- التعامل مع الظاهرة:
والتعامل مع الظواهر عمليا يمكن أن يأخذ ثلاثة اتجاهات:
اتجاه ينـزع إلى الريادة واستشراف المستقبل ومحاولة قراءة الواقع والمقدمات بدقة، ومن ثم يضع الخطط والبرامج الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للحيلولة دون تشكل الظاهرة السلبية، وبذلك يكفي الله المؤمنين القتال والضحايا (وضع خطط وقائية)؛
واتجاه يجتهد في محاصرة الآثار السلبية والنواتج الضارة وإيقافها مثله في ذلك مثل من يقدم إسعافات أولية لوقف النـزف، ومن ثم تحليل الظاهرة ودراسة الأسباب المنشئة لها، ومعالجة تلك الأسباب، والخلوص إلى العبر التي تمكن من عدم تكرارها؛
واتجاه لا يتمكن من إبصار وإدراك العوامـل المتراكبة للظـاهرة والأسباب المنشئة لها والمناخ الذي سمح بامتدادها ونمـوها، لأنه لا يستطيع أن يتجاوز مرحلة الإحساس بآثارها، لذلك تنتهي رؤيته عند معالجة الآثار إما بالتعويض المالي أو بالكبت، والمنع، والعقاب، وممارسـة الحل الأمني، الذي قد يغيب الظاهرة مؤقتا لكنه كما هو مشـاهد لا يعالجها ولا يحقق الوقاية منها مستقبلا.
ولعلنا نقول هنا: بأن التعامل مع هذه الظواهر على العموم يبقى متأرجحا بين ذهنيتين:
[ ص: 111 ] - ذهنية التهوين والاستسهال وعدم الإدراك لأسبابها وحجمها وآثارهـا وعـدم السعي لامتلاك الأدوات والتخصصات للإحاطة بعلمها
( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) (يونس:39)، وإنما الاقتصار على مواجهتها بالحماسات والشعارات والشجب والإدانات والندوات والمؤتمرات السياحية، التي قد تنتهي إلى إضاعة العمر والمال وحتى الأجر، على الرغم مما يمكن أن يعتذر لأصحابها من النوايا السليمة؛ ولا ندري كيف يمكن هنا إزاء هذه الإشكاليات الكبيرة والخطيرة أن يعتذر للفشل بالنوايا السليمة، وكيف يمكن أن توصف بالسليمة حتى ولو أنتجت عملا مغشوشا غير سليم، وأصبحت ذريعة للتخلص من المسؤولية، وحجب عمليات النقد والتقويم والمراجعة وتحقيق العبرة والسماح بامتداد حالات الغفلة وتغييب الوعي وشيوع الغوغائية، التي قد تكون من لوازم ذهنية الاستسهال، في كثير من الأحيان؟
- ذهنية التهويل والاستحالة: وفي المقابل قد نجد - و"قد" هنا للتقليل - بعض الذهنيات التي تتعامل مع الظاهرة بكثير من التهويل، فتقع في ما يسمى بذهنية الاستحالة، بسبب من العجز عن إدراك حجمها الحقيقي، وافتقاد ضبط النسب في العناصر المكونة لها، والافتقـار للأدوات التي تمكن من القياس والتقويـم والمقارنة والمواءمـة بين الأمنيات والإمـكانيات، الأمر الـموقع في حالة الخزي والعجز، ومن ثم الهروب والانسحاب أو اللجوء
[ ص: 112 ] والارتمـاء صوب (الآخر) لإعلان العجز واستجداء الحل، الأمر الذي قد يؤدي إلى تكريس الظاهرة، وتكريس حالة العجز عن التعامل معها وإبصار المداخل الحقيقية للتعامل معها، وديمومة الحاجة إلى استدعاء (الآخر) للحماية والوقاية.
ومبدئيا، قد نرى أن المشكلة، في التعامل مع الظواهر والأزمات والإصابات وحالات الاستعصاء والعجز الناتجة عنها، إنما هو بسبب عدم دخول البيـوت من أبوابـها، كما يقـال، ذلك أن لـكل إشـكالية أو أزمـة أو ظاهرة أبوابها ومفاتيحها، أو إن شئت فقل: أهل حلها وعقدها، وهم الذين يشكلون مجموعة التخصصات، التي تمتلك الأدوات التي تمكن من إدراك الظاهرة من كل جوانبها، والإحاطة بعلمها، وإدراك أسبابها، وإبصار مخاطرها، والاهتداء من خلال هذه التخصصات والأدوات إلى طرق حلها ومعالجتها، أو حسن إدارتها، والتخفيف من آثارها، ووضع خطة طويلة الأجل لمعالجة أسبابها بحيث يدلي فيها كل صاحب اختصاص وخبرة بدلوه، ويتم التداول والمثاقفة والتشاور والمقاربة بين الآراء للوصول إلى الرأي الصائب والخطة النضيجة.
لكن المشكلة في واقعنا الثقافي تكمن في غياب أدب المعرفة وتجاوز أبسط قواعد المنطق، التي تقول: بأن "الحكم على الشيء فرغ عن تصوره"، حيث الـكثير منـا ما يزال يـقفو بمـا ليس له به علم، وكأن هذه الآية:
[ ص: 113 ] ( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) (الإسراء:36) تقتصر في صور التدين التي نحن عليها على المنابر وأماكن الوعظ والإرشاد، أو في أحسن الأحوال على الاستزادة من طباعة الكتب والأسفار، التي لا نصيب لنا منها إلا الطباعة، أو الاكتفاء بتلاوة الآية للحصـول على عشر حسـنات، بقراءة كل حرف منها قراءة بلا فقـه، وبذلك تتسرب إلينا علل التدين من الأمم السابقة، الذين كانوا لا يقرأون الكتاب إلا أماني؛ وتستمر في حياتنا وتعاملنا مع قضايانا حالة التخلف، التي تنعكس على فهمنا لقيمنا في الكتاب والسنة، ونبقى نعيش حالة والتخلف والعامية، حيث دكان القرية سوق المدينة، كما يقول أهل الاقتصاد، فبعض الرجال عندنا ما يزالون ملاحم، يفهمون كل شيء.
هذا علاوة على أن بعض الإصابات والأزمات أو الإشكاليات يمكن أن تكون مجرد حـالات فردية، أو حـالات عارضة ناتجة عن رد فعل آني، لم تصـل إلى مستوى الظاهرة وحجمها، وإنما هي ظرف طارئ أو رد فعل لا يلبث أن ينتهي بانتهاء سببه، لكن المشكلة إنما هي في ذهنية التهويل والتضخـيـم التي أشرنا إليه، التي قـد تجعل من الحبة قبة، أو ذهنية التهوين التي لا تقدر الأمر حق قدره وتدرك أبعاده، فيؤدي الإهمال إلى التفاقم والتـأزم وحـفر مجـرى عميـق في المجتـمـع، أي يـتـحـول من أمر عـارض لم يتدارك إلى ظاهرة.. "ومعظم النار من مستصغر الشرر".
[ ص: 114 ]