- في الشورى.. وقاية وعلاج:
الشورى كقيمة اجتماعية وسياسية وتربوية وإدارية، بدءا من الأسرة ومرورا بالمدرسة والجامعة والمعهد والنادي ومناهج التربية والتعليم والإعلام ومؤسسات ما يسمى اليوم بمؤسسات المجتمع المدني وفي مقدمة ذلك كله المؤسسات السياسية، تعتبر جماع الأمر كله، والميدان الأساس لتداول الرأي والحوار وامتصاص أسباب العنف والتطرف والإرهاب وسائر أشكال التعصب والاحتقان؛ وليس ذلك فقط وإنما هي اللقاح الشافي من العنف والتطرف، المحقق للمناعة والوقاية، ذلك أن الشورى هي الرئة التي يتنفس فيها الفرد والمجتمع، فتحول دون سائر الاختناقات.
[ ص: 179 ] والشورى هي:
- أبرز خصائص المجتمع المسـلم وسمات حضارة الإسلام، يقول تعالى واصفا مجتمع المسلمين:
( وأمرهم شورى بينهم ) ، ويقول مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم :
( وشاورهم في الأمر ) ليرسي القاعدة الأساس في مجتمع المسلمين على امتداد العصور.
وإذا وضعـنا هذا التنـزيل:
( وأمرهم شورى بينهم *
وشاورهم في الأمر ) - على خلوده وامتداده- في إطاره الزمني، أي قبل خمسة عشر قرنا، حيث كان الحكام إما آلهة أو متحدثين باسم الآلهة ومنفـذين لإرادة الله، لا يمـكن مخالفتهم ولا معارضتهم ولا التقدم بين أيديهم؛ لأن في ذلك معصية ومخـالفة لأمر الله، فجاء الإسلام ليفك هذا الارتباط لأول مرة في تاريخ البشرية بين الحكم والألوهية، ويعيد الحاكم إلى وضعه البشري، يجري عليه كل ما يجري على البشر من خطأ وصواب وحاجة إلى الآخرين، ووضع الأطر السياسية والقيم السياسية والاجتماعية ليحول بذلك دون الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي، الذي يولد العنف والتطرف والإرهاب.
فإذا وضعنا هذا التنـزيل في إطاره التاريخي، أدركنا قيمة هذا العلاج المبكر لوقاية المجتمعات.
- تشعر الفرد بقيمته وكيانه وقيمة رأيه، وتشكيل شخصيته الاستقلالية، وتطمئنه على مستقبله، دون مفاجآت، لمشاركته باتخاذ القرار،
[ ص: 180 ] وبذلك يصبح هذا القرار من اختياره، من بعض الوجوه، وليس مكرها عليه؛ لأنه ساهم بإنشائه.
- فرصه لتداول الآراء، والمثاقفة والمحاورة والمناظرة والمجادلة، فالشـورى تشـكل مسـاحـة سياسية واجتماعية هي أشبه ما تكون بالمناطق الحرة في الاقتصاد، بعيدا عن أي رقابة أو قيد، وفي هذا ما فيه من التدريب على الحرية، وفتح قنوات التواصل، وتفريغ الاحتقان السياسي والفكري والاجتماعي.
- فرصة للإفادة من كل الآراء في اتخاذ القرار، فهي اجتماع عقول في عقل، وانضمام تجارب إلى تجربة.
- تقضي على الدكتاتورية وحكم الفرد، الذي يؤدي إلى الاستئثار بالـرأي، والاستـئـثـار بالحـكم، والاستـئـثـار بالمال، وتحقق استشعار المسؤولية والرقابة.
- مجال وميدان لإنضاج الرأي بعد تقليبه على وجوهه جميعا، ليخرج بعد المشاورة رأيا نضيجا متزنا معتدلا بعيدا عن الإفراط والتفريط، ذلك أن التحـاور والتـلاقـح الفـكري وتبادل وجهات النظر ينتج رأيا معتدلا بعيدا عن التطرف والغلو.. فالشـورى ميدان لامتصاص كل أشـكال التمرد والعصيان والعنـف والتـطرف، وتحـريك للآراء، وترويض للعقول، واستنبات للحلول.
[ ص: 181 ] - أداة لإدارة جميع شؤون الحياة، حيث لا يقتصر دورها على اختيار الحاكم فقط وإنما يتجاوز لإدارة جميع شؤون الحياة.. فأس البلاء، في تقديرنا، يكمن في غياب ثقافة الشورى والحوار، وغياب ممارسة الشورى والحوار عن جميع أنشطتنا، وتركها معلقة على المنابر وفي ساحات الوعظ والإرشاد.
وقد تكون الإشكالية التي نعيشها، كثمرة للتخلف، أن حياتنا تحولت إلى شعارات نكاثر بها ونفاخر، دون أن يكون لها نصيب في حياتنا العملية، حيث حـال الـكثير منـا مـع الشـورى كحـال الذي يستغرق وقته البحث في حكم مندوب يفوت عليه أداء واجب مكتوب.
وما نزال بعد أربعة عشر قرنا، محملة بالكثير من المآسي والإصابات، نتيجة للاستبداد السياسي، نطرح إشكالية: هل الشورى ملزمة أم الشورى معلمة؟ ونكتفي بالجدل حول إلزامية الشورى وإعلاميتها والجدل حول مفاهيمها ودلالاتها عن ممارستها.
وقد نساق إلى معارك وندخلها ونستنـزف فيها طاقاتنا وأموالنا وأشخاصنا، دون أن ندرك أبعادها بدقة؛ وكم أخذ منا ذلك وقتا وجهدا ومالا - حيث الفعل وإدارة المعركة الفكرية والسياسية بيد خصـومنا- لبيان ميزة الشورى عن الديمقراطية، ومعارضتها للديمقراطية، ودخلنا معارك ثقافية وسياسية في مواجهة الديمقراطية، وتكفير دعاتها، وكأن المعركة بين الديمقراطية وبين الشورى، بعيدا عن فقه واقعنا بدقة، ذلك أن المعركة الحقيقية تدور اليوم
[ ص: 182 ] بين الديمقراطية والاستبـداد السيـاسي القـابع في بلادنا، الممسك بأنفاسنا، وأن أي مدافعة للديمقراطية هي تمكين للاسـتبداد السياسي، ودفاع عنه، شئنا أم أبينا؛ علما بأن الديمقراطية هي التي تتيح لنا فرصا ما يلبث أن يغتالها الاستبداد السياسي؛ وليس أقل من ذلك شأنا مدافعة الديمقراطية كطريقة للإدارة والحكم؛ لأنها قيمة غربية ليست من نبات أرضنا، وكأن الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي من نواتج ثقافتنا وحضارتنا!
وليس أقل من ذلك أيضا ما أنفقنا من مال وقدمنا من رجال وتضحيات من قبل في مـواجـهـة الماركسيـة والشيـوعية لمنـاقضتـها للإسلام في معركتها ضد الرأسمالية، ومن ثم رأينا ما انتهى إليه حال الذين دفعوا الشيوعية لمصلحة الرأسمالية وكيف تحولوا إلى مجرمين من نوع خاص، لا يتمتعون بحقوق مجرمي الحرب؛ وهكذا تدور الرحى، ونقيم معاركنا في فراغات يرسمها غيرنا، وتعيش بلادنا العنف والتوتر والتطرف كإفراز طبيعي لاستمرار الفشل والإحباط وغياب الشورى والحوار وانسداد قنوات التعبير، في الوقت الذي تطـورت فيه عند الآخرين أدوات ووسائل وأوعية استطلاعات الرأي واستبيانات قراءة توجه الرأي العام وتحولاته، فأصبحت علما يكاد لا يخطئ؛ فكثير من استبيانات الرأي تمنح مؤشرا مسبقا عن النتائج التي تصير إليها الانتخابات، أما نحن فما نزال نبدي ونعيد في إلزامية الشورى وإعلاميتها، ويستمر إلهاؤنا بعيدا عن المجالات المجدية لنا ولأمتنا ولحضارتنا وللعالمين.
[ ص: 183 ]