الفصل الرابع
العلاقات الاجتماعية والظلم
- مقدمة:
تتحدد مكانة الإنسان في المجتمع بمقدار الفائدة التي تعود على الناس من عمله، وأسلوب علاقته بالآخرين، فعلاقة الإنسان مع الله تعالى التي يجسدها الدين، هي أصل الحياة، وأساس الخلق وغايته، وهي تقوم على الإيمان بالله تعالى وتوحيده في الأسماء والصفـات، والإقرار له بالربوبية والعبودية، والعمل بما أمر، والابتعاد عما نهى، وعكس ذلك هو الشرك بالله تعالى، وهذا هو الظلم الأكبر والأعظم.
وعلاقة الإنسان مع الآخر ومع نفسه، تنبثق بكل مضامينها وأنماط سلوكها من العلاقة الأولى، التي هي الأصل، فالدين والأخلاق هما مناط التحكم في نمط ومحتوى العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان، والإنسان وبقية الكائنات الأخرى، وعلاقة الإنسان مع الله تعالى هي التي تشكل جوهر علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر، حيث يدخل الدين كمكون رئيس في بنية وتركيب المنظومة الاجتماعية في صورة قيم أخلاقية، تشكل المكون الرئيس للعلاقات الاجتماعية فيه، سـواء أكان ذلك على صعيد العرف أو العادات أو التقاليد أو القواعد والمبادئ الإدارية والتشريعية المعمول بها.
[ ص: 119 ]
تتشكل علاقة الفرد بالآخر من خلال طاقته الحيوية، وفي صورة مجموعة من الدوائر الاجتماعية المتدرجة من الأقرب إلى الأبعد، فهناك دائرة الزوجة والأبناء، ثم دائرة الأقارب، فدائرة الجيران والأصدقاء، وأخيرا دائرة المعارف والبيئة الطبيعية بكل معطياتها
>[1] .
تقرر شبكة العلاقات الاجتماعية في أي مجتمع تنظيمه وهندسته الداخلية، وهذا التنظيم الداخلي يعتمد بالدرجة الأولى على الطاقة الحيوية المكتنزة في الجسم الاجتماعي وهي التي تتولد عنها حركة المجتمع؛ وحركة المجتمع من حيث كمها، ونوعها، وأسباب إنتاجها، واتجاهاتها، هي التي يعتمد ويقوم عليها التنظيم الداخلي للمجتمع
>[2] .
كذلك تشكل شبكة العلاقات الاجتماعية شخصية المجتمع، وتبلور رسالته، وتضبط وتنظم مصادر ومسارات الطاقة الحيوية فيه، بصورة تمكن المجتمع من تأدية دوره وألوان نشاطه بصورة تمكنه من تحقيق مقاصده المنشودة
>[3] .
كانت المؤاخاة أول عمل قام به النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد مجيئه إلى المدينة وبناء المسجد النبوي، وذلك ليكرس في النفوس أن العلاقة بين الإنسان والإنسان في
[ ص: 120 ] المجتمـع الجـديد هي عـلاقـة أخوة، فـلا سـادة وعبيـد، ولا أشراف وسوقة، ولا أقوياء وضعفاء، ولا أغنياء وفقراء، ولا طبقية أو فئوية أو طائفية أو عصبية، بل الجميع إخوة الدين والعقيدة
>[4] .
وهنا نؤكد بأنه لا يمكن فصل علاقة الإنسان بالله تعالى عن علاقاته مع (نفسه) ومع (الآخر)، فهذه العلاقات تشكل شبكة علاقات ثلاثية الأبعاد، تتكامل مع بعضها، فكلما التزم الإنسان بتعاليم الشرع الحنيف وطبقها قولا وفعلا، توثقت عرى العلاقة مع (النفس) ومع (الآخر)، والعكس صحيح، فالفقـير في المجتمـع المسـلم، مثلا، لا يرجـو من الغني المسـاعدة ولا الرحمة، وإنما يلتمس منه العدل، وأن لا يظلمه فيمنعه حقه الذي فرضه الشرع:
( والذين في أموالهم حق معلوم *
للسائل والمحروم ) (المعارج:24-25).
وإذا كانت الشريعة تسعى إلى تنظيم العلاقة بين الإنسان وخالقه وتوثيقها عن طريق الالتزام بما أمر والابتعاد عما نهى، فإنها بذلك تعمل بصورة مباشرة على تنظيم علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر وتمتينها من خلال المعـامـلات، علـما بأن ذلك لا يتـأتى إلا بوسـاطـة الالتزام بضـوابـط الشريعة وتعاليمها السمحة، ومن ثم حفظ حقوق الآخرين المادية والمعنوية ومراعاة مشاعرهم وأحاسيسهم، فالدين المعاملة، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده
>[5] .
[ ص: 121 ]
وعموما، تعكس شبكة العلاقات الاجتماعية، بأبعادها الثلاثة مجتمعة، المفهوم الشامل للعبادة في الإسلام والماهية الأساسية للحياة الإنسانية في المجتمع المسلم، وذلك مصداقا لقوله تعالى:
( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56)، والعبادة بمفهومها الشامل ما هي إلا مسار يسلـكه الإنسـان والمجتمع لتحقيق الهدف الأساسي للحياة وهو عبادة المولى عز وجل، مجسدة بمعاني عمارة الأرض والاستخلاف فيها، وبالتالي فإن قدرة أي مجتمع على النهوض والتقدم أو النكوص والتقهقر ترتبط بشكل أساسي بشكل وجوهر العلاقات الاجتماعية فيه.