مقدمة
>[1]
الحمـد لله، رب العـالمين، وبه نستعـين؛ ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين.
وبعد:
فهذه مجموعة من الأفكار والاجتهادات ووجهات النظر مستلة بكثير من الاختصار من دراسة أكاديمية، بعنوان "ضوابط التفاعل الحضاري، ووسائله، وآثاره التربوية"، تقدم بها الباحث إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، في العام الجامعي 1430-1431هـ، للحصول على درجة الماجستير، في التربية الإسلامية.
وتكتسب الدراسة أهميتها كونها تصدر في ظل حالة التخلف والتراجع الحضاري، التي تسود كثيرا من المجتمعات المسلمة، والانبهار بمعطيات الحضارة الغربية، وما تردد من دعوات للتفاعل والتحاور معها والأخذ والاستفادة منها، وما نشأ من تباين في الآراء واختلاف في المواقف إزاء ذلك، حيث انقسم الناس بعمومهم إلى أربعة أقسام
>[2] :
[ ص: 23 ]
قسم آثر أن يغلق النوافذ والأبواب دون هذه الحضارة الوافدة، واعتبر أن كل ما جاء فيها أو جاء عنها شرا وفسادا وإفسادا.
وقسم كان على النقيض تماما، فلم يكتف بفتح النوافذ والأبواب أمام حضارة الغرب، وإنما أغلق النوافذ والأبواب دون حضارته وتراثه ودينه.
وقسم أخذ يصوغ لنفسه من حضارته الإسلامية ومن حضارة الغرب شيئا جديدا، يجمع بينهما، ويلفق بين معطيات الحضارتين، فجاء الترقيع مشوها للأصل، ومسيئا للدخيل.
وقسم كان وسطا بين هذه المذاهب، فآثر الاستفادة من الغرب على حذر، حتى لا يقع فيما لا يتماشى مع ثوابته وقيمه الدينية، التي يتعبد ويتدين بها.
وكان لذلك كله انعكاساته، السلبية والإيجابية أيضا، على الجانب التربوي، كما كان له تأثيراته في التربية العقدية والعلمية والخلقية وغير ذلك من جوانب التربية الإسلامية؛ مثلما كان للتربية الإسلامية، في المقابل، تأثيرها كذلك في تلك المذاهب، تصحيحا وتنقية وتقويما.
ومنهج التربية الإسلامية، بشكل عام، لا يمنع المسلم من الاستفادة من غيره، فيما يتعلق بأمور معاشه ودنياه، بل جعل من الاتصال بالآخر والتفاعل معه والتغلغل في حضاراته وسيلة من وسائل التبليغ والتأثير والإقناع بالشرع الحنيف، تعمل جنبا إلى جنب مع الوسائل الأخرى.
فالإسلام عندما جاء، دينا سماويا، وجد مجتمعات قائمة، لها خصوصياتها الثقافية والفكرية، فأبقى ما كان صالحا مما ليس فيه إفساد للعقيدة أو إخلال
[ ص: 24 ] بالقيم، وأقر ما كان متفقا عليه من مكارم الأخلاق وحميد الصفات، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) (أخرجه مالك في الموطأ)، وفي رواية:
( صالح الأخلاق ) (أخرجه الإمام أحمد).
وقد اهتم كثير من علماء المسلمين بالدعوة للتفاعل مع الحضارات الأخرى، ونقل العلوم المفيدة وترجمتها، وفق مجموعة من الضوابط والقيود الشرعية، التي تحصن وتحكم وتسدد، وتكون في علاقتها مع عملية التفاعل الحضاري كالشرط مع المشروط والدليل مع المدلول، ويعلم، بداهة وعقلا، أن المشروط متوقف على شرطه، وأن المدلول مبني على دليله، لذلك فإن التفاعل الحضاري متوقف على ضوابطه الشرعية والتربوية، وجودا وعدما.
وتتأكد أهمية التفاعل الحضاري، في التربية الإسلامية، بالنظر إلى أنه يشكل الأداة الرئيسة للتواصل الإنساني والوسيلة الأساس لتبادل المنافع والمعارف بين الأمم، في سبيل بناء الفرد ونمائه وازدهاره، علميا، وفكريا، وخلقيا، واجتماعيا، ونفسيا، واقتصاديا، وعسكريا، مع مراعاة القواعد والمبادئ المستمدة من الكتاب والسنة والتي تستلزم تطهير التفاعل الحضاري، وتنقيحه من الشوائب، وتنقيته من المخالفات والشطحات، وكل ما يعكر صفوه.
ومن ثم جاءت الدراسة للنظر والتفكير والتأمل في عملية التفاعل الحضاري بين العالمين، الإسلامي والغربي، والوقوف على الأساليب التربوية لتفعيلها، والبحث والتنقيب والتحديد لضوابطها، الشرعية والتربوية، وبيان
[ ص: 25 ] الآثار، الإيجابية والسلبية، التي تترتب عليها، في أكثر من مجال، خاصة المجال الاعتقادي، والعلمي، والاجتماعي.
وهي بذلك تعتبر محاولة للإسهام في عملية التأصيل للتربية الحضارية في الإسلام، ونافذة يمكن من خلالها الإطلالة على بعض أهم الوسائل لنقل المعارف والخبرات من أمة إلى أمة، ومن حضارة إلى أخرى.
وتتمحور الدراسة حول الإجابة عن مجموعة من التساؤلات، الرئيسة والفرعية، التي تدور حول: مفهوم التفاعل الحضاري، وآثاره التربوية، وضوابطه، الشرعية والتربوية، التي تحول دون فتح الباب على مصراعيه بالإفراط أو التفريط في توظيف مجالات التفاعل؛ ذلك أن أي إخلال أو تجاوز لهذه الضوابط يؤدي إلى نتائج وخيمة كفساد العقيدة والأخلاق، وتخلف الأمة عن ركب الحضارة، والتقول على الله بغير علم، إلى غير ذلك من الآثار المترتبة على عدم مراعاة هذه الضوابط.
ولما كانت طبيعة الموضوعات في الأساس هي التي تحدد منهج البحث، فقد اعتمد الباحث على المنهج الوصفي القائم على الاستقراء والتتبع لما يتعلق بهذا الموضوع من أجل الحصول على نتائج علمية.
نسأل الله التوفيق والسداد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[ ص: 26 ]