- طرف ضعيف:
وهـذا الطرف لا يمـلك أي شكل من أشكال القوة، ويعرف بالجهول أو التابع، ويعيش باستمرار حالة من الخضوع والإذعان واستمراء الظلم، وهذه حالة "سيكولوجية" تتشكل في الشخصية الإنسانية بفعل التربية والثقافة، التي تم معايشتها في الأسرة والمدرسة والمجتمع، وهذه الشخصية ذات نزعة "مازوشية" تعيش حالة من المعاناة الدائمة، لأنها تتلذذ بالضعف، وتعجب بقوة الآخرين، وترغب بسيطرتهم، تحب الاستعباد والقهر، فهي تعيش الظاهرة الاستسلامية بكل أبعادها
>[1] ، وهذا الوضع هو نتاج الجهل وغياب العلم والوعي، فالدين يرفض الخضوع والإذعان لشيء فوق العقل
>[2] .
قد تكون هذه الحالة من منظور "سيكولوجي" سمة ظاهرة وملموسة في الشخصية، وقد تكون كامنة، ولكنها قابلة للظهور في أي موقف.. وعموما يغلب على شخصية الجهول الانهزامية والاعتمادية، وهذه السمات هي تكريس لكل معاني الرضوخ والذل والاستسلام.
تدفـع حـال الجهـلـة والمستضعفـين هـذه للقـول: "إنه لأمر جلل حقا، وإن انتشر انتشارا ادعى إلى الألم منه إلى العجب، أن نرى الملايين من البشر يخدمون في بؤس، وقد غلت أعناقهم دون أن ترغمهم على ذلك قوة كبرى، بل هم فيما يبدو قد سحرهم وأخذ بألبابهم مجرد الاسم، الذي ينفرد به
[ ص: 146 ] البعض، كان أولى بهم ألا يخشوا جبروته، فليس معه غيره، ولا أن يعشقوا صفاته، فما يرون منه إلا خلوه من الإنسانية ووحشيته، إن ضعفنا نحن البشر كثيرا ما يفرض علينا طاعة القوة، ونحن محتاجون إلى وضع الرجاء في الإرجاء ما دمنا لا نملك دائما أن نكون الأقوى"
>[3] .
تتسم شخصية الجهول، أو التابع، بعقدتي النقص والعار، أما عقدة النقص فهي حالة تسيطر فيها على الشخصية الإنسانية صفات: العجز، والاتكالية، والإحساس بالدونية، والاعتباط، وإحساس دائم بالخوف والتهديد من كل شيء، والاستسلام والهروب وعدم القدرة على المجابهة، وانعدام الثقة بالنفس، والاغتراب ورفض كل جديد والتمسك بالقديم.
أما عقدة العار فهي حالة تميز الشخصية التابعة، وتضفي عليها صفات: الخجل من الذات، الإحساس بالعار عند كل فشل، والحرص على عدم افتضاح عجزه واتكاليته، والانبهار بالمظاهر والتستر خلفها، والإحساس بالكرامة المهددة، وعدم الاتزان
>[4] .
تستشري ثقافة الجهـل والاستـسـلام هـذه، التي تقوم على أرضية "نفذ ثم ناقش" من خلال "الانغلاق الأسري، والبيروقراطية المدرسية، والتعليم التلقيني، والعوز المادي، ومتطلبات المجتمع الاستهلاكي، والطموح الشخصي الجامح، والرغبة في الصعود السريع على السلم الاجتماعي، ومشاهد البؤس،
[ ص: 147 ] وقصص الحالمين المحبطين، وعسكر الأمن المركزي، والسلطة التي لا تحترم القانون... إلخ"
>[5] .
تزين ثقافة الجهل للإنسان شيم الخضوع والخنوع بوصفهما الطريق الوحيد للبقاء والعيش بسلام في المجتمع، ولكي يتحقق له ذلك، فلا بد له من سيد يحميه، ويدافع عنه، ويفتح له سبل العيش في مقابل الخضوع له ولأوامره، وتنـفـيـذها دون اعتراض أو نـقـاش، وهـكذا تـولـد وتتـشـكل مجتمعـات الظـلم والعبودية
>[6] .
تكون الشهوات هي شغل الجهول الشاغل، ويكون التلون، والتزلف، والنفاق من أهم شيمه، فهو يسبح بحمد أي ظلوم أو سيد احتل موقع المسؤولية، بغض النظر من هو، ويعرض عليه خدماته مباشرة بعد توليه منصبه، فإذا وافقه على نفاقه حمل له المباخر، وإلا تحول إلى معارض له يشهر به، ويغتال شخصه بالنميمة، والكذب والافتراء
>[7] .
يحسد الجهول الظلوم على ما يقدمه له من فتات النعم، وقد صور ذلك الشاعر المتنبي أروع تصوير بقوله:
وأظلم أهل الأرض من بات حاسدا لمن بات في نعمائه يتقلب
تقوم بين الظلوم والجهول، أو السيد والتابع علاقة مادية منفعية غير متكافئة ولا متوازنة، بحيث يقدم الظلوم للجهول فرص الحصول على وظيفة،
[ ص: 148 ] أو مساعدة مالية، أو منحة، أو بعثة دراسية، أو تمكينه للوصول إلى أي مصدر من مصادر القوة، ليلبي حاجه أو يشبع رغبة، في الوقت الذي يقدم فيه التابع للسيد الولاء والمساندة في كل المناسبات وعند الحاجة.
تعتبر هذه العلاقة من منظور "سيكولوجي" علاقة "سادومازوشية"، يلعب الطرف القوي فيها دور السادي أو العدواني، نظرا لظلمه واستبداده وقسوته، بينما الطرف الآخر "مازوشي" ضعيف، و"المازوشية" هنا من النوع المعنوي الذي يجعل صاحبه يعيش حالة دائمة من المعاناة المادية والمعنوية
>[8] ، وتجدر الإشارة إلى أن أكثر الفئات، التي يقع عليها الظلم في المجتمعات، التي يسيطر فيها هذا النمط من العلاقات هم: المستضعفون والفقراء والنساء والأطفال، يقول تعالى:
( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ) (النساء:75).
تـؤدي علاقة الظلوم والجهول عندما تسود في مجتمع ما إلى تفككه، بفعـل عمـليات التهميـش والإذلال والإقصـاء، الـتي تتولد جراء هذا النمط من العلاقات الاجتماعية، وهذه الحزمة من صور الظلم تؤدي إلى زعزعة وتفتيت العلاقات المجتمعية في جوانب الحياة المختلفة، من اجتماع واقتصاد وسياسة وثقافة.
[ ص: 149 ]
ينجم عن توطن علاقة الظلوم والجهول في مجتمع ما ردات فعل مختلفة، بعضها يتمثل في إنتاج حالات وأشكال مختلفة من التطرف والعنف المجتمعي، الذي يفضي إلى مزيد من الظلم والتفكك، والبعض الآخر من ردات الفعل هذه يعيد إنتاج آليات بؤس تعمل على تغييب التوزيع العادل للثروة العامة، بحيث تصبح قطاعات عريضة من الجماهير المستضعفة أسرى لحاجاتها المادية، وتضعف هذه الآليات من المشاركة الشعبية الحقيقية في عملية صنع القرار، وبالتالي تنعدم ثقافة الحوار، وتختفي قيم الندية، والمساواة، والكرامة، والعمل الشريف، والاحترام، والتضامن، والتسامح بين الناس..الخ، وتحل محلها قيم التعصب، والتشدد، ورفض التغيير، والانعزالية، والتطرف، واستخدام العنف كآلية لحل الخلافات والنزاعات...الخ، فيستشري الظلم في المجتمع
>[9] .