البعد الفقهي
في معالجة العنف
الدكتور نور الدين بن مختار الخادمي
>[1] المقدمة:
تعـد نازلة العنف من أخـطر النوازل التي عرفهـا عالمنا المعـاصر. وهي قضية شائكة ومعقـدة ومتداخلة مع غـيرها من النوازل والقضايا الحياتية والحضارية. وهي ذات جذور مركوزة في الفكر وفي التاريخ وفي الواقع، غير أنها حالة عارضة وظاهرة طارئة لا تعبر عن حقيقة الفطرة والدين والسنن، وإنما تعرض لأسبابـها وتبرز لطروء الظروف المؤدية إليها أو المدعمـة والمغذية لها. ومع هذا فهي ذات آثار خطيرة، ذاتيا وموضوعـيا، عاجلا وآجلا.
والواجب المحتوم هو الإقدام على المعـالجة الحقيقية لأسبابها ومظـاهرهـا وآثارها وجذورها، وهـذا يدعو إلى تأسيـس قاعدة العلاج، ثقافيا وعلميا
[ ص: 9 ] ومنهجـيا وحضـاريا ومجتمعـيا ودوليا، وليس بمجرد المعالجـات الشـكلية أو المجتزأة أو المبتورة أو المبررة أو العاطفية، أو غير ذلك مما لا يكون الدواء الشافي والجواب الكافي لنازلة العنف، فكرا وتنـزيلا.
وعليه، فإن المعالجة الحقيقة ينبغي أن تتأسس على مختلف الأبعاد والنواحي التي انسحبت أو جرت في مشكلة العنف، من ذلك البعد النفسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والبعد الدولي والعالمي والإقليمي، والبعد الديني الأخلاقي، الذي يشكل أحد الأبعاد الرئيسة في هذه المشكلة، وجودا وعدما.
والبعد الديني الشرعي الإسـلامي هو الإطار الفكري والحضاري المرجعي، الذي يمكن أن ننطلق منه ونعود إليه في كيفية التعامل مع المشكلة، قبل وأثناء وبعد وقوعها، وذلك لما لهذا البعد من حضـور قوي وفاعل في التاريخ والجغرافيا والبيئة والمجتمع والنفس داخل العالم الإسلامي، ولما له من أثر في (الآخر) الذي تتقاطع هويته وكينونته وسيرورته مع الإسلام في المشترك الإنساني والخلقي والحضاري والعمراني، وفي تحقيق التعايش السـلمي ودفع ظواهر وأسباب وآثار التوتر والتنازع والتصادم، وفي بناء الحضـارة الإنسـانية وتجـذير قيم السـلم والسمـاحة والرفق، وترسيخ معاني التدافع والتنافس والتصالح والتثاقف، دون أن يكون ذلك على
[ ص: 10 ] حسـاب الخصـوصيات والهويات والمحليات والوطنـيات والذاتيات. وكل هذا يتنـزل بآلياته وكيفياته، وفقا للمستجد والمستحدث، وانطلاقا من المرجعيات والخلفيات.
ويقوم على البعد الديني الإسلامي الكلي والإجمالي ما يمكن أن نسميه بالبعد الفقهي أو العلم الفقهي أو النظر الفقهي، الذي يتعلق بالخصوص بالمنظومة الفقهية التشريعية التي تكون بمثابة الآلية أو الصيغة (معرفيا ومنهجيا) التي تظهر الأحكام وتوجد الحلول وتضبط المخارج وتحدد البدائل وتفتح الآفاق لتنـزيل الدين في الواقع والحياة، ولتحقيق المعادلة النظرية والتطبيقية في مجمل خطاب الدين وتعاليمه وتوجيهاته.
وأحسب أن بحث هذه المشكلة في ضوء هذا البعد أو انطلاقا من هذا البعـد، سيكون أحد المداخل الضرورية للرصد والتشخيص والمعالجة والمتابعة، وهو لا يغني عن المداخل الأخرى والأبعاد الأخرى المتصلة بالاقتصاد والمجتمع والبيئة والسياسة والثقافة والتاريخ والعلاقات الدولية والمشكلات العالمية.
واقتصاري على البعد الديني الفقهي يأتي لمسوغات كثيرة، منها ملازمة الدقة والعمق، ومراعاة التخصص العلمي، واعتبارا بالواقع الذي تشكل المرجعية الدينية الإسلامية أهم المكونات والدعائم له.
[ ص: 11 ]
وقد حاولت الإجابة عن هذه المشكلة بما هو متاح (زمنيا وشغليا ومعلوماتيا)، وحاولت الإسهام في الحل، وما كان نقصا أو خللا فهو راجع إلى الظروف التي كتب فيها البحث، فقد كتبت أغلب مسوداته في مكة المكرمة، وفي وضع صحي أدركه صاحبه بموجب حادثة صحية خفف الله فيها عنه، ثم ضاعت تلك المسودات عند العودة إلى تونس الخضراء، ثم عزم الباحث على استعادة الهمة، فأعاد كتابة البحث كاملا، وكل هذا في زمن قليل، مراعاة للأجل المحدد للنشر، واستجابة للدعوة إلى الكتابة في هذا الموضوع. عملت على بذل قصارى الجهد.
وخطـة هذا البحث تدور بين المراد بالعـنف، وبالعلوم الفقهية، وبالأسـباب الفقهـية للعنف، وبالمعـالجة الفقهـية لهذا العنف. وكل هـذا مفصل في موضـعه من هذا البحث.
والله أسأل زيادة التوفيق والتسديد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[ ص: 12 ]