- أولا: التلازمية:
التربية والقانون ليسا معلقين في الهواء، بل يضمها عادة إطار اجتماعي، ويصدران غالبا عن فلسفة واحدة، كما يتحركان ويستهدفان مجتمعا بعينه. وهذا الأمر يفرض عليهما حالة من التلازم لابد منها.
وفي الإطـار الإسـلامي يبـرز هـذا النوع من التلازم على نحو قوي بحيث لا يوضع القانون إلا وهو متصل بالتربية، وذلك وفقا للحالتين الآتيتين:
أ- التلازم، مع أسبقية التربية:
إن نصوص الأحكام التشريعية كثيرا ما تـسبق بخطاب تربوي ونفسي، يتوجه إلى ضمير الإنسان وعقله ووجدانه، ويهيئه لاستقبال تلك الأحكام، ويعده لقبول ما يترتب عليها من التزامات، سواء صيغت الأحكام بشكل أوامر أو دعوات أو قيود أو نواه أو محرمات أو ممنوعات.
والحقيقة أن الإسلام قد أسس ابتداء على جملة من المعتقدات والقيم والفضائل تبناها خطابه التربوي لتكون قاعدة لحركته التغييرية.
[ ص: 31 ]
ومن المعروف أن الآيات والسور، التي نزلت في بدء الدعوة بمكة كانت تمثل برنامجا في التربية، لترسـيخ وتأصيل عقيدة التوحيد وبناء الذات والتربية على طهارة القلب وحسن السلوك والحث على تمثل القيم السامية، التي تشـمل بر الوالدين وصيانة حقوق الجار واحترام الآخرين والتخلص من نوازع الجاهلية وبعض قيمها وعاداتها السيئة، فضلا عن ذم السلوكيات المنحرفة، التي تتصادم مع الفطرة. ولم تتنزل آيات الأحكام والتشريعات التفصيلية المنظمة للمجتمع وتكوين الدولة وعلاقاتها الخارجية إلا بعد استكمال ذلكم البرنامج.
وعلى الرغم من أن ثمة فوارق زمنية بين نزول الآيات والسور التربوية والآيات والسور التشريعية، كما هو الحال بالنسبة لآيات الحدود، التي امتد بعضها إلى سنوات طويلة، إلا أن كل ما تقدم من آيات تربوية في المرحلة المكية كان بمثابة التمهيد للمرحلة المدنية التشريعية. وحتى بالنسبة للمرحلة التشريعية فإن الأحكام التحريمية كانت تتنزل على نحو متدرج، حيث تبدأ بتحريم الأفعال، التي تنفر منها الطبائع السوية، مثل القتل والسرقة والزنا وأكل أموال الناس بالباطل وغيرها من الأفعال، ثم بعد ذلك تحريم الأفعال المرتبطة بالعادات وما طبعت عليه النفوس، حتى بلوغ الحكم النهائي. وقد أشار الشـاطـبي في موافقـاته إلى هـذه المرحـلية، وذكر أن تطبيقها يمتد حتى إلى المجال السياسي
>[1] .
[ ص: 32 ] - أسبقية التربية وظاهرة التدرج في إصدار الأحكام:
إن التدرج في إصدار الأحكام الشرعية كان له بعدان: الأول يتصل بالناحية الزمنية، والثاني يتصل بنوعية الأحكام.
- التدرج الزمني:
نزل القرآن الكريم على فترات امتدت على مدى 23 عاما، وتنزلت آياته في المرحلة المكية لتركز على جملة من القيم والمبادئ المتصلة بالعقيدة والأخلاق والسلوك، وكان كل أمر جديد في مجال التكليف يمثل تقدما بالنسبة للمرحلة السابقة، ونقطة انطلاق للمرحلة اللاحقة، وأنه ليكفي أن نلاحظ تلك المجموعة من الأوامر المنفصل بعضها عن بعضها الآخر بمراحل تتفاوت طولا وقصرا وهي تنطوي على منهج تربوي بصرف النظر عن أسباب النزول، التي تفسر كل حالة على حدة.
وحسبنا أن نتخيل ما كان يمكن أن يحدث لو أن هذه الكثرة من الواجبات قد فـرضت دفعة واحدة وبصورة شاملة. أما وقد وزعت على النحو المتدرج فمن الطبيعي أن يسهل القبول بها، حتى ليزداد هذا القبول كلما مورس واجب منها، ولم يدرك الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تلك الحكمة التشريعية وهم يعترضون بالقول:
( لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ) (الفرقان:32) فترد عليهم الآية نفسها:
( كذلك لنثبت به فؤادك ) (الفرقان:32)،
( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ... ) (الإسراء:106).
[ ص: 33 ] - التدرج وفقا لنوعية الأحكام:
اقتصرت آيات المرحلة المكية غالبا على الدعوة إلى العقيدة الصحيحة، مع توجيه العقل إلى التفكير في هذا الوجود ومفرداته، والاستدلال بها على وجود الخالق وقدرته
>[2] ، وليكون الإيمان مبنيا عـلى اقتناع كامل بالـدين الجـديد، ونبـذ عبـادة أي معبـود سـوى الله، ثم الدعـوة إلى الإيمان بالرسل والمـلائكة والـكتب السمـاوية والبعث والجزاء، ولم تتعرض تلك الآيات إلى التشريعات العملية التي تنظم شؤون المجتمع. وقد كان في هذا التدرج تهيئة للأرضية المناسبة لتقبل تلك الأحكام فيما بعد.
وحث القرآن في هذه المرحلة على التخلق بمكارم الأخلاق والتمسك بالتعـاليم المنسجـمة مع الفطرة والراسخة بحكم العادة والتنشئة الاجتماعية، فيما تميزت المرحلة المدنية- حيث المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية- بنزول آيات الأحكام التشريعية مثل أحكام الحدود والنظام المالي والجهاد والعلاقات مع (الآخر) وغيرها.
والحقيقة أن هذا التدرج في نوعية الأحكام ينطوي هو الآخر على حكمة تربوية. فالتأسـيس لمنهاج حياتي جديد يقتـضي أن لا يكون التحـول إليه وإلى نظمه وتشريعاته دفعة واحدة، ذلك أن التغيير الاجتماعي لابد له من تهيئة نفسية وأخلاقية، مع تدرج يتماشى مع الطبيعة الإنسانية من جهة ويتلافى سلبيات الصدمة والتغيير المفاجئ من جهة أخرى.
[ ص: 34 ]
ومن هنـا ظهـرت بعـض "الأحـكام الوسيطـة" التي تهيئ للأحكام العامة اللاحقة، وهذا التوسط يمثل بطبيعته عملا تربويا يساعد على قبول الأحكام النهائية. فمثلا ، كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الشراب في أوعية النبيذ في أول الإسلام خوفا من أن يشرب الـمرء المسـكر من دون أن يدري، والعهـد بحرية الشراب لما يزل غير بعيد، ولكن بعد أن امتد الزمن الإسلامي واستقر حكم التحريم أبيح ذلك، ولم يكن ذلك "نسخا"، لأن النهي في الأصل كان "أمرا" مؤقتـا فرضته الضـرورة التـربوية لصيـانة الحكم القانوني في تحريم الخمر
>[3] .
ب- التربية تقترن أو تلحق بالقانون:
تتجلى حالة التلازم بين التربية والقانون في معظم آيات الأحكام، التي تتنزل في إطار عمليات البناء الاجتماعي، التي كان ينهض بها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مجتمع المدينة الآخذ بالتشكل. فمعظم آيات المرحلة تنطوي على تفاصيل الأحكام ودقائق التشريع المتصلة بمختلف الشؤون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدولية، ومقترنة في الوقت نفسه بالتوجيهات التربوية المناسبة، التي كانت تعتمد مختلف الأساليب التربوية.
والبعض الآخـر من آيات الأحـكام كثـيرا ما يعـقب بنصـوص قـرآنية ذات طابع تربوي تأكيدا لها وحثا على التقيد بها. وكثيرا ما تستعمل في هذا السياق أساليب الترغيب أو الترهيب أو أسلوب القصة أو الاعتبار بعرض أخبار السابقين، وغير ذلك من الأساليب الداعمة.
[ ص: 35 ]
والتلازم التربوي للأحكام قد يأتي ملحقا بالحكم الوارد في الآية أو السورة نفسها أو بآيات أو سور أخـر لهـا مناسباتـهـا المنفصـلة فيعـزز هـذا التـلازم أو يوضح أحيانا تلك الأحكام، أو قد يأتي أحيانا أخرى ضمن أحاديث نبوية ليؤدي الدور المعزز أو الموضح أو حتى المكمل.
والحقيقـة أن هـذا التـلازم بين التـربية والقانون يشـكل ظـاهرة فريـدة عـلى نحـو ليس له نظـير في الكثـير من نصـوص وسـرديات الآيديولـوجيات أو النظم الأخرى.