1- الأفكار:
ترتبط حياة المجتمع بكل خصائصه ووظائفه بمنظومة أفكاره وثقافته، التي هي رأسماله، فأي تغيير يطرأ على هذه الأفكار ينعكس بالضرورة على جميع
[ ص: 123 ] السمات الاجتماعية في هذا المجتمع وفق سيكولوجيا: "لكل مثير استجابة"، وهذه الحقيقة تؤكد أن الأفكار في أي مجتمع ما هي إلا وسيلة من وسائل تطوره، وعملية تطور المجتمع بمراحلها المختلفة هي بالضرورة انعكاس لعملية تطوره الفكرية، وأي تطور يصيب الأفكار، سلبا أو إيجابا، في المجتمع يؤثر بصورة مباشرة في الأشخاص والأشياء فيه، فالمنظومة الفكرية إما أن تعمل على تقدم المجتمع ونهوضه، أو تؤدي إلى سكونه وأحيانا تقهقره، علما بأن غنى المجتمع، أي مجتمع، لا يقاس بمقدار ما يملكه من أشياء، وإنما بمقدار مخزونه، وما يتولد فيه من أفكار
>[1] .
عنـدما تتـكاثف العـلاقات الاجتـمـاعية في المجتـمـع حـول الأفـكار، ولا تتعارض هذه الأفكار مع الطبيعة والفطرة الإنسانية، تكون "قادرة على ترجمة القيم واستحضار المرجعيات، وتجسيدها في واقع الناس، من خلال الإمكانات المتاحة، والظروف المحيطة، وامتلاك الخصوبة والقدرة على إبداع أوعية التعامل معها، وامتلاك القدرة على تجريدها من ظروف الزمان والمكان والأشخـاص، والقـدرة على توليدها في كل زمان ومكان وتجمع بشري، بحسب إمكاناته وظروفه"
>[2] ، تكون شبـكة العـلاقات الاجتماعية فيه في
[ ص: 124 ] أفضل حالتها، وكذلك الشخصية العامة للمجتمع، ويكاد الظلم ينعدم ويتلاشى في مثل هذه المجتمعات.
فمثلا عملت فكرة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" بكل مضامينها الفكرية، وقيمها ومبادئها، التي تمحورت حولها شبكة العلاقات الاجتماعية في المجتمع المسلم الأول، على بناء مجتمع إنساني عز نظيره في التاريخ على كل الصعد
>[3] ، فقد عززت هذه الفكرة الدينية وما يدور في فلكها من قيم ومبادئ قوة "الأنا العليا" في شخصية هذا المجتمع، فترسخت سيطرة هذه الأنا على الشخصية الاجتماعية الكلية، وتراجع واختزل دور وتأثير الأشخاص والأشياء في هذا المجال، وكان للمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وفق تعاليم الدين السمحة، دور كبير في تشكيل البنيان المرصوص، الذي تجسد في المجتمع بشبكة من العلاقات الاجتماعية الأفقية القوية والمتينة، التي يكون فيها الجميع متساوين كأسنان المشط، وتخلو من أي نوع من الفراغ الاجتماعي، الذي ينجم عادة عن ضعف أو غياب العلاقة الدينية، وقد تأسست العلاقات بين الأفراد والجماعات في هذا المجتمع على أساس العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، وكان معيار المفاضلة بين الأشخاص هو التقوى فقط ولا شيء غـير ذلك:
( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (الحجرات:13)، وفي
[ ص: 125 ] الحـديث الشـريف:
( لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى ) >[4] .
لذلك تسيد الحياة الاجتماعية في المجتمع الإسلامي الأول وفي كل جوانبها، منظومات من القيم والمثل والمبادئ الفكرية والضوابط العلمية والأخلاقية، التي وجهت سلوك الأفراد فيه، وارتبط الجانب الروحي مع الجانب الفكري والاجتماعي، بل أصبح المكون الروحي يشكل جوهر الحياة الاجتماعية بشكل عام، وأصبحت المبادئ والأخلاق هي عنوان المرحلة، فسادت قيم تبجيل الدين والعلم، وانتشرت قيم العدالة، واحترام (الذات)، واحترام (الآخر)، والإيثار، والمساواة، وتكافؤ الفرص، والموضوعية، وتقدير قيم العمل والإنتاج والإنجاز.. إلخ، وخضعت مسؤولية تولي المناصب بكل مستوياتها لمعيار الكفاءة الدينية والعلمية، ودار صناع القرار والحكام في فلك العلماء وليس العكس، وقاد المجتمع في كل جوانب حياته أكثر القوم أهلية وقدرة وعلما، وهكذا سما المجتمع، فتقدم وانطلق نحو آفاق الحضارة، ومع كل خطوة للأمام ازدادت قوته واشتد عوده، فانتصر المجتمع، وحقق مقاصده في نشر الدعوة إلى الله تعالى، وبسط نفوذه ما بين الأندلس غربا والصين شرقا.
ولن يصلح واقع الأمة الإسلامية المعاصر إلا بما صلح به مجتمع الإسلام الأول في عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين الأربعة، وبالتالي، فإن
[ ص: 126 ] التنكر للفكرة الإسلامية وثقافتها وإقصائها وتهميشها، واستيراد الأفكار البديلة من ثقافات وحضارات أخرى، لن يجدي نفعا في بناء المجتمع الإسلامي المعاصر المنشود "في ضوء الاستقراء الحضاري للمعادلات الاجتماعية ومشاريع النهوض التاريخية على مستوى (الذات) و (الآخر)"
>[5] ، وهذا لا يعني أبدا الوقوف في وجه التبادل المعرفي والثقافي مع الحضارات والثقافات الأخرى
>[6] .