أ - التطرف والتطرف الديني:
يعـني التـطرف في اللغـة: انتـحـاء أطـراف الأشـيـاء، مـكانا أو زمـانا أو أجساما، ميلا عن أواسطها، وقد جـاء في حـديث عذاب القبر أن أحد أصـحـاب القبرين اللذين مر بـهـمـا الرسول صلى الله عليه وسلم وأخـبـر بأنـهـمـا يعذبان
[ ص: 21 ] إنما يعذب لأنه "كان لا يتطرف من البول"
>[1] أي لا يبتعد إلى أطراف المكان الذي يكون فيه من أجل التبول.
ومجـاراة لهـذا المعنى اللغوي ربما أصبح التطرف يطلق على الذهاب في عالم الأفكار إلى ما فيه مبالغة غير معهودة عند الناس، فيكون القائل بـها والمتبني إياها كأنما قد ذهب إلى أقصـى ما يمـكن أن يحتمله موضوعها من المعـاني، فيوصف إذن بأنه متطرف على هذا المعـنى. وقد أصبح مصطلح التطرف الديني يطلق على هذا المعنى حينما يتعلق الأمر بالمعتقدات أو بالممارسـات الدينية، فيوصف المتدين بهـذا الوصـف إذا ما ذهب في معتقـداته أو في مسالكه إلى أقصـاها في اتجاه المغالاة والتشدد.
وقد ورد في القرآن والسنة توصيف لهذه الحال التي يكون عليها المتدين، ولـكن لـم يرد تعبـير عنـها بالتطرف، وإنما استعمل لفظ آخر هو "الغلو في الدين"، وذلك كمـا في قولـه تعالى:
( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله ) (النساء:171)، وهو مأخوذ من الغلو في الأمر بمعـنى تجاوز الحد المألوف فيه، فيكون الغـلو في الدين معـناه "أن يظهر المتـدين ما يفـوت الحد الذي حـدد له الدين"
>[2] .
[ ص: 22 ] وقد عبر الحديث الشريف عن ذات المعنى بالتنطع، وهو ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم في من غالى في التدين:
( هلك المتنطعون ) >[3] ، وهم المغالون في الدين، المبالغون، المتشددون فيه
>[4] .
وبناء على ذلك يمكن أن نستعير المدلول القرآني والحديثي كما جاء دالا عـلـيـه لـفـظ الغـلـو والتنـطـع لنـجـعـلـه مـدلـولا للـتـطرف، فـنـقـول: إن التطرف الديني يطلق على ما يعتقده إنسان ما من تصورات أو ما يمارسه من أعمـال على أنها دين يتـدين به، متجاوزا ما حدده الدين من حـدود، أو متـحريا فيها ما هو الأقسى والأشد إذا كانت الدلالات تحتمل من المعاني الأيسـر والأسهـل. فـكل مـن تدين بمـا يـتـجـاوز التـحـديـدات الدينية للمعتقدات والأعمـال السـلوكية فهو متطرف، وكل من تحرى من الدين ما هو الأشد وجعله هو الدين في حق نفسه بله في حق غيره فهو متطرف أيضا.
والتطرف الديني في نطاق هذا المعنى الذي حددناه قد يكون درجات متفاوتة بعضها أشد من بعض. وأخف الدرجات هي أن يقف التدين الذي يتـدين به المتطرف عنـد حـد كونه فهما خاصا للدين اقتنع هو به، ولكنه لا يحجر على غيره أن يفهم الدين فهما آخر فيتدين به، ويعذره في فهمه
[ ص: 23 ] وتدينه، وذلك على قاعدة أن تدينه هو صواب يحتمل الخطأ وتدين غيره المخالف لتدينه خطأ يحتمل الصواب، فهذا التطرف تكون آثاره السلبية محدودة تكاد لا تتجاوز ما يسببه الفهم الخاطئ للدين من عطالة في التفاعل الاجتماعي للفرد المتطرف بهذا المعنى، إذ كل خلل في التدين الفردي ينشأ عنـه خـلل في العطـاء الاجتماعي للمتدين، وهو ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم :
( إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ) >[5] .
وقد ينتقـل التطرف إلى درجة أعلى، وهي أن يكون المتطرف متشبثا بتدينه على أنه هو التدين الحق الذي لا يحتمـل الخطـأ، وأن تدين غيره هو البـاطـل الذي لا يحتمـل الصـواب، ولكن مع ذلك يبقى المتطرف مكتفيا في يقينه بذلك في حدود ذاته غير داع إليه أو مبشر به. وهذه الدرجة أخطر من الأولى لأنها تهيئ في نفس المتطرف للاعتقاد بأن الدين الحق هو ما هو عليه، وأن ما عـلـيه الآخـرون ليـس بديـن، وهـذا ما قـد ينتـهـي إلى
[ ص: 24 ] الاعتقـاد بكفران هـؤلاء الآخرين أو على الأقل الاعتقـاد بضلالهم وفسقـهم. ومهما يكن من أن ذلك قد يبقى حبيس النفس إلا أنه تكون له آثار ضـارة؛ وذلك لأن المتطرف في هذه الدرجة سوف تكون معاملته لسائر المجتمع ممن هم على غير تدينه معاملة سيئة سواء من حيث التواصـل النفسـي أو مـن حيث التعـامـل السـلوكي، وقد يحدث ذلك منه عن وعي أو عن غير وعي.
والدرجـة الثـالـثـة مـن التطرف هي تلك التي لا يكتفي فيها المتطرف بأن يـحبـس قنـاعـاتـه في نفسـه، وإنما يكون منافحا عنها، وداعيا لها، ومبشرا بها على أساس أن تدينه هو الحق، وتدين غيره المخالف له هو الباطـل كـفـرا أو ضـلالا، فيـصبـح إذن تطرفه مـذهبا دعـويا، تسخر الوسـائل لنشره، وتتضافر الجهود للدعوة إليه، وقد تنشأ الفرق والجماعات لنـصرته عـلى أنه هـو الحـق وغـيره هـو الباطل. وفي هذه المرحلة تشتد الآثار السلبية للتطرف، إذ يصبح مفضيا إلى الفتنة الاجتماعية، وإلى الفرقة بين المسلمين.
وقد يصل التطرف إلى مرحلة رابعة هي أخطر المراحل جميعا، وذلك حينما يعمد المتطرف إلى فرض تدينه الذي يعتقد أنه الحق على الناس بالعنف ليكون لهم دينا، أو ينتهي به تطرفه إلى تصرفات عنيفة في غير مجال فرضه على الناس، كأن يكون نكاية أو انتقاما أو تطبيقا لأحكام دينية في
[ ص: 25 ] غير ما هو مخول فيه جهادا أو إقامة حدود أو ما شابه ذلك. وربما أعطي التـطرف في هـذه المرحـلة اسما آخر هـو الإرهـاب. ولا شك أن التطرف في مرحلته هذه يصبح شاملا في تأثيره السيئ المجتمع بأكمله، فتنة دموية، وانتهاكا لدماء وأموال، واضطرابا يعطل مسيرة المجتمع في التعمير، بل قد تصيب هذه الآثار الدين نفسه، وذلك حينما ترى هذه التصرفات مجترحة باسم الدين، فيقع في كثير من النفوس أن دينا هذه حقيقته ليس جديرا بأن يكون دينا يتبع، فيتشكك فيه المتشككون ويرفضه الرافضون، وتنكفئ الدعوة إليه في انتكاس عظيم.
وليست هذه المراحل من التطرف بمنعزلة عن بعضها، بل هي على العكس من ذلك منفتح بعضها على بعض، وكثيرا ما تنتهي الأولى منها إلى الرابعة، إذ هي ليست إلا درجات في عمق الإيمان بما يحمله المتطرف من تصور للتدين، فكلما تعمق ذلك الإيمان في نفسه انتقل التطرف من درجة إلى درجـة، وهـل العنف الإرهـابي باسم الدين إلا ناشئا من فهـم تجـاوز ما حدده الدين نفسه من حدود، ثم تطور إلى اعتقاد أن ذلك الفهم هو الحق وغيره هو الباطل، ثم تطور إلى التبشير به والدعوة إليه، حتى انتهى إلى نصرته بالعنف، وهكذا تنتهي في كثير من الأحيان الدرجة الأولى من التطرف إلى الدرجة الرابعة منه، وذلك بحسب ما يقوى من العوامل المسببة في ذلك والمدعمة له، كما سنبينه لاحقا.
[ ص: 26 ]