعلم والتخصص، ثم التعلم، ثم التعلم والتخصص.
لذلك، فليس عبثا أن يكون مفتاح الدين الخاتم والحضارة الإنسانية والرسالة العالمية أن يبدأ الوحي
( بـ"اقرأ ) قبل تكاليف الصوم والصلاة والحج والزكاة والجهاد وإبلاغ أركان الإيمان والإسلام، وأن يأتي القسم بالقلم، وأن يؤكد الوحي ذلك على الرغم من رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم الآني:
( ما أنا بقارئ ) وكيف أن أمين الوحي أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم وضمه إلى صدره حتى بلغ منه الجهد، حتى أجهده، ثم أرسله فقال:
( اقرأ ) وكررها ثلاثا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( فأخـذني فغـطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم ) (أخرجه البخاري)؛ ليكون ذلك الجهد والإجهاد والاجتهاد، الذي يعتبر من
[ ص: 27 ] لوازم مسيرة الشهود الحضاري العملية التعليمية، فهي سبيل النهوض والارتقاء والفلاح، يقول عليه الصلاة والسلام:
( اقرأ وارتق... ) (أخرجه الترمذي).
لكن قد تكون إشكالية التعليم والمؤسسات التعليمية، في مجال الأقليات المسلمة، تتمثل في عدم استيعاب أهداف التعليم ونوعيته ومناهجه وبرامجه ومكوناته ومراحله، فإذا كانت التربية والتعليم تتلخص في إعداد المتعلم لمجتمعه وعصره فإن المطلوب من القائمين على العملية التعليمية أن يبصروا مجتمعهم، بكل مكوناته وخصائصه وصفاته، ويحددوا الأهداف، التي لا بد للعملية التعليمية من تحقيقها في المتعلم، بحيث تأتي المناهج والبرامج استجابة لتلك البصارة، فليس من المعقول أن تصلح مناهج وبرامج مجتمع مختلف أو متخلف في خصائصه ومكوناته ومشكلاته وعمره الحضاري لمجتمع آخر!
ولقد شاهدت عجبا في بعض أسفاري وزياراتي لبعض المدارس العربية الإسلامية في أوربا، وأصابني الرعب عندما رأيت المنهاج والكتاب والأمثلة، التي تطرح على الطلبة في بعض مدن ألمانيا، هي نفس الكتب والمناهج والمعالجات، التي تدرس في بلـد عربي شـديد التخـلف، حيث لا تزال الأمية تكتسح معظم سكانه!! والشـأن نفسـه قـد يكون عندما نقدم على افتتاح جامعة أو ثانوية في آسيا وأفريقيا! نقدم على ذلك بحماس دون أن ندري بطبيعة المجتمعات وحاجاتها، وطبيعة الإعداد لها؛ ولو رغبنا بعمل تجاري لسبق ذلك دراسة للسوق واهتمام بالوضع الاقتصادي والقوة الشرائية؛ لكن هنا الأمر سهـل، حيث نستورد المناهج من جامعات إسلامية سبقتنا، وقد تكون
[ ص: 28 ] مختلفة في البيئة والإنسان والمستوى التعليمي والثقافي والمعاناة الإنسانية والإشكاليات الاجتماعية!
وعلى الرغم من تلك الإصابات كلها، والنتائج البطيئة المأمولة، القابلة للمراجعة والتصويب، يبقى السبيل التعليمي هو المخرج، وهو سبيل النهوض، فالتوجه صوب التعليم، والتوفر على إتقانه، وتأهيل القائمين عليه، وإنضاج مناهجه، ووضوح أهدافه، في ضوء حاجات المجتمع ككل، وليس الأقلية المسلمة فقط، هو الجهاد والجهد والمجاهدة الحقيقية.
وقد تكون مشكلة الأقلية المسلمة في كثير من بلدان العالم، كحال الأكثرية في بلدان العالم الإسلامي، سواء بسواء، تتمثل في غلبة الحماس على الاختصاص، والانفعال على الفعل، وسوء التقدير على إنضاج الخطط، والتطلع إلى إقامة مشاريع كثيرة وإنجازات كبيرة، وبعثرة الجهود لتغطية كل المستويات، دون الالتفات والانتباه إلى الاستطاعة مناط التكليف والتركيز على الأمور الممكنة والتوسع بحسب المتاح، حسب الإمكانات المتوفرة والظروف المحيطة، الأمر الذي يؤدي إلى مجازفات ومخاطر وخسارات وضياع وتبعثر وإحباط يطفئ الفاعلية، ويذهب الريح، ويبدد الطاقة، ويفقد التوازن والصبر وإبصار السنن الاجتماعية، ويؤدي إلى ردود فعل واندفاعات غير محسوبة في محاولة لاختزال الزمن وامتلاك القوة بالوصول إلى السلطة وتحقيق الإنجاز بأي ثمن، والدخول في معركة المغالبة على الحكم، الأمر الذي ينتهي بأصحابه إلى استباحة بعض الممارسات، التي لا يقرها شرع ولا عقل ولا دين، وتتمحض في
[ ص: 29 ] إلحاق الضرر بالمسلمين، ومحاصرتهم، والارتياب فيهم، والخوف منهم، وعزلهم عن المجتمع، ومطاردتهم، والعبث بأمنهم، وتحولهم إلى أجسام غريبة مريبة عن جسم المجتمع، الذي يعيشون فيه، وبذلك يحال بينهم وبين الناس، أساس مطالبهم ومحل دعوتهم.
وفي اعتقادي، أو على الأقل في وجهة نظري، لو أننا تأملنا ما انتهى إليه عالم المسلمين، على مختلف الأصعدة، لأصابنا الذهول، من الاستنزاف الكبير والضحايا والتضحيات الضخمة، في الأموال والأولاد والأنفس ومعاناة الجوع والخوف، ابتداء من الإغراء بالمشاركة في الجهاد بأفغانستان لدحر أعداء الله والوطن، ومرورا بحرب الخليج بكل حيثياتها، ووصولا إلى الاقتتال والفتن الكبرى، التي تمركزت في معظم بلاد العالم الإسلامي اليوم، حيث القاتل والمقتول يرفعان شعار: "الله أكبر"!! وما نراه خلال ذلك من النماذج المتميزة من التضحيات، التي يمكن أن ينتسب بعضها إلى الجيل الأول والتي ذهبت وقودا رخيصا لهذه المعارك الخطأ، وصيغت بدمائها الكثير من الحسابات الدولية والتي اجتمع لها سوء التقدير من البعض وسوء القصد من البعض (الآخر)، في محاولات ماكرة لإنهاك عالم المسلمين، وجعل بأسه بينه شديد حـتى لا تقـوم له قائمة، والإكراه المستخدم لتمويل هذه الحروب ومدها بالمال والرجال...
أقول: لو إن هذه الطاقات المتميزة، التي تضحي بروحها ومالها وضعت في مكانها الصحيح، وأنفقت هذه الأموال الضخمـة، التي طمس الله عليها،
[ ص: 30 ] لو وضعت هذه الطاقات البشرية في ميدان العلم والمعرفة والتخصص والصحة، وأنفقت عليها تلك الأموال لتأهيلها وتحضيرها ووضعها في المكان الصحيح، فكيف سيكون الحال؟!
لكن المشكلة اليوم أننا في عالم المسلمين كثيرا ما نتخذ رؤوسا جهالا فنضل الطريق السوي، ونستمر في الوقوع في سوء التقدير، كنتيجة لعدم المعرفة والاختصاص وعدم العلم، فلا نلتزم بالمعرفة
( ولا تقف ما ليس لك به علم ) ، ولا نلتزم بأخلاق المعرفة:
( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) (الإسراء:36)، وكثير منا يتجرأون ويقدمون على البت في أمور كثيرة لا علم لهم بها، وفي المقابل نرى كثيرا ممن تخصصوا وأنفقوا في ذلك أعمارهم وأموالهم تركوا تخصصاتهم، وهي ثغور مفتوحة في الجسم الإسلامي وبحاجة شديدة لهم، وذهبوا لصعود منابر لا صلة لهم بها، فضاعوا وأضاعوا.
فقد لا نعجب إذا رأينا أصحاب بعض التخصصات الدقيقة يستهويهم مناخ الفوضى والضياع، فيغادروا تخصصاتهم ليشتغلوا بما لم يعلموا، وليدللوا على تكريس الفوضى والضياع، فإلى متى تستهلكنا المعارك الخطأ، فتستنزف أموالنا وتدمر شبابنا، وتهدر طاقاتنا، وتجعلنا وسائل لتصفية الحسابات الدولية بدمائنا؟! وأكرر ما كنت قلته، ولا أزال: لو كان الأمر بيدي لاستبدلت الأقلام المتخصصة البصيرة بالأسلحة العمياء المسمومة.
والأشد خطورة من ذلك، أن بعض أفراد الأقليات المسلمة يعمل ويسعى للانفصال عن المجتمعات، والمغالبة على السلطة، والانكفاء على (الذات)،
[ ص: 31 ] تحت شعار: الاستقلال، أو تشكيل حكم ذاتي، للتميز عن الآخرين، الأمر الذي قد ينتهي، على أحسن الأحول، إلى إقامة دويلات أو كيانات تولد هزيلة، تستعدي (الآخر)، وتحاط بالشك والارتياب، وتصبح عاجزة عن التقدم، ويصبح كل همها حماية نفسها، وتحول المسلمين، في المحيط البشري الكبير، من مواطنين إلى أعداء، وتقيم الحواجز النفسية دون دعوتهم، علما بأن رسالة المسلم، سواء كان في إطار الأقلية أو الأكثرية، هي هداية الناس وإلحاق الرحمة بهم، والوصول إليهم ورفع الحواجز دون دعوتهم، والتعارف والتفاهم والتعاون وتبادل الخبرات والمعارف وبناء المشترك العام، وتقديم الأنموذج المغري بالاتباع، واستنقاذ البشرية من الشر.
فالرسول صلى الله عليه وسلم رغم كل المغريات من ملك (سلطة)، ومال (ثروة)، وزعامة (وجاهة اجتماعية)، ومتعة (لذائذ الحياة)، كان مطلبه الوحيد: "خلوا بيني وبين سائر الناس"، ونحن نقيم السدود بيننا وبين الناس، ونحاول التحول بالمسلمين إلى أجسام منفصلة، ومجتمعات معزولة عن محيطها، وجماعات وأحزاب هي أقرب للطوائف والقبائل والدويلات، وبذلك نجافي دعوة النبوة ونكسر أسلحتنا بأيدينا.
وقد يكون من المفيد هنا أن نشير إلى أن قمة التآمر على النبوة ورسالتها من المشـركين كانت في الحيـلولة بين الرسـول صلى الله عليه وسلم والناس، يقـول تعالى:
( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) (الأنفال:30).
[ ص: 32 ]
فلنعد إلى الناس، ولنفتح النوافذ جميعا، ولنحمل همومهم، ونتقدم إليهم، بقيمنا السمحة، التي تحمل الرحمة إليهم، وكلما حوصرنا نفكر كيف نفك الحصار، لا أن نرتكس فنحاصر أنفسنا بأنفسنا.
وهذا الكتاب، محاولة جادة تجتهد في تقديم خارطة كاملة ومستوفية للمجتمع التايلاندي، بكل مكوناته، بعقائده وعاداته وتقاليده، بتاريخه وحاضره، لتكون محل دراسة ومعرفة (للذات) و (الآخر) ومن ثم الإبصار للمسالك الصحيحة للمسيرة؛ وتركز الدراسة على وسائل حول دخول الإسلام، وأهمية الوجود الإسلامي، التاريخي والمستقبلي، في نهضة تايلاند وثقافتها، ومساهمة المسلمين التايلانديين في الحضارة والتاريخ التايلاندي، والدور المأمول، والإضافة الحضارية، التي يمكن أن يضطلع بها المسلمون في المجتمع، وفي مقدمتها التجسير بين الحضارة الإسلامية وعطائها الإنساني والثقافة البوذية.
ولعـل هذه الدراسة، بمقاصدها وبكل مكوناتها، تشكل دليلا لكيفية التعامل مع المجتمع، وامتلاك الرؤية والقدرة على تحديد المداخل الصحيحة لذلك التعامل، والموقع الفاعل والمناسب والمجدي، الذي يمكن أن يضطلع به مسـلـمـو تايلاند، إغنـاء للـوطن وإنـقـاذا للـمـواطـن، بحيث يمكن اعتبار هذه الدراسة، من بعض الوجوه، قياما بالتكليف الكفائي، وذلك بالنفرة، للتفقه في الدين، استجابة لقوله تعالى:
( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم [ ص: 33 ] يحذرون ) (التوبة:122)، فيكون العمل الإسلامي الدعوي على بصيرة، وفقه في الدين، متسـلحا، في الوقت نفسه، بالحذر من المخاطر والمنزلقات والكيود، التي تحيط به، فيحسن معالجتها والتعامل معها، ويرتقي بأدائه، ويدرك أن الارتقاء والجهاد إنما هو بالعلم والمعرفة، وأن المعرفة والعلم هو سبيل اعتلاء المنابر الفاعلـة والمؤثرة، وأن التخصصات المعـرفية والتميز فيها اليوم، المترافق مع خلق المعرفة، هو السبيل للتدليل على فاعلية الإسلام ودوره في بناء الإنسان، وأن الجامعة والمدرسة والمعهد والمسجد هي الربط الحقيقية، وأن التواصل الاندماج والوصول إلى الناس وإبلاغهم دين الله:
( خلوا بيني وبين سائر الناس ) (أخرجه أحمد)، هو الجهاد الكبير
( وجاهدهم به جهادا كبيرا ) (الفرقان:52)، وليس العمل الهـائج والقوة الغاضبة، التي تدفع إلى صرف التضحيات والضحايا في المعارك الخطأ، كما هو حال السواد الأعظم في عالم المسلمين اليوم، تلك المعارك والحركات، التي تحول المسلمين إلى أجسام غريبة ومنفصلة عن مجتمعاتهم، وتجعل منهم أرقاما في لعبة المغالبة السياسية، التي قد تقودهم إلى ممارسات تحاصر دعوتهم وحضارتهم، وتشكل لهم عداوات هم بغنى عنها.
بل أقول: إن الذي أبصره من مقاصد الدين ومسيرة النبوة أنه إذا حاول خصومهم استثارتـهم وإحراجهم لإخراجهم ومن ثم محاصرتهم ضمن كيانات معزولة، فما عليهم إلا التفكير بوسائل فك الحصار، والعودة إلى الناس من جديد، موطن دعوتهم ومحل رسالتهم، فذلك الجهاد، وذلك الرباط الحقيقي.
[ ص: 34 ]
لقد كان للوجود الإسلامي في المجتمع التايلاندي دور كبير، تاريخيا، لذلك لا بد أن يتمحور التفكير حول: كيف نحيي ذلك الدور؟ ولو أدركنا دورنا وطورنا وسائلنا، مقتفين أثر أجدادنا، بوسائلهم البسيطة وكيفية وصولهم إلى قلوب الناس، واستنقاذهم لهم، وتحويلهم للإسلام، لأبصرنا بعض الجوانب، التي ما تزال غائبة عن وسائلنا الدعوية، على الرغم من كثرة مؤسساتنا ومدارسنا وجـامعاتنا، نرى أنفسنا، ما نزال عاجزين عن استرداد الدور، فهل ما نزال نكرر الوسائل الخطأ، وندخل المعارك الخطأ، التي تبدد طاقاتنا، وتحاصر رسالتنا، وتصنع لنا العداوات، وتنقل لنا الأمراض، التي تشيع في عالم المسلمين، الأكثرية منهم والأقلية، وعلى أحسن الأحوال قد يأخذنا الحماس والانفعال إلى التطلع إلى مواضع متعددة، نجازف بالإقدام عليها دون استعداد وإعداد المؤهلات، فنمنى بالفشل والإخفاق وننتهي إلى شتات الأمر، ويكون على حساب ما نستطيع فعله وإتقانه.
ومن الإنصاف أن نقول: إن الدور المأمول لجامعة فطاني اليوم، بدأ يتعاظم في المجتمع الصغير والوطن الكبير، بعد أن استكملت الجامعة حواسها بإنشاء كلياتها المتعددة والمتنوعة، وكتلة خريجيها الكبيرة سنويا، التي تشكل خمائر تتنامى داخل المجتمـع، تحـاول إنقاذه والارتقاء به في جميع المجالات، فما على الجامعة إلا أن تدرك أبعاد دورها الرسالي، وأن تكون قادرة على استرداد دور فطاني في التاريخ والحضارة، وأن تنقل هذا التراث العظيم من ورائها إلى أمامها، من التاريخ إلى الحاضر والمستقبل، إنها تضطلع بدور عظيم
[ ص: 35 ] ومسؤولية كبيرة عن ترشيد المسلمين، وإعادة رسم دورهم الحضاري والإنساني في المجتمـع التايلاندي، وتخليصـهم من الانفعـال ورد الفعل وهدر الطاقات في الأمـاكن غير المجـدية، تحت عناوين وشعارات قد تخطف الأبصار وتقود إلى مجازفات غير محسوبة وتتحول لغير مصلحة الإسلام والمسلمين.
ويمكن أن نقول للقائمين على أمر الجامعة وشبكة المدارس الواسعة المرتبطـة بـها: إن رسـالتكم جـليـلة، ومهمتـكم عظيمـة، وعمـلـكم يعتبر من الصنـاعات الثقيلـة:
( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) (المزمل:5)،
( فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) (الإنسان:24)، ومثل هذا العمل العظيم، يتطلب الجهد الكامل والسهر الدائب، والتفكير المستمر، والتخطيط المبصر، ويكفيكم ذلك إذا توافرتم عليه عن الكثير من التفكير في الآفاق الأخرى، ولو كانت مشروعة وضرورية، ليتولى غيركم أمرها والاضطلاع بها، فلقد استعاذ الرسول صلى الله عليه وسلم من شتات الأمر.
ولا بد أن تدرك الجامعة والمؤسسات التربوية والتعليمية الإسلامية دورها ورسالتها، وتتوفر عليها -كما أسلفنا- فهي سبيل الخروج، فلا تبعثر طاقاتها، وتتطلـع لأكثر من مجال وموقع، وتحسن اختيار وتطوير مستمر لمناهجها لتصبح ملائمة لإنسانـها ومجتمعـها، وتعمـل على وضـع خطـة لتوطينها
( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) (البقرة:129)،
( رسولا من أنفسهم ) (آل عمران:164) إلى جانب الانفتـاح والاستـفادة من مناهج
[ ص: 36 ] عـالم المسـلمين؛ لكن شريطة أن تدرك أن لـكل بلد ظروفه ومكوناته وحاجاته ومتطلباته وعمره الحضاري والثقافي، فتكون في مستوى إسلامها وعصرها ومجتمعها.
ولعل من الأهمية بمكان التفكير الجاد بأن تفتح الجامعة أبوابها لكل المواطنين، مسلمين وغير مسلمين، ليتعرفوا على رسالة الإسلام وتعاليمه وحضارته، عن قرب، وتفكر بافتتاح فروع لها في قلب المجتمع، ولا تحاصر نفسها، وتحنط فعلها، وتنكفئ على ذاتها وتتحول كغيرها إلى جزر معزولة في وسط المحيط الإنساني الكبير، وتشارك في الوقت نفسه في بناء الرؤية العالمية وتأهيل المسلم إلى دوره العالمي والإنساني، بعد دوره الوطني، وأن تحسن توجيه وقيادة هذه الكتلة الكبيرة من الخريجين والخريجات سنويا، وتقيم لهم الروابط والندوات والمؤتمرات، لتذكر بدورهم في أمتهم، وتؤهلهم لحمل رسالة الجامعة إلى المجتمع، في مواقعه كلها.
ولقد شاركت في بعض المؤتمرات والندوات في فطاني عن "دور الدراسات الإسلامية في العصر العولمي"، الذي أقامته كلية الدراسات الإسلامية، في جامعة الأمير سونجكلا في فطاني، كما ساهمت بأوراق عمل في مواضيع متعددة، وشاركت أيضا في حوارات متنوعة مع كبار المسؤولين في الدولة والمجتمع والجامعات، وشعرت بمدى المسؤولية والتقصير، الذي نعيش فيه، وأقول هنا: على أهمية تلك المؤتمرات والندوات ودورها في تشكيل الرؤية العالمية لمسلم اليوم، وكيفية التعامل مع حقبة العولمة، وإبصار دوره فيها، إلا أني
[ ص: 37 ] تمنيت، إضـافـة إلى ذلك، لـو كانت هنـاك مؤتـمرات إسـلامية مـوازيـة عنوانـها: "دور الدراسات الإسلامية في المجتمـع التايلاندي"، يشـارك فيهـا الجميـع، ويتحاور حولها الجميع، ويقودنا في النهاية لمعرفة المجتمع التايلاندي بكل أبعاده، ومن ثم اتباع السلوك الصحيح لكيفية توصيل رسالة الإسلام للإنسان في تـايـلاند.
والحقيقـة الـتي لا تخفى أن المسلمين في تايلاند يتمتعون بفرص من الحريـة قد لا نجدها في كثير من بلاد الأقليات المسـلمة، فـكيف نفيـد من هذه الحرية، التي تعتـبر البيئة الملائمة لانتشـار قيم الإسـلام والـتي يتمثل شعارها الكبير بـ:
( لا إكراه في الدين ) ، وهـدف رسـالتها الإنسانية:
( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107)، فنفكر مليا: كيف نفيد من هذه الحرية للوصول إلى الناس، وإلحاق الرحمة بهم؟
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
[ ص: 38 ]