مقدمـة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق والمرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على هديه إلى يوم الدين، وبعد،
فقد تبين لي من خلال متابعتي للكتب الإسلامية التراثية، ولكثير من الدراسات الإسلامية المعاصرة، أهمية إفراد كتاب يتناول الظلم بمفهومه الشرعي وانعكاسات هذا المفهوم الواسع على جوانب الحياة المتنوعة على مستوى الأفراد وعلى مستوى المجتمع والدول، فمكتبتنا العربية الإسلامية بحاجة إلى كتاب ينفرد بدراسة وعرض موضوع الظلم بجوانبه المختلفة من منظور شرعي، لأهمية ذلك على صعيد العلم والحياة.
وقد اتضح لي أن معظم ما كتب في هذا الموضوع لا يخرج عن كونه شذرات أو جزئيات أو فصولا مختصرة مبعثرة ومتناثرة في بطون بعض الكتب والمجلات الإسلامية التراثية والمعاصرة، أو موجودة في الخطب والفتاوي والدروس والمحاضرات الدينية في عديد من المواقع الإلكترونية على شبكة الإنترنت، وقد وجدت أن تعميم الفائدة يقتضي ضرورة جمع أكبر قدر مما كتب عن هذا الموضوع من هذه المصادر، في كتاب مستقل، فيتناول الموضوع ويعرضه من معظم جوانبه بصورة جذابة وسهلة وميسرة، تسهل على القارئ فهم الموضوع بأبعاده وجوانبه المختلفة وإدراك مدى خطورته على الناس والحياة.
[ ص: 33 ]
لا شك أن الظلم آفة اجتماعية، ومرض عضال معد سرعان ما ينتقل عبر قنوات العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع، فاتكا بها وعاملا على تشويهها، وإذا ما دمرت شبكة العلاقات الاجتماعية في أي مجتمع فإنه يكون قد انتهى وتلاشى حتى وإن كان موجودا ظاهريا، لذلك كان لا بد من تشخيص هذا المرض وعـلاجه، ولكي نتمكن من ذلك لا بد من تسليـط الضوء عليه، في محاولة لدراسته وتحليله، على أمل أن يستفاد من ذلك في إحياء النموذج الإصلاحي الإسلامي وتفعيله على أرض الواقع في جوانب الحياة المختلفة، وهو النموذج الذي صلح به أمر الأمة في أول عهدها، ورحم الله تعالى الشاعر أبا العتاهية حين قال
>[1] :
تكدر من بعد النبي محمد عليه سلام الله ما كان صافيا ركنا إلى الدنيا الدنية بعده
وكشفت الطماع منا المساويا فكم من منار كان أوضحه لنا
ومن علم أضحى وأصبح عافيا إذا المـرء لم يلبس ثيابا من التقى
تقلب عريانـا وإن كـان كاسيا وخير خصال المرء طاعة ربـه
ولا خير فيمن كان لله عاصيا
إن تعرف الظلم بحيثياته وتفاصيله من منظور شرعي من أعظم الأمور نفعا، وأكثرها فائدة للفرد والجماعة والمجتمع، وبالذات في وقتنا الحاضر حيث استفحل ظلم العباد لأنفسهم بارتكابهم المعاصي، ما صغر منها أو كبر، وظلم
[ ص: 34 ] (الآخر) بغصب حقه وماله، أو اغتيابه واغتيال شخصه، وكذلك الشرك بالله تعالى وهو الظلم الأكبر، فهذه المعرفة لا بد أن تساهم بالضرورة في أن يستقيم أمر الدين والدنيا، وينتظم بذلك صلاح الأولى والآخرة، عبادة وسعادة.
ولما كان الظلم هو الطريق إلى استعباد الناس وغصب أموالهم وهدر وامتهان كرامتهم، وسحق الشعوب وإفقارها، وتكريس ثقافة الانحلال والميوعة، ومأسسة الفساد، وبناء مجتمعات الرذيلة والفجور، وتدمير منظومة القيم، ومحاربة الدين، وتبخيس العلم والعلماء، وتعزيز دور الكهنوت وأئمة الضلال، وإغلاق أبواب الأمل بالعيش الكريم في وجه الناس، وغض الطرف عن فساد المترفين، وتسلط المتكبرين وقرصنتهم، فإنه بهذه المعاني أضحى في مجتمعاتنا نمط من الحياة، يضطر الإنسان معه إلى أن يفني سني عمره في محاولة دفع الظلم بصوره وأشكاله عن نفسه وأهله.
لقد كان لي قبل أن أخط هذه الكلمات - مثل كثير من عباد الله - وقفات ومواقف مع الظلم بألوانه وصوره المختلفة في ميادين الحياة ومحطاتها، مواقف اكتويت فيها بنار الظلم، وتجرعت مرارته، فأورثتني هذه المواقف إحساسا مريرا بالظلم، وتحسسا مزمنا من الظلمة والظالمين، وأشياعهم وأتباعهم، ولكني رغم ذلك، وقبل أن أكيل لهؤلاء الظلمة التهم، أو أشير إليهم بأصابع الاتهام، التمست لهم عذر الجهل بهذه الآفة وأبعادها وآثارها ومدى خطورتها على الحياة، فكثير من البشر يمارس الظلم على نفسه، وعلى الآخر بصور وأشكال مختلفة دون أن يعي ذلك، ودون أن يعلم خطورة ما اقترفت
[ ص: 35 ] يداه، على الأقل من منظور شرعي، وكثير من الناس يشاهد الظلم، ويسكت عنه دون أن يعلم حرمة ذلك وخطورته، وبعض البشر يناصر الظلمة ويركن إليهم طمعا في دنيا يصيبها، أو مصلحة يقتنصها، وأيضا دون أن يدرك خطورة فعله وسلوكه، ودون أن يعلم حرمة ذلك.
إن جهل كثير من الناس بتعاليم الشرع الحنيف، وبالذات فيما يتعلق بالمعاملات، إلى جانب ضعف الوازع الديني، كانت وما زالت من أهم الأسباب التي أدت إلى استشراء آفة الظلم في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة، فغصب حقوق الآخرين، أو مشاهدة ذلك والسكوت عنه، أو مناصرة المغتصب في فعله وتأييده في ذلك، كلها آفات لا تقل خطورة عن بعضها، وهي جميعا تقع ضمن دائرة المحظور والمحرم من الناحية الشرعية.
وإذا كان الظلم الحاصل يعزى إلى الجهل أحيانا فإنه من اليسير التماس العذر لصاحبه، أما عندما يعلم الظالم بحرمة فعله وسلوكه، ويصر على ممارسته تكبرا وتجبرا، فإن ظلمه لا عذر له ولا يشفع له، لأنه ظلم المتكبرين على عباد الله والمغترين بإقبال الدنيا، أيها الظالـم، "لا تخدعن كما خدع من قبلك، فإن الذي أصبحت فيه من النعم، إنما صار إليك بموت من كان قبلك، وهو خارج من يديك بمـثـل مـا صـار إليك، فلو بقيت الدنيا للعالـم لـم تصر للجاهل، ولو بقيت للأول لم تنتقل إلى الآخر"
>[2] .
[ ص: 36 ]
إن حجم الظلم ونوعه الذي سيلحق بالإنسان سيكون بالضرورة ظلما كبيرا وقاسيا، عندما يكون متعلما مثقفا في بيئة من الجهلة والرعاع، وعندما يكون شجاعا في محيط من الجبناء، وصادقا بين زمرة من الكذابين والمحتالين والمدلسين، وهذا ما يحدث في مجتمعاتنا المعاصرة، التي ابتعدت في كثير من شؤون حياتها عن منهج الله تعالى، فساد فيها الجهل بتعاليم الدين وأحكام الشـريعة، وغيبت فيهـا القيـم والأخـلاق، وبصـورة تجعـلـنـا نشـارك الـكـواكـبي في مناشدته أمة الإسلام: "أن لا يغركم دين لا تعملون به، وإن كان خير دين، ولا تغرنكم أنفسكم بأنكم أمة خير أو خير أمة وأنتم أنتم المتواكلون المقتصرون على شعار: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونعم الشعار شعار المؤمنـين، ولكن أين هـم؟ إني لا أرى أمامي أمة تعرف حقا معنى: "لا إله إلا الله"، بل أرى أمة خبلتها عبادة الظالمين"
>[3] .
ما أصعب أن تصادر حقوقك، أو أن يمارس عليك الإقصاء والتهميش لأسباب خارجة عن إرادتك، وما أسوأ أن يغتال شخصك وشخصيتك تباع الهوى من العبيد والتافهين والمنحرفين والسوقة والجهلة والبلاطجة، وما أبشع أن يمارس عليك أي شكل من أشكال الظلم، لا لشيء وإنما لأنك تحاول أن تكون صادقا وموضوعيا في كل المواقف، لأنك تحاول أن تصون إنسانيتك من الهدر، فتبعدها عن مضارب الهوى والأنانية وتضخيم الذات وإلغاء الآخر...لأنك ببساطة تحاول أن تكون إنسانا، بكل ما في الكلمة من معنى.
[ ص: 37 ]
لا شك أن الكثير منا ذاق طعم الظلم ووقع عليه بعضه، وكان عليه أن يتقبله، لا استسلاما وضعفا، وإنما انسجاما وتماشيا مع الواقع واعترافا به، هذا الواقع المرير الذي يمتلئ بأشكال الظلم وصوره البشعة، التي تعد أساسا يمكن أن ننطلق من خلاله لتعرية وفضح ممارسات الظالمين، الذين يجب أن لا ندع ظلمهم يتحكم بنا، أو يسوسنا ويقرر اتجاه سيرنا ومصيرنا، فلا مسوغ للظلم مهما كانت صورته وقل أثره.
لقد جاءت هذه الدراسة في مقدمة وستة فصول،
عرض الفصل الأول لمفهوم الظلم على الصعيدين اللغوي والشرعي، واستعرض الفصل الثاني الظلم بوصفه فعلا وعلاقة وسلوكا من منظور الشرع الحنيف، وعالج الفصل الثالث ثلاثية القوة والترف والظلم، بينما ركز الفصل الرابع على العلاقات الاجتماعية والظلم، وعرض الفصل الخامس لسسيولوجيا الظلم، بينما استعرض الفصل السادس بعض ثنائيات الظلم.
اللهم طال الانتظار ووقع اليأس، اللهم سير سلعة الوفاء فقد كسد سوقها، وأصلح قلوب الناس فقد فسد مكنونـها، ولا تمتنا حتى ينزع الجهل كما نزع العقل، وأمت اللهم النقص كما مات العلم
>[4] .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[ ص: 38 ]