- التنوع سبيل التكامل:
وتتميز حضارة الإسلام وفلسفته عن غيرها باعتبار أن هذا التنوع والاختلاف والتباين إنما هو سبيل التعايش والتعاون والتكامل والتعارف:
( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) ، فالأميز والأكرم والأفضل هو الأكثر عطاء وإحسانا:
( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ، وأن الأقرب، الأحب إلى الله، الأنفع للناس، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من خير الناس؟ قال:
( أنفع الناس للناس ) وقال صلى الله عليه وسلم :
( أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس ) >[1] .
والإنسان في حضارة الإسلام مخلوق مكرم مفضل بأصل الخلق، دون النظر إلى لونه أو جنسه أو حتى معتقده، يقول تعالى:
( ولقد كرمنا بني آدم ) (الإسراء:70)، وهـذا التكريـم الإلهـي والـكـرامـة الإنسـانية لا تتحقق إذا روعـت بأي عنف أو إرعاب أو إكراه، ذلك أن من لوازم التكريـم وتحقيق الكرامـة توفر حرية الإرادة والاختيـار، فـأي إكراه أو إجـبار أو عنـف أو إرهاب أو تخويف أو قمع أو إقصاء أو إلغاء عدوان على إنسانية الإنسان، وإلغاء لكرامته، وتأله للبشر على البشر، واعتداء على إرادة الله بإهانة خلقه المكرم.. وحيث إن الإنسان مخلوق عاقل، وبذلك فهو
[ ص: 162 ] مـكلف مسـؤول، فإن من لـوازم المسـؤولية الحرية، إذ كيف يسلب الإنسـان حرية الإرادة والعمل ومن ثم يسأل عما يفعل، إن كان لا يختار ما يفعل ويعتقد؟!
لذلك كان شعار حضارة الإسلام وفلسفته وخطابه إلى الناس جميعا:
( لا إكراه ) حيث تقتصر رسالة المسلم السائر على درب النبوة، على بيان طريق الرشـد والإغراء باتباعـه، وبيان طريق الغي والظلم والإكراه والإفساد لكرامة الإنسان وحريته والتنفير من سلوكه.
وبهذا الاعتبار تكون ممارسـة الإكراه عصـيانا لأوامر الله تعـالى، فكيف والله يقول:
( لا إكراه ) ونحن نمارس الإكراه باسـم الدين وطاعـة الله؟ فهل يطاع الله بمعصيته؟ حيث لا يمكن للمسلم أن يسمع قول الله تعالى:
( لا إكراه ) ومن ثم يمارس الإكراه؛ كما يكون الامتناع عن إكراه الناس وإجبارهم على (الدين) هو طاعة لله واستجابة لأمره.
وطالما أننا سلمنا بحقيقة التنوع والاختلاف في الخلق فيلزم عن ذلك تنوع الأديان والثقافات والأفـكار والمـذاهب والمـلل والنحل (تنوع الاختيـارات)، ولـولا وجـود من لا يؤمـن لما كان هنا داع لقوله تعالى:
( لا إكراه في الدين ) والواقع دليل ذلك.
وخشـية أن يحمل حب الخير للناس المؤمن، الذي يسـير على قدم النبوة، على إكراه الناس لاعتناق الحـق (عطاء النبوة) جاء التحذير والنهي
[ ص: 163 ] الإلهي وتحـديد المهمة بدقـة، يقول تعالى:
( فإنما عليك البلاغ المبين ) (النحل:82)، ويقول:
( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) (العنكبوت:18)، ويقـول تعـالى مستنكرا ما يحتمل أن يقع، حتى ولو بدافع خير:
( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس:99)، ويقول:
( لست عليهم بمصيطر ) (الغاشية:22)، ويـحسـم الأمـر بقولـه تعالى:
( نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) (ق:45)... إلى آخر الآيات ذات المساحـات الكبـيرة في القرآن، حتى يكون المسـلم على حـذر وبينة من أمره وأسلوب دعوته.
لذلك نقول: إنما شرع الجهاد أصلا لتحقيق حرية الاختيار والحيلولة دون الإكراه، فالمسـلم في حضـارة الإسلام وفلسفته يفرض عليه أن يجاهد - إما على الفروض الكفائية وإما على الفروض العينية- فيقدم نفسه وماله في سبيل تحقيق حرية الاختيار للناس، وحماية إرادتـهم، وحفظ كرامتهم، شعاره إضافة إلى قوله تعالى:
( لا إكراه ) قوله تعالى:
( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) (الأنفال:39).
والفتنـة في أدل معـانيها هي ممارسة العنف والإكراه على الناس لحملهم على خيارات وأفعال ليست من قناعتهم، فأين مفهوم الجهاد من الإرهاب والعنف والتطرف،
[ ص: 164 ] وهو إنما جاء لحماية الناس من الإرهاب والعنف والتطرف؟
وقد لا يتسع المجال للحديث عن أبعاد الجهاد وميادينه ووسائله الكثيرة والمتعددة والمتطورة، وأن الجهاد بمعنى القتال هو إحدى وسائله وبعض ميادينه، وهو الحالة الاستثنائية لرد العدوان ودفع الظلم عن الأوطان والإنسان، والحيلولة دون انتقاص إنسانيته وكرامته.. والجهاد غالبا ما يشرع ويهدف إلى حماية المجتمع وحماية الإنسان وليس لإقامة المجتمع وبناء الإنسان، فلذلك مجاهدات ووسائل أخرى، يقول تعالى:
( فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) (الفرقان:52)، فالقرآن بـكل مضامينه وخطابه وأطروحاته وتربيته النفسية والعقلية وأحكامه الفقهية، إنما هو ميثاق المجاهدة؛ ومعجزة الإسلام ليست بفعل العصا وقوتـها ولا بحـد السيـف وفـاعـليته ولا بالقـوة المـاديـة، وإنمـا معـجـزته المستمرة هي المعجـزة الفكرية المعرفية، التي تمحورت حول بناء الإنسان الصالح وإعادة تشكيله.