ثانيا: موقف منهج التربية الإسلامية من التفاعل الإيجابي:
لما كان التفاعل الحضاري يندرج في إطار المعاملات والعادات، وأن الأصل فيه الإباحة،لم يكن من شأن الوحي منعه ومحاربته، وإنما أباحه ووجهه الوجهة الصحيحة، التي تتوافق مع مبادئ الشرع الحنيف.. ولما كانت هناك
[ ص: 41 ] أشياء كثيرة مشتركة بين الحضارات جميعا -سببها اشتراك الناس في حاجات معينة: كالملبس، والمسكن، والمطعم، وأدوات التحسين والترفيه، وأدوات القتال، ووسائل المواصلات والاتصال، إلى غير ذلك من أشياء مشتركة بين بني آدم كلهم- فتح المنهج الإسلامي باب الاستفادة من الحضارات الأخرى، بشروط وضوابط، وقد انعكس ذلك على منهج التعامل مع هذه الحضارات، فحدد لذلك معايير وضوابط تضبط المسلك التعاملي مع الإنتاج الحضاري للأمم.
ويعتبر العلم الدنيوي من هذا الصنف، الذي يشترك فيه جميع الناس ويتداولونه "في الأمصار تحصيلا وتعليما، وهو على صنفين: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره، وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه.
والأول هي العـلوم الحـكمية الفـلسفـية، وهـي التي يمـكن أن يقـف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها حتى يقفه نظره ويحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر. والثاني: هي العلوم النقلية"
>[1] .
والعلوم العقلية، التي "هي طبيعية للإنسان، من حيث إنه ذو فكر، فهي غير مختصة بملة، بل يوجه النظر فيها إلى أهل الملل كلهم، ويستوون في مداركها ومباحثها، وهي موجودة في النوع الإنساني منذ كان عمران الخليقة"
>[2] .
[ ص: 42 ]
والإسلام أفسح للناس مجالات الابتكار والتفاعل في أمور الدنيا، مراعاة لغرائزهم واستجابة لدوافعهم النفسية، فالإسلام ليس دينا يكبت الغرائز، ويكبح جماح الدوافع، وإنما هو دين يقر دافع حب الاستطلاع، والاستفادة من (الغير)، وجميع الغرائز والدوافع البشرية، ما لم يكن في ذلك مخالفة للشرع الحنيف.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم ) >[3] .
قال النووي
>[4] : "قال العلماء: سبب همه صلى الله عليه وسلم بالنهي عنها أنه يخاف منه ضرر الولد الرضيع، قالوا: والأطباء يقولون: إن ذلك اللبن داء، والعرب تكرهه وتتقيه، وفي الحديث جواز الغيلة، فإنه لم ينه عنها، وبين سبب ترك النهي"
>[5] .
وقال الشنقيطي: "وقد هم صلى الله عليه وسلم بأن يمنع وطء النساء المراضع خوفا على أولادهن؛ لأن العرب كانوا يظنون أن الغيلة- وهي وطء المرضع- تضعف ولدها وتضره.. فأخـبرته صلى الله عليه وسلم فارس والروم بأنـهم يفعـلون ذلك ولا يضر أولادهم، فأخذ صلى الله عليه وسلم منهم تلك الخطة الطبية، ولم يمنعه من ذلك أن أصلها من الكفار"
>[6] .
[ ص: 43 ]
وفي قصـة الهـجـرة، تروي السيدة عائشة، رضي الله عنها: "استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل هـاديا خريتا وهـو على دين كفار قريش"
>[7] .
يقول ابن القيم
>[8] في تعليقه على هذا الحديث: "فاستئجار النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط الديلي هاديا في وقت الهجرة وهو كافر، دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطب والكحل والأدوية والكتابة والحساب والعيوب ونحـوها، ما لـم يكن ولاية تتضمن عدالة، ولا يلزم من كونه كافرا ألا يوثق به في شيء أصلا، فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق لاسيما في مثل طريق الهجرة"
>[9] .
ويؤكد الشنقيطي أن النبي صلى الله عليه وسلم "انتفع بدلالة أبي الأريقط الدؤلي في سفر الهجرة على الطريق مع أنه كافر، فاتضح من هذا الدليل أن الموقف الطبيعي للإسلام والمسلمين من الحضارة الغربية هو: أن يجتهدوا في تحصيل ما أنتجته من النواحي المادية، ويحذروا مما جنته من التمرد على خالق الكون جل وعلا، فتصلح لهم الدنيا والآخرة"
>[10] .
[ ص: 44 ]
وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء الأسرى من المشركين أن يعلموا فريقا من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، فقد روى ابن عباس، رضي الله عنهما،
( أن ناسا "من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة ) >[11] .
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ير حرجا في أن يتعلم أبناء المسلمين هذا النوع من العلم على أيدي المشركين، ولم ير صلى الله عليه وسلم غضاضة في ذلك، ما دام ليس في الأمر مخالفة شرعية؛ إذ الكفر ليس مانعا من استفادة المسلم من الكافر فيما يتعلق بأمور الدنيا، وقد أشار القرآن الكريم إلى أن الكفار عندهم علم ودراية بأمور الدنيا، قال تعالى:
( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) (الروم: 7)، "أي أكثر النـاس لـيـس لـهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها، فهـم حـذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون عما ينفعهم في الدار الآخرة، كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة... والله لبلغ من أحدهم بدنياه أن يقلب الدرهم على ظفره، فيخبرك بوزنه، وما يحسن أن يصلي. وقال ابن عباس: يعرفون عمران الدنيا، وهم في أمر الدين جهال"
>[12] .
[ ص: 45 ]
قال ابن تيمية
>[13] : "... أخذ علم الطب من كتبهم مثل الاستدلال بالكافر على الطريق واستطبابه، بل هذا أحسن، لأن كتبهم لم يكتبوها لمعين من المسلمين حتى تدخل فيها الخيانة، وليس هناك حاجة إلى أحد منهم بالخيانة، بل هي مجرد انتفاع بآثارهم كالملابس والمساكن والمزارع والسلاح ونحو ذلك"
>[14] .
بل إن السلف، رحمهم الله، بينوا خطأ من يرد كل العلوم والأخبار، التي تأتي من قبل الفلاسفة والملاحدة، فهذا ابن القيم، بعدما نقد موقف، الذين تقبلوا النظريات الفلسفية، عاد إلى الذين أنكروا هذه العلوم ورفضوها رفضا باتا دون تمييز الصحيح من السقيم، فبين خطأهم، ونقدهم بقوله: "والطائفة الثانية رأت مقابلة هؤلاء برد كل ما قالوه من حق وباطل، وظنوا أن ضرورة تصديق الرسل رد ما علمه هؤلاء بالعقل الضروري وعلموا مقدماته بالحس، فنازعوهم فيه، وتعرضوا لإبطاله بمقدمات جدلية لا تغني من الحق شيئا...... وضرر الدين وما جاءت به الرسل بهؤلاء من أعظم الضرر، وهو كضرره بأولئك الملاحدة، فهما ضرران على الدين، ضرر من يطعن فيه، وضرر من ينصره بغير طريقه"
>[15] .
[ ص: 46 ]
وعد شيخ الإسـلام ابن تيمية، رحمه الله، رفض ما صـح مـن الفلسفـة في علـم الفلك والحسـاب ونحـوه، من البدع المستحدثة، فقال، رحمه الله: "ومن بدع المتكلمين ردهم ما صح من الفلسفة، وكذلك ما يعلم بالمشاهدة والحساب الصحيح من أحوال الفلك، علم صحيح لا يدفع؛ والأفلاك مستديرة ليست مضلعة، ومن قال: إنها مضلعة أو جوز ذلك من أهل الكلام، فـهـو وأمثـالـه ممن يرد على الفـلاسفة وغيرهم ما قالوه من علم صحيح معقول، مع كونه موافقا للمشروع، وهذا من بدع أهل الكلام الذي ذمه السلف وعابوه"
>[16] .
والخلاصة، أن العلم الصحيـح لا يخالف الدين، وليس في حقائق الدين ما يعارض العلم الصحيح، ولهذا فليس الاستفادة من غير المسلمين، وتفاعل المسلم مع ما عندهم من العلم الصحيح، المبني على التجريب والمشاهدة، محظورا في منهج التربية الإسلامية، وإنما هو جائز من حيث العموم، لكنه مقيد بضـوابطـه وشروطـه، التي تمنـع إدخـال التفاعل الحضاري الجائز ما ليس منه مما هو مخالف لروح الإسلام وتعاليمه.
وبالتالي، فإن الموقف السلوكي لمنهج التربية الإسلامية تجاه التفاعل الحضاري يكون بما يأتي:
[ ص: 47 ]
1- جواز الاقتباس من الحضارات الأخرى فيما هو نافع وجائز شرعا.
2- غرس حدود وضوابط التفاعل الحضاري في نفوس الأجيال.
3- العناية بالتفكير الموضوعي عند الأخذ من الحضارات الأخرى، وتنمية الوعي بذلك، حتى تتكون لدى الناشئة القدرة على الموازنة بين الصالح والطالح، والنافع والضار.
4- تفعيل دور التربية الوقائية في تحصين الناشئة من الفساد الاعتقادي والخلقي القادم من الحضارات الأخرى.