- القوة والترف:
يعني الترف، امتلاك أهم أنواع القوة، وهما قوة المال والسلطان، لذلك يربط السياق القرآني بين الترف والظلم في أكثر من موضع في الكتاب العزيز، علما بأن مفهوم الترف لم يرد في القرآن الكريم إلا مقرونا بالقبيح من الصفات، كالكفر والفسق والظلم، وكما تبين الآيات التالية
>[1] :
-
( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) (الإسراء:16).
-
( وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ) (المؤمنون:33).
[ ص: 106 ]
-
( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ) (سبأ:34).
-
( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال *
في سموم وحميم *
وظل من يحموم *
لا بارد ولا كريم *
إنهم كانوا قبل ذلك مترفين *
وكانوا يصرون على الحنث العظيم ) (الواقعة:41-46).
-
( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين *
فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون ) (الأنبياء:11-12).
فالمـتـرف شخـص اكتسـب نفـوذا اقتـصـاديا واجتـمـاعيا في بيئته، بسبب امتلاكه قوة المال أو السلطان، وهو من خلال هذا الجاه والنفوذ يتصرف في الآخرين وما يملكون بطريقة منافية للأخلاق، إنه الظالم والطاغية والمتكبر والجبار، إنه قارون زمانه بكل الرمزية، التي أضفاها القرآن الكريم على هذه الشخصية
>[2] .
يشكل المترفون في بيئاتهم الاجتماعية جماعة أو جماعات ذات روابط اقتصادية وعاطفية، متضامنة في تعدياتها على بقية السكان، من خلال الاستيلاء والسيطرة على جميع الوسائل الاقتصادية، واحتكار وحبس الأرزاق وجل وسائل المعاش، بمعنى أن هذه الفئة تمارس الانحطاط الأخلاقي المقترن بالانحطاط الاقتصادي والسياسي، فهم مبذرون ومكتنزون، وفي كلتا الحالتين
[ ص: 107 ] هم ظلمة متسلطون، يجسدون حال القوى الفرعونية والقيصرية والكسروية والإمبريالية، التي اعتمدت وما زالت تعتمد على القوة المادية الصرفة، في كل جوانب حياتها، وقد جاء الإسلام الحنيف بفكره وقوته الروحية الطاغية يتحدى هذه القوى ويحمل عليها ويقف في وجهها
>[3] .
يقدم القرآن الكريم الترف القائم على الاستحواذ على حقوق الناس تعديا، كسبب رئيس للظلم، يقول المولى عز وجل:
( واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ) (هود:116).
وهؤلاء سواء أكانوا أفرادا أم جماعات أو دولا هم من اهتموا بجمع واحتكار كل أسباب القوة وأشكالها من عدد وعدة ومال وعلم لغصب حقوق العباد، وذلك من أجل التنعم بالحياة والانغماس في شهواتها، ومارسوا مزيدا من الاعتداء والقرصنة على حقوق الآخرين، وأخذوها دون أي وجه حق للمحافظة على مكتسباتهم، متسلحين بأسباب قوتهم، وهذا يعني أن الظلم يقـع في معظمـه من أهـل النفوذ والقـوة المتـرفين، وهـذا ما يشير إليه العلامة ابن خلدون في مقدمته حين يقول: "ولأن الظلم يقع غالبا من أهل القدرة والقوة والسـلطان، فقـد شدد الشرع الحنيف في ذمه، وكرر فيه الوعيد لمن يرتكبه، لخـلق وازع دينـي في نفس القـادر عليه لمنعه من ذلك"
>[4] ، وفي ذلك قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه:
[ ص: 108 ] لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا فالظلم مرتعه يفضي إلى الندم تنام عـينك والمظلـوم منتبـه
يدعـو عليك وعيـن الله لـم تنم
قضت سنة الله تعالى أن تكون الفئات المترفة بتوجهاتها المادية وعلاقاتها النفعية المصلحية، وحبها للرياسة والسيادة، أحد أهم أصول البغي، والسبب في انتشار الظلم وتفشي الفساد بأشكاله المختلفة في المجتمعات الإنسانية عموما، يقول المولى عز وجل:
( الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد ) (إبراهيم:3).
وبتدقيق النظر نجد أن هذه الفئات نفسها، التي اغترت بما أنعم الله عليها من أسباب القوة، قد وقفت حجر عثرة في طريق دعوات الهداية والعودة إلى طريق الله المستقيم، التي قادها في الماضي الأنبياء والرسل، عليهم أفضل الصلاة والسلام، وما زالت هذه الفئات حتى وقتنا الحاضر- إلا من رحم الله تعالى- تعرقل عمليات الإصلاح وحركات مكافحة الظلم والفساد، التي يقودها المصلحون في بقاع الأرض شتى، يقول المولى عز وجل:
( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون *
وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ) (سبأ:34-35).
[ ص: 109 ]
والظلمة من أهل الترف في المجتمعات الإنسانية هم صناع الفسق والفجور والضلال، وهم مجلبة لسخط الله تعالى وعذابه وتدميره:
( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) (الإسراء:16).
والظلمة المترفون في المجتمعات الإنسانية هم شيع وجماعات متعددة ومختلفة في أعدادها وأهدافها، ولكنها تتفق جميعا على ضرورة محاربة الإصلاح والأخلاق وعلى رأسها العدل؛ لأنه يعطل مصالحها، ويوقف استغلالها وغصبها لحقوق الآخرين، وكلما ازداد عدد هذه الجماعات، استفحل الظلم أكثر في المجتمع، وتمزقت شبكة علاقاته الاجتماعية وازدادت أحوال الناس سوءا لحساب هذه الجماعات، وهذه الفئات ذليلة في نفسها بحبها للدنيا، وذليلة للآخرين بسعيها لمتاع الدنيا الفانية من شهوات وملذات، وإن ظهرت بعكس ذلك، يقول زيد بن زين العابدين بن الحسين، وكان شجاعا زاهدا: "ما أحب أحد الحياة إلا ذل"
>[5] .
ويشير ابن خلدون إلى أن الترف يقود إلى فساد الأخلاق، الذي يفضي إلى فساد العمران ودماره، فالمترفون يقبلون على أنواع الظلم والفسوق بعد أن تكون حياة الترف والحضارة قد أفسدت أخلاقهم، وفي مرحلة لاحقة يتصارع الخلق بسبب عدم قدرتهم على تحمل الظلم وكل الموبقات والمنكرات الممارسة، فيهلك عموم المجتمع
>[6] .
[ ص: 110 ]