القسم الثاني
حقول العلاقة بين التربية والقانون
وآثارها في الإطار الإسلامي
- تمهيد:
بداية يجب الإقرار بأن النظم الاجتماعية المعاصرة لا تخلو من أوجه العـلاقة بين التـربية والقانون، فالالـتزام بقـوانـين المـرور أو تعـليمـات النظـافـة أو شروط الحفاظ على البيئة أو قواعد الصحة العامة عند كثير من الأوربيين مثلا هو سلوك منشأه الترابط بين التربية والقانون؛ وأن احترام الديمقراطية وقواعدها مرده التفاعل بين التربية على الديمقراطية المنتشرة في البيوت والمدارس من جهة، والقوانين التي تحكم الحياة السياسية من جهة أخرى.
غير أن هذه العلاقة في ظل النظرية الإسلامية تأخذ مدى أوسع وأعمق، فهي تلامس حقول الحياة المختلفة على نحو تتلازم فيه العلاقة وتتكامل إلى حد يمكن معه القول: إن لكل قانون مغذياته ودعائمه التربوية، كما لكل تربية ارتباطاتها القانونية.
[ ص: 87 ]
وقد تميزت أغلب النصوص القرآنية والنبوية المتضمنة للأحكام والقوانين باقترانها بمضامين وتوجيهات تربوية، على خلاف الصيغة "الكانتية" للقانون، التي تقيم الإلزامات على أساس الشكلية المحضة للقانون، فيأتي النص "افعل هذا الأمر، لأنه هكذا فرض"
>[1] .
ففي العرض القرآني لأحكام الزكاة - مثلا- نجد أن الحكم قد اقترن بالتوجيه التربوي، كما في الآية:
( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) (التوبة:103)،
( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) (البقرة:261).
وهكذا في تحريم الربا وأحكام الدين وقواعد التعامل السياسي والاقتصادي والحقوق الزوجية وغيرها من الأحكام، التي جاءت مقترنة بالتوجيهات التربوية. وإلى هذا أشار الشاطبي بقوله: "إذا ورد في القرآن الترغيب قارنه الترهيب في لواحقه وسوابقه أو قرائنه، وبالعكس، وكذلك الترجية مع التخويف". ويقول الإمام الزركشي: "وعادة القرآن العظيم إذا ذكر أحكاما ذكر بعدها وعدا ووعيدا ليكون ذلك باعثا على العمل بما سبق"، فيما يقول أبو حبان: "أنه تعالى متى ذكر شيئا من الأحكام التكليفية أعقب ذلك بشيء من القصص على سبيل الاعتياد للسامع فيحمله ذلك على الانقياد وترك العناد".
[ ص: 88 ] وكل تلك الأساليب تستهدف تهذيب النفوس وتوجيهها وحملها على الالتزام بالأحكام وتطبيقها وصيانتها من التلاعب والإهمال والمخالفة. فإذا كان التشريع تكليفا بالأحكام فالترغيب والترهيب إنما يشكل أداة إقناع بتلك الأحكام وإغراء للاستجابة لها ووعدا بنيل ثواب الالتزام بها. أو هو أداة ترهيبية وتحذير من إهمالها والتفريط فيها والوقوع في عذاب التهاون والاستهتار بها
>[2] .
وهكذا يجري التآزر بين التربية والتشريع، حيث تعضد التوجيهات التربوية بأساليبها المختلفة الأحكام التشريعية وتساعد على تطبيقها على النحو الأكثر تأثيرا وفاعلية.
لكن يجب التنبيه إلى أن توافر العلاقة العضوية الشاملة بين التربية والقانون وعلى النحو الذي تترى خلاله آليات التلازم والتعاضد والتبادل والتكامل يظل بالضرورة مرتبطا بوجود نظام إسلامي صحيح يرعى هذه العلاقة ويستهدف تقويتها ورعايتها بشكل منهجي ووفقا لرؤية اجتماعية بناءة.
[ ص: 89 ]