- ثنائية المركز والهامش:
تعرف ثنائية المركز والهامش أحيانا بثنائية القلب والأطراف، والعلاقة القائمة بين طرفي هـذه الثنائية هي عـلاقة تبعية، حيث تتبع الهوامش للمركز أو تتبع الأطراف للقلب، وقد كان "راؤول بريبش" أول من استخدم مصطلح المركز والهامش على مستوى العالم، حيث وجد في دراسته لعلاقة التبادل التجاري بين الشمال والجنوب أو الدول الصناعية والدول النامية، أن حالة التخلف والإفقار في دول العالم النامي ترتبط بأنواع ثلاثة من التبعية للعالم الصناعي هي:
- التبعية الاستعمارية.
- التبعية المالية - الصناعية.
- التبعية التكنولوجية الصناعية.
وتذهب نظرية الإمبريالية البنيوية، التي وضعها الاقتصادي السويدي "يوهان كالتونج" الأستاذ في المعهد الدولي لأبحاث السلام في استوكهولم، إلى التأكيد بأن السبب الرئيس للامساواة في توزيع الموارد بين الدول الصناعية والدول النامية ناجم بالدرجة الأولى عن حالة من التسلط والهيمنة والاستغلال، التي تمارسها الدول الصناعية أو المركز على الدول النامية أو الهامش، وأطلقت النظرية على أوضاع التسلط والهيمنة والاستغلال هذه مفهوم الإمبريالية
>[1] .
[ ص: 166 ]
والإمبريالية هي آلية يتم من خلالها تقسيم الدولة الواحدة إلى مركز وهامش (حضر - ريف)، أو تقسيم دول العالم إلى مركز وهامش (دول صناعية- دول نامية) وهذه الأطراف، سواء أكان ذلك على مستوى الدولة الواحدة أم على مستوى العالم، تختلف في مصالحها، ويبلغ الخلاف المصلحي بينها أشده، حيث تظهر العلاقة المتبادلة بينهما فارقا كبيرا في مستويات دخول الأفراد ومستويات معيشتهم، الأمر الذي يؤدي إلى استمرار هذه الفجوة واتساعها.
وإمبريالية المركز عند "كالتونج" على مستوى العالم، تتمثل في حزمة من آليات الاستغلال والهيمنة والتسلط، وفي عدة جوانب هي
>[2] :
- الإمبريالية السياسية والإدارية، وتتمثل في أن المركز هو الذي يصنع القرارات الاقتصادية والسياسية والثقافية في الوقت الذي يقتصر فيه دور الهامش على الالتزام بهذه القرارات فقط.
- الإمبريالية الصناعية - التكنولوجية، حيث تتركز جميع وسائل الاتصالات ومصادر المعلومات في المركز.
- الإمبريالية الثقافية، وتعني أن يكون المركز وحده هو مصدر التحديث والتجديد.
أما على مستوى الدولة الواحدة، فتقوم فكرة المركز والهامش على أن التنمية في دولة ما ترتبط بالظروف والخصائص الطبيعية والتاريخية لهذه الدولة ولأقاليمها، حيث تؤدي الحركة الحرة للقوى الاقتصادية والاجتماعية إلى زيادة الفوارق واللامساواة المكانية بأنواعها المختلفة بين المركز، الذي تمثله عادة
[ ص: 167 ] المدينة الأولى أو العاصمة، والهامش الذي تمثله الأرياف، ويحدث ذلك من خلال "ميكانزم" الهيمنة والتبعية.
فضعف القوى الشرائية في الأرياف نتيجة انخفاض مستويات دخل السكان، وانخفاض الهامش الربحي للمشروعات المختلفة، وعجز الاقتصاد الريفي عن توفير فرص عمل دائمة وبدخول جيدة، وتدني مستوى الخدمات العامة وخدمات البنية التحتية، وانتشار وسيادة العقلية التقليدية، التي ترفض التحديث والتجديد ولا تقبله بسهولة، كل هذه العوامل مجتمعة تعمل على غسل مقدرات الهوامش أو الأرياف لصالح المدن، حيث تتوافر التسهيلات الاقتصادية، وخدمات البنية التحتية، والخدمات العامة بنوعية جيدة، وترتفع مستويات الدخل، ومستويات المعيشة للسكان والأيدي العاملة، مع وجود إمكانية تحقيق هامش ربحي كبير للمشاريع الاقتصادية المختلفة، فتهاجر الأيدي العاملة المتعلمة، والفنية ورأس المال، والمنتجات الزراعية من المناطق الريفية (الهامش) إلى المدينة (المركز)
>[3] .
ويتزايد عدد سكان المركز نتيجة هيمنته على الهامش، فهو يقوم بغسل مقدرات الهامش من سكان وأيدي عاملة لحسابه، فيزداد الطلب فيه على المنتجات الزراعية والمواد الأولية، التي تنتج في الهامش، ولكي يتم إشباع حاجات المركز المتزايدة من هذه المواد، يتم تزويد الهوامش بتقنيات زراعية جديدة، تساعد في زيادة وتطوير وتحسين وزيادة الإنتاج الزراعي، وذلك من
[ ص: 168 ] أجل إشباع الطلب المتزايد على هذه المنتجات في المركز، الأمر الذي يؤدي إلى استفحال اللامساواة المكانية، وبروز ازدواجية اقتصادية واضحة عند المقارنة بين اقتصاد المركز واقتصاد الهامش، فاقتصاد المركز صناعي قوي وحديث متطور، واقتصاد الهامش زراعي ضعيف وتقليدي متهالك.
تستمر عملية غسل مقدرات الهامش بهذا الشكل لصالح المركز، ويستمر تدفق الأيدي العاملة ورؤوس الأموال والمواد الأولية، مما يؤدي إلى نمو المركز واتساع أسواقه على حساب الهامش، الأمر الذي يعمل تعظيم الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين طرفي المعادلة، فتزداد قوة المركز وهيمنته على الهامش، وكذلك تزداد تبعية الهامش للمركز.
وتجدر الإشارة إلى أنه لا يمكن فصل علاقات التبعية والهيمنة بين الريف كهامش والمدن كمركز داخل الدولة الواحدة عن علاقات التبعية والهيمنة على مستوى العالم، فالريف هامش للمدينة، التي هي مركز في الدولة النامية، لكن المدينة في الدول النامية هي في نفس الوقت هامش للدولة الصناعية، التي هي مركز على مستوى كوكب الأرض، وما ينطبق على الدول، ينطبق على الأفراد والسكان.
فعلاقات الهيمنة بين الدول النامية من جهة والصناعية من جهة أخرى، تعكس في حيثياتها علاقات الهيمنة بين سكانهما، فالفئات المسحوقة في قاعدة الهرم الاجتماعي في الدول النامية، تخضع وتتبع للفئات ذات النفوذ في المستويات العليا من الهرم الاجتماعي، وهذه بدورها ترتبط وتخضع للمستعمر الخارجي أو للرأسمالي في الدول الصناعية أو الدول الغربية بشكل عام، وبالتالي
[ ص: 169 ] فعلاقات الخضوع والهيمنة المولدة للظلم بكل أشكاله تسود ليس فقط على مستوى الدولة، بل وأيضا على المستوى الدولي، وعليه فالظلم في هذه الحالة ليس فقط مشكلة محلية أو قطرية بل هو أيضا مشكلة دولية وعالمية، فإذا كان التابع يشعر ويتملكه إحساس بالدونية تجاه سيده على المستوى المحلي (علاقات هيمنة داخلية)، فإن السيد يتملكه الإحساس بالدونية نفسها تجاه الأوروبي أو الغربي أو الرأسمالي (علاقات هيمنة خارجية)، وهكذا تقود آليات الاستغلال والتبعية والهيمنة إلى عولمة الظلم.
على صعيد آخر، يرى البعض أن الصراع في دول العالم النامي لم يعد يأخذ شكل الصراع الطبقي بين العمال ورأس المال، أو بين المصالح الأجنبية والمصالح الوطنية، بل أصبح صراعا بين سكان الريف وسكان المدن
>[4] ، حيث يعكس رصد الموارد داخل كل من المدينة والقرية وبينهما أولوية حضرية أكثر مما يركز على المساواة أو الفاعلية، بمعنى أن الموازنات الحكومية وعوائد التنمية يتم توزيعها بين الأرياف والمدن بدون إنصاف، حتى في القطاعات، التي تستهدف الفقراء أنفسهم مثل قطاعات التعليم والصحة، وهذا بدوره يقودنا إلى القول: إن السياسات التنموية الحكومية هي نفسها التي تحول وتعيق دون تدفق الآثار التنموية من المدينة باتجاه الريف، وإن حدث ذلك يكون محدودا، ويصب غالبا في صالح المدينة، الأمر الذي يؤدي باستمرار إلى تعظيم المزايا الاقتصادية في المدن وعلى حساب الأرياف، وهذه اللامساواة المكانية، هي
[ ص: 170 ] ظلم قبيح لقطاعات عريضة من السكان، هي الأكثر حاجة لعوائد النمو والتنمية، لكي يتوفر لها الحد الأدنى من العيش الكريم.
إن تركز السلطة وأدواتها ومؤسساتها في العاصمة، وطبيعة الهياكل الإدارية الهرمية، وغياب الحريات السياسية، وضعف المشاركة الجماهيرية في التخطيط وتنفيذ الخطط التنموية، لا يؤدي فقط إلى زيادة اللامساواة والفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين المناطق الحضرية والريفية، وإنما يعمل على إشاعة جو من الإحباط لدى سكان الريف، إن كثيرا من الاستثمارات، يمكن أن تحقق أرباحا طائلة، لو قدر لها أن تستثمر في الريف، ورغم ذلك يتم استثمارها في المدن، والسبب في هذا التحيز الحضري هي مصالح النخب والمتنفذين وصناع القرار، سواء أكانوا سياسيين أم رجال أعمال، والذين يتحكمون بدورهم ومن خلال مواقعهم في توزيع ورصد الموارد، وخصوصا الحـكومية منها، إن النخـب الحضـرية لا تتمتع بالسلـطـة الاقتصـادية فقط، بل وتمتاز بـتـرابطـها وتنظيمـها وتحـالفها مع بعضها، لذلك فإن المدن سرعان ما تتحقق رغباتـها وحاجاتـها، وتـهمل حاجات سكان الأرياف، التي تستمر في انتظار تساقط رذاذ التنمية وعوائدها..
إن سكان الأرياف في معظم دول العالم النامي أكثر من سكان المدن، ولكنهم غير منظمين أو مؤطرين سياسيا، إلى جانب أنهم فقراء، وهذا يجعلهم عديمي التأثير، على الأقل على صعيد القرارات التنموية، لذلك فإنهم يهاجرون إلى المدن للاستفادة من فرص العمل هناك، والحصول على دخول جيدة، دون أن يحاولوا أن يوظفوا ويستثمروا هذه الدخول أو مدخراتهم في مواطنهم الريفية
[ ص: 171 ] الأصلية، بل على العكس من ذلك يسعون إلى تحسين مستويات حياتهم بشراء الكثير من السلع الكمالية ذات المصدر المديني، فيتكدس رأس المال في المدن دون الأرياف، ويبقى سكان الأرياف يكابدون الفقر والحاجة.
لقد أدى الظلم على مستوى العالم، ممثلا بإمبريالية المركز (الدول الصناعية) إلى استشراء كثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وبالذات في الدول النامية، وفي الأرياف بشكل خاص، فبالرغم من أن العالم أنتج عام 1985م نحو 500 كغم لكل فرد من الحبوب والمحاصيل، إلا أن نحو 730 مليون إنسان ما زالوا لا يحصلون على الغذاء الكامل الكافي، الذي يضمن لهم حياة صحية وسليمة، معظمهم من سكان الهوامش (الدول النامية)، وسكان الأرياف بالتحديد
>[5] .
ويقدر البنك الدولي أن حوالي 1,3 بليون إنسان يعيشون في فقر مدقع وبدخـل لا يتجـاوز الـدولار أو أقـل يوميا، معظمهم من سكان الهوامش أو الأرياف
>[6] .
وفي الوقت الذي يفتقر فيه نحو 1500 مليون نسمة إلى الخدمات التعليمية في الهوامش (الدول النامية)، فإن هناك 800 مليون أمي، ونحو 250 مليونا محرومين من التعليم، وحوالي 1300 مليون إنسان يقل دخلهم السنوي عن 90 دولارا، وقرابة 1300 مليون إنسان ليس لديهم مأوى لائق
>[7] .
[ ص: 172 ]
وقد لوحظ أنه منذ عام 1960م كلما اغتنى الهامش (العالم الثالث) بدولار واحد اغتنى المركز (الدول الصناعية) بحوالي 300 دولار، الأمر الذي أدى إلى تزايد الفارق في الدخل بينهما خلال الفترة 1960- 1990 بنحو 250%
>[8] .
ويكاد الدخل القومي الياباني يعادل الدخل القومي لجميع سكان الدول الناميـة البالغ عـددهم 3,8 بليون نسمة، علما بأن عدد سـكان اليابان لا يتجاوز 120 مليون نسمة، وتركزت في الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي واليابان نحو 95% من إجمالي تمويل أسواق الأسهم العالمية، وتساهم بقية دول العالم بـ 5% فقط، وفقا لما تقوله هيئة التمويل الدولية، في حين بلغت ديون أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا النامية نحو 1,365 تريليون دولار مع نهاية عام 1990م
>[9] .
وقد لوحظ أيضا أن دخل الفرد في بعض البلاد الصناعية يصل إلى أكثر من 250 ضعف دخل الفرد في بعض البلاد النامية، ويستهلك المواطن الأمريـكي من الطـاقة ما يمـاثل استـهـلاك ثلاثة يابـانيين أو ستة مكسيكيين أو 13 صينيا أو 35 هنديا أو 135 بنغاليا أو 499 أثيوبيا، ويبلغ ما ينفق على تسليح الجنود 70 ضعف ما ينفق على تعليم الأطفال، وهناك 30 مليون إنسان يموتون سنويا من الجوع
>[10] .
[ ص: 173 ]
وفي الوقت الذي ينفق فيه العالم نحو مليون دولار كل دقيقة على التسلح، فإنه يمكن بثمن صاروخ واحد من الصـواريخ العابرة للقارات، تزويد ما مجموعه 50 مليون طفل من جوعى قارتي آسيا وإفريقيا بالغذاء، أو يمكن بالثمن نفسه تشييد 65 ألف مركز طبي، أو بناء 34 ألف مدرسة ابتدائية، ويمكن بثمن غواصة نووية إنشاء 40 ألف مسكن شعبي، ويمكن بثمن طائرة قاذفة نووية بناء 75 مستشفى سعة الواحد منها مائة سرير
>[11] .
إن هذا الظلم وهذه اللامساواة في توزيع عوائد النمو والتنمية بين الدول على مستوى الكرة الأرضية، وعلى مستوى الأقاليم داخل الدولة الواحدة، وبين القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، تشكل المعضلة الاقتصادية والاجتماعية الأساسية، التي تواجه العالم، خصوصا أن آليات السوق لا يعول عليها في إيجاد مساواة في توزيع الموارد
>[12] .
إن مما يؤسف له أن جهود التنمية في عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية في كثير من دول العالم، لم تقم على أساس تحسين الظروف المعيشية لعامة الناس العاديين، بل قامت من أجل تحقيق معدلات نمو مرتفعة في الناتج القومي الإجمالي، بغض النظر عن محتوى وتركيب وتوزيع هذا الناتج مكانيا وطبقيا، الأمر الذي أدى إلى استئثار فئة قليلة من السكان بثمار هذا النمو،
[ ص: 174 ] في الوقت الـذي ترك فيـه غالبية السكان في كثير من بقاع الأرض يعيشون على هـامش التقدم وخارج دائرة التنمية
>[13] ، وهذا ما يؤكده "توماس كاريل" في مقولته: "وفي هذه اللحظات التي نشهد فيها رقيا عظيما يؤسفني أن أقول: إن تسعة أعشار الإنسانية مضطرة لخوض أحط معركة حيوانية بل وحشية خاضها الإنسان في تاريخه، وهي المعركة ضد الجوع وما يعانيه من استغلال شره ومظالم فاحشة"
>[14] ، (الجدول رقم 2).
الجدول رقم (2) الإنفاق العسكري مقارنة بالإنفاق على التعليم والصحة في العالم لعام 1996م المنطقة متوسط الإنفاق العسكري لكل جندي متوسط الإنفاق في التعليم لكل طالب متوسط الإنفاق على الصحة لكل فرد العالم 31480 899 230 الدول الصناعية 123544 7675 1376 الدول النامية 9094 143 22
المصدر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية 2001م.
[ ص: 175 ]
إن اللامساوة في توزيع عوائد النمو والتنمية ظلم وخطر كبير يهدد الإنسانية، لأنه كما يقـول "رينه ماهـو" المـدير العـام السـابق لليونسكو: "إذا كان للإنسانية قدرة لا محدودة على المعاناة من تجربة قاسية في الفقر وجهد مفرط من شدة احتماله، فإنه لا يمكن التسامح عندما يتعلق الأمر باللامساواة"
>[15] ، لذلك فإن الاعتراض على الوضع الحالي أمر ضروري من وجهة نظر أخلاقية وإنسانية، وذلك لدفع البشرية لتصحيح ما يلاحظ بين بلاد العـالـم من تفـاوت ولامسـاواة في مستويات الحياة والعمل على إيجاد ما ينبغي من توازن
>[16] .
ممـا تقـدم يمكن القـول: إن ثنائية المـركز والهـامش هي صورة كبيرة للظلـم الاقتصـادي والاجتمـاعي على مستـوى الدولـة الواحـدة والعالـم، وهذه الثنائية لا تعكس حالة الظلم واللامساواة فقط بل تعمل على إنتاجهما بصور وأشكال مختلفة، وبالتالي فهي ثنائية مولدة للظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
[ ص: 176 ]