- سبل المعالجة على مستوى الجهة الفقهية:
الجهة الفقهية (الفرد العالم أو المؤسسة الفقهية...)، التي يصدر منها العمل الفقهي هي الركن الأساس في إقامة العمل الفقهي المتكامل والمتناسق والناهض الذي يجسد بحق مـدلولات المنظومة المشار إليها. وهذا يدعو إلى إعداد الشخصية الفقهية (على المستوى الفردي أو الجماعي والرسمـي..) المتصفـة بصفات علمية وتربوية وواقعية تؤهلها للقيام بالدور الفقهي على
[ ص: 81 ] أحسـن الوجـوه، من حيث البناء لا الهدم، والتجميع لا للتفريق, والتبشير لا التنفير, والمعـاونة والمطـاوعة لا المشـاكسة والمعاندة، والتسهيل المحمـود لا التشديد المذموم، والتخفيف المقصـود لا التعنيف المردود.
وتذكرنا هذه الشخصية النموذجية المأمولة بما كان عليه الأسلاف من الأئمة الأعلام الذين تشبعوا (ملكة راسخة وأداء بارزا) بروح منظومة الفقه والشرع في تكاملها وتناسقها، فكان لهم شأنهم وشأوهم في الإصلاح والبناء وفي استمرار السند العلمي وتراكم النتاج الحضاري بكل مكوناته وأنواعه.
ومجمل معالم هذه الشخصية الفقهية المدعو إلى إعدادها في عصرنا الحالي ومستقبلنا القريب:
1- العلم بمنظومة الفقه بإحاطة ودقة، وقوة وجدارة أداء، وشجاعة فعل، وإرادة إصلاح، وتوافق وترابط، مع ما يحصل من الخبرات والتجارب والتراكم والتضافر.
2- العلم بالمعارف المتصلة بمنظومة الفقه، كمعارف النفس والمجتمع والتاريخ. وهذا الأمر متفاوت فيه من حيث تفاوت مراتب العلماء ومهام المؤسسات ومجالات الفقه وموضوعاته ونوازله...
3- العلم بالواقع والعصر وأحوال العالم وظروف الوطن وحالات الأفراد والجمعيات والمنظمات، وبمختلف النوازل والمستجدات في قضايا الطب والبيولوجيا والبيئة والإعلام والأسرة والاقتصاد والتعليم...
[ ص: 82 ]
وهذا- كذلك- يتحدد بحسب أنواع النوازل والمستجدات، وبحسب دقتها وتشعبها وتداخلها وارتباطها بغيرها. وفي إعمال هذا العلم وتطبيقه تعرف منهجيته والمقدار المطلوب منه.
4- الصلاحية العقدية والتعبدية والتربوية والأخلاقية والحضارية، التي ينبغي أن يكون عليها الفقيه المعاصر أو الجماعة الفقهية، إذ إن هذه الصلاحية لا تقل أهمية عن الصفة العلمية الفقهية، من حيث قوة التأثير والحمل على الفعل والحث على الاقتداء والاقتفاء، ومنع الاختلاف المذموم، ودفع بوادر الفتنة، ودرء مظاهر الطعن والتشكيك والاستخفاف بالفقهاء والعلماء ودورهم التعليمي والإفتائي والبياني والحضاري.
وقد يكون من دواعي قيـام العنـف عـدم الإصـغاء إلى الفقيه العالم المنعوت بالتقصير أو التهاون في النواحي التربوية والأخلاقية، أو المتهم بخلل في عقيدته وإيمانه. وقد يتيح عدم الإصغاء إلى الفقيه فرصة الإصغاء إلى غيره ممن ليس له كثير علم، أو ليس له علم أصلا، فيقع المصغي والمتلقي في دائرة من الانحراف السلوكي والاختلال الفكري، مما يكون له أثره في بوادر العنف ومداخل التعنيف.
5- المصداقية والموضوعية والحيادية الإيجابية، وعدم مسايرة الأهواء الخاصة والعامة، وعدم الاستجابة للضغوط الداخلية والخارجية والاجتمـاعية والسيـاسية والمـدنية، وتحاشي المجابهة والمواجهة مع الجمهور
[ ص: 83 ] أو النخبة أو الساسة، والعمل على التقريب والتوفيق وجمع الشمل ورأب الصدع وإعذار (الغير) - بحسب المباح والمشروع-. وحري بالعالم الفقيه المحقق الواعي أن يكون أبا للجميع وجامعا للكل، وذلك بفعل موازنة ومقاربة شرعية وواقعية تجمع بين مرضات الله تعالى وعدم الانحراف الديني، وبين مختـلف الحاجيات والمصالح الجماعية والفردية والوطنية والداخلية. وهـذا كله يحصـل بسبب المبـاح والمتـاح، وبما بان من الرأي وما لاح، ولمن جال في الشرع وساح.
وفي ديننا وشواهد تاريخنا وثنايا مدونتنا ما يؤسس لهذا المنهج القويم للعـالم الفقيه الملم المتبصر الحكيم المتـقن الصـادق الذي يكون ديدنه قول الله تعالى:
( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ) (هود:88) .
6- دوام التعلم والمراجعة والمذاكرة وإدامة الإفادة من (الغير)، علميا وبيئيا، فرديا وجماعيا، وعدم الاكتفاء بتصدير المعرفة، بل لا بد من الاستيراد والتثقيف عبر الإطلاع على المنتج المعرفي المتجدد، واستبعاد الشعور بالتفوق العلمي أو التربوي والتزكوي، وسد منافذ العجب والغرور بالذات، وعدم قصد الشهرة والبروز، ومزاولة بعض اللذائذ العاجلة والمنافع المـادية والمعنـوية التي كثيرا ما تسكن إليها النفس الغافلة وكثيرا ما يساوم بها الشيطان الملعون.
[ ص: 84 ]