ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الأول]

نخبة من الباحثين

صفحة جزء
- التأويل الديني:

باعتبار أن الإسلام يتصف بالشمول، أصبح فيه كل تصرف إنساني مشمولا بالحكم الديني، ومن ثمة تكون مقاومة الاستبداد أمرا واجبا بالدين، كما يكون الدفاع عن الحقوق لاسترجاعها أمرا واجبا بالدين أيضا، ومن تقاعس عن ذلك فقد تقاعس عن إقامة الدين، فتصبح إذن مقاومة أي [ ص: 30 ] استبداد مهما يكن لونه أمرا واجبا، وهذا المعنى حينما تتشربه نفوس المؤمنين فإنها تنطلق به إلى ساحة الإنجاز العملي، وإذا ما احتدم الصراع بين الحق، ممثلا في المطالبة بالحق ومقاومة الظلم، وبين الاستبداد وممارسيه، فإن شهوة الغلبة تصبح صانعة لتآويل تلتمس مبررات من التصورات ومن الأعمال تتجاوز ما حدده الدين ولكن تسبغ عليها صبغة دينية، فينشأ إذن التطرف في خضم الصراع بين الحق والباطل بالتأويل المتعسف.

ولهـذا المعنى أمثلة كثيرة أيضـا، من الماضي والحـاضر. ففرق الخـوارج لما قدروا أن الحكم الإسلامي آل إلى الاستبداد وطنوا النفس على مقاومة ذلك الاستبداد، وفي خضم صراعهم معه أحدثوا الأحاديث من التصورات المكفرة لمن سواهم من المسلمين، ومن الأعمال التي أصبحوا يستحلون فيها الدماء غيلة ظـانين أن ذلك يعتبر منهم تدينا وهـو في حقيقتـه تطرف في الـدين. وفي العصر الحديث قامت حركات كثيرة تقاوم الاستبداد السياسي برسم الواجب الديني، واستحدثت في سبيل ذلك من أساليب المقاومة ما هو من الوسائل المتجاوزة لتحديد الدين مفتين بأنها من الدين، على اعتبار أنها تفضي إلى تحقيق مقصد ديني هو مقاومة الاستبداد وبسط الحرية والعدل، وذلك مثل قتل الأبرياء وإتلاف الأموال العامة نكاية في الأنظمة الحاكمة المستبدة، وسعيا في إسقاطها من موقع الحكم، فسقطت إذن في التطرف حتى درجة الإرهاب بسبب الاستبداد عن طريق تأويلات دينية متطرفة. [ ص: 31 ]

وربما أدى الاستبداد السياسي إلى ضرب آخر من التطرف هو التطرف المستكين الذي لا ينـزع إلى العنف ولكنه ينـزع إلى الاستقالة من الحياة العـامـة، وذلك بفعـل تصـورات تستـقر في الأذهـان على أنها دين، وهي في الحقيقة تتجاوز تحديدات الدين، فالاستبداد قد تشتد سطوته على نفوس الأفراد والجماعات، وتفشل مقاومته للإطاحة به المرة تلو المرة، وقد تحدث من تلك المقاومة الفاشلة فتن تنال المجتمع كله بالبأس، فيقر إذن في بعض النفوس أن هذا الاستبداد قدر مقدور لا فكاك منه، وأنه في بأسه أهون من بأس الفتنة، وينتهي الأمر بضرب من التشريع له، والتشريع لمنع مقاومته، ويتبع ذلك تشريع للسير في ركابه وممالأته ومد يد المعونة له، وقد يتجه التشريع للانكفاء عن الحياة العامة إلى حياة خاصة تنشد الخلاص الفردي بضروب من التريض الروحي الذي يتجاوز توجيهات الدين وتعاليمه.

وما إخال بعض الفرق الإسلامية الغالية في التصوف إلا ناشئة من هذا السبب، إذ لما يئست من سقوط الاستبداد نأت بنفسها عن الحياة العامة للناس، وانكفأت تغوص في حياة روحية تجاوزت فيها رسوم الدين من مثل أفكار الحلول والاتحاد وما شابهها.

ويشبه ذلك أيضا ما نشأ من أفكار عند بعض فقهاء السياسة تشرع للاستبداد نفسه بالتشريع للاستيلاء على الحكم بغلبة الشوكة العسكرية ابتداء واستمرارا، وذلك على نحو ما قرره إمام الحرمين في قوله: "إذا استظهر [ ص: 32 ] (الساعي إلى الإمـامـة) بالقوة، وتصـدى للإمـامـة كان إمـامـا حـقا، وهو في حكم العاقد والمعقود له" >[1] ، وإذا كان هذا التقرير متـعلقا بالإمـام المتوفرة فيـه شروط الإمـامة فإن فيه فيـما نقدر تجاوزا لما حدد في الدين من أن الإمام لا ينتصب إلا بإرادة الأمة وتزكيتها وبيعتها العامة. ولعل هذا المعنى هو الذي أشار إليه الكواكبي بقوله: "والنـاظر المدقق في تاريخ الإسلام يجد للمستبدين من الخلفاء والملوك الأولين، وبعض العـلماء الأعاجـم وبعض مقلديهم من العرب المتـأخرين أقوالا افتروها على الله ورسوله تضليلا للأمة عن سبيل الحكمة يريدون بها إطفاء نور العلم وإطفاء نور الحكمة" >[2]

ولعل بعض الجماعات الإسلامية في العصر الحاضر، وقعت بسبب الاستبداد، في هذا التطرف السلبي، وذلك مثل أولئك الذين يبررون تبريرا شرعيا كل تصرف استبدادي يصدر عن الحكام باعتباره صادرا عن ولي الأمر، ويشرعون لوجوب طاعته في ذلك، وحرمـة معـارضته بله مقاومته، أو أولئك الذين انسحبوا من هذا الميدان بالكلية، وسحبوا الدين أن يكون له حكم فيه، وجعلوا ذلك من حديث المرء فيما لا يعنيه، فكل من هؤلاء [ ص: 33 ] وأولئك إنما تعود تصوراتهم ومواقفهم هذه إلى سبب الاستبداد الغالب على النفـوس، الميئس من الإصـلاح، ولو كان الأمر يجـري على حرية وشورى ما كان لهذه التصورات والمواقف أن تظهر، وهي في كل الأحوال تعد ضربا من التطرف، وإن كان تطرفا يقف عند حد الدرجة الثالثة من الدرجات التي شرحناها آنفا ولا يتحداها إلى الرابعة.

التالي السابق


الخدمات العلمية