وهي تتميز بسمات وخصائص
[ ص: 39 ] جمـالية عديـدة، يفـضي بعضها إلى بعض في ترابط محكم، منها الكثرة والتكرار والتذييل.
1- الكثرة:
إن استقصاء المادة القصصية في القرآن الكريم لا تكاد تجد لها حصرا، فابتداء من سورة البقرة إلى آخر السور القصار، يجد المتلقي نفسه إزاء مشاهد وصور وأحداث يعرضها الله تعالى عرضا سرديا مبهرا، ففي سورة البقرة مثلا تطالعنا "صور قصصية تقوم على حوار بين الحق وبين الذين كفروا، وفي هذه الصـور تصوير لما ختم الله به على قلوبـهم وعلى سمعهم وعلى أبصـارهم، فلا يستجيبون لحق ولا يكفون عن باطل"
>[1] ، ولأحوالهم مع الكفر والاستكبار. وهي آيات
>[2] تستعرض حلقة من حلقات لا متناهية، مكونة من الدعوة إلى الله والرفض والاستكبار أو الإذعان والإيمان والعاقبة والمصير، وتشكل البنية النواة، التي تكررت دلالاتها في كل القصص القرآني، باستثناء قصة الخلق، التي تمثل مقدمة وسببا لوجود هذه النواة.
و"ما نكاد نخرج من هذه الصورة القصصية حتى ندخل في أول قصة بتفريعيها المتكررين في القرآن الكريم وهي قصة آدم، خلقه وهبوطه إلى الأرض وتمرد إبليس (29-39)، ومنها إلى قصة أخرى ذات تفريعات وتكرار، وهي قصة موسى مع فرعون ومع قومه (40-123). ونلاحظ في هذه القصة
[ ص: 40 ] التداخل مع قصة فرعية هي قصة البقرة الصفراء التي تمثل لجاجة بني إسرائيل (67-73) وهي لا تختلف عن اللجاجة التي عهدناها في الذين اشتروا الضلالة بالهدى في مطلع السورة"
>[3] .
وفي سورة آل عمران نجد قصة امرأة عمران، التي نذرت ما في بطنها لله عز وجل، وجانبا من حياة مريم واصطفائها ومعجزة خلق عيسى، إلى جانب سرد التجاء زكريا للدعاء ودوره في التبشير بيحيى، وختم الله تعالى هذه القصة بقوله
( إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم ) (62).
وفي سورة المائدة قصة موسى، عليه السلام، وقومه حين أمرهم بالدخول إلى الأرض المقدسة ( 20 / 26 )، تعقبها قصة ابني آدم، عليه السلام ( 27 / 32 )، وفي آخر السـورة نجـد قصة عيسى، عليه السلام، والمائدة.. وفي سورة الأنعام نجد قصة إبراهيم، عليه السلام، مع أبيه آزر وقومه ( 74 / 83 ).. وفي سورة الأعراف نجد تكرارا لقصة آدم، عليه السلام، وتمرد إبليس ( 11 / 27 )، تعقبها قصص هود وصالح ولوط وشعيب مع قومه عاد ( 65 / 93 )، ثم قصة موسى مع السحرة ومع قومه بعد أن عبر بهم البحر ( 103 / 171 ).. وفي سورة الأنفال نجد ملامح سردية من جهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولى معاركه مع المشركين ( 7 / 20 )، وتمتد هذه الملامح إلى سورة التوبة ( 25 / 27 )، التي فيها عرض لقصة مسجد الضرار ( 107 / 110 ).
[ ص: 41 ]
وهكذا في كل السور القرآنية نجد عرضا قصصيا يسرد جانبا من جوانب قصة الإيمان والكفر في الحياة البشرية، وهي كلها تؤكد استمرارية قصة الإنسان على الأرض: حياده عن الحق ودعوته للرجوع إليه، أو الشر والخير في الإنسان مجتمعين
>[4] ، بالإضافة إلى ما تحمله من رؤى ومفاهيم ربانية حول مجموعة من القضايا والإشكالات المتعلقة بالكون والحياة والوجود والإنسان والغيب والشهادة والقيم.
2- التكرار:
إن متلقي القرآن الكريم يجد أن التكرار ظاهرة ملفتة للنظر في القصص القرآني، وداعية إلى الكثير من التساؤلات حولها، لكن المتأمل يدرك أن القصة لا تتكرر بألفاظها ودلالاتها، وإنما يقع ذكر جانب أو أكثر من القصة في موضع لمناسبة، وذكر جانب آخر أو أكثر في غيره لمناسبة أخرى، استكمالا للصورة العامة، التي يقررها القرآن في قصصه؛ لأن ذلك يخدم غرضين من أغراض القصة القرآنية، غرضا فنيا يتمثل في تجدد أسلوبها، إيرادا وتصويرا، والتفنن في عرضها، إيجازا وإطنابا، والتنوع في أدائها، لفظا ومعنى؛ وغرضا نفسيا يتجلى بما له من تأثير في النفوس، لأن المكرر ينطبع في تجاويف الملكات اللاشعورية، التي تختمر فيها أسباب أفعال الإنسان ودوافعها
[ ص: 42 ] >[5] .
وقد أسالت هذه الظاهرة مداد كثير من العلماء والباحثين، قديما وحديثا، فهذا السيوطي، مثلا، يقول: "والتكرير أبلغ من التأكيد، وهو من محاسن الفصاحة ومن فوائده التقرير، وقد قيل: الكلام إذا تكرر تقرر، وقد نبه سبحانه على السبب، الذي لأجله كرر الأقاصيص من الإنذار في القرآن بقوله:
( وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا ) >[6] .
ويشير مصطفى صادق الرافعي إلى أن "التكرار، الذي يجيء في بعض آيات القرآن، يختلف في طرق الأداء، وأصل المعنى واحد في العبارات المختلفة، كالذي يكون في بعض قصصه لتوكيد الزجر والوعيد وبسط الموعظة وتثبيت الحجة ونحوها، أو في بعض عباراته لتحقيق النعمة وترديد المنة والتذكير بالمنعم واقتضاء شكره إلى ما يكون من هذا الباب"
>[7] .
فالقصة إذن، تتكرر في القرآن الكريم بدلالات جديدة وسرد مغاير، متوافق مع سياق السورة، التي وردت فيها، والمعنى المستفاد يختلف باختلاف السياق، لذا جاءت القصة الواحدة موزعة في عدد من السور، حسب السياق والمناسبة، باستثناء قصة يوسف، عليه السلام.
فقصة خلق آدم وتمرد إبليس مثلا تكررت في القرآن الكريم، لكن في سياقات مختلفة، وبأداء متنوع، وفي مواضيع عديدة، لكن يظل الهدف الأسمى
[ ص: 43 ] منها هو تحقيق العبودية لله وهداية البشرية
( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56).
ففي سورة البقرة يعلن الله عز وجل عن بداية خلق الإنسان، وأنه سيجعله خليفة في الأرض، منذ قوله تعالى:
( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) (30) إلى قوله تعالى:
( قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون *
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) (38-39)، وكان التركيز فيها على مواقف الذنب والتوبة، وعلى استمرارية الحياة في الأرض.
لكن في سورة الإسراء، بسط الله تعالى جانبا آخر من قصة الخلق، ابتدأه من لحظة امتناع إبليس السجود لآدم، عليه السلام:
( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ) (الإسراء:61)، حيث جلى سبحانه، حقد الشيطان على الإنسان؛ لتكريمه عليه، ووعيده بإغوائه لبني آدم وإبعادهم عن الصراط المستقيم:
( قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) (62).
فهنا تقرير وتأكيد على استطاعة إبليس على جر الإنسان من حنكه جر الدواب، لكن الله عز وجل يثبت أنه لا سلطان للشيطان على عباده
[ ص: 44 ] المؤمنين، مهما وسعه الجهد. يقول ابن كثير: "إن في هذه الآية الكريمة دلالة واضحة على عظم خطر الشيطان على الإنسان، وأنه لا يترك طريقا ولا بابا في إضلال بني آدم إلا سلكه ودخله، فإنه يأتي من جميع الجهات إلا من فوق الإنسان، فإنه لا يستطيع أن يحول بينه وبين رحمة الله".
وهذا التهديد أيضا يشير إليه الله تعالى في عرضه لجوانب أخرى من قصة بداية الخلق:
( قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ) (الحجر:39)، وقال أيضا:
( لأقعدن لهم صراطك المستقيم *
ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ) (الأعراف:16-17).
وتعـد قصـة موسى، عليه السلام، من أكثر القصص تكرارا، حيث ذكره الله تعالى في مـائـة وعشـرين موضـعا
>[8] ، مـوزعا بين إشارات طويلة أو قصـيرة، أو في مجال قصصي مشترك. ووقع تكرارها لتشابهها مع قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولاحتوائها على قيم التأسي والصبر والثبات، يقول سيد قطب في هذا المجال:
"كانت قصة موسى مع فرعون وبني إسرائيل قصة حافلة بالعظات والعبر، التي لا يستغني عنها الرسول، في اقتحام العقبات والتعود على الصبر والتأسي بمن سبقه من الرسل، والصمود أمام القوى الغاشمة، ليجعل من
[ ص: 45 ] الإسلام طلائع النور في أمة طال عليها الليل كما طال الأمد على بني إسرائيل فقسمت قلوبهم، وكان يهود المدينة أشد على الدعوة الإسلامية في المكر والغـدر واللجاجـة من مشركي مكة، فهم الذين حرضوا المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم وتآمروا معهم واحتضنوا المنافقين في المدينة، وهم الذين تولوا حرب الإشعاعات والدس في صفوف المسلمين وتشكيكهم في عقيدتهم، فلم يكن بد من كشفـهم للجمـاعة المسلمة لتعرف من هم أعداؤها؟ وما طبيعتهم؟ وما تاريخـهم؟ وما وسائلهم؟ ولقد علم الله أنهم سيكونون أعداء هذه الأمة كما كانوا أعداء هدى الله في ماضيهم الطويل
( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) (البقرة:75)
>[9] .
وهكذا الأمر مع ما تكرر من القصص القرآني، حيث يقع في موقع تحدي الأمم السابقة لأنبيائهم وعدم استجابتهم للحق، والجزاء الذي يتلقونه، وسرد المراحل، التي مروا بها، في سياقات لها صلة بالتوحيد، الذي يسعى إلى ترسيخه وتحقيق عبادة الله، الأمر الذي يسعف في فهم التكرار، وطبيعة الانتقاء، الذي يقوم به الله عز وجل المنسجم مع المناسبة، التي ترد فيها، خاصة انتقاء الحدث والموقف والقيمة، وعرضها بأسلوب جمالي متنوع ومعجز، بحيث يشعر المتلقي أنه بصدد الجديد والمختلف.
[ ص: 46 ] 3- التذييل:
التذييل لغة مصدر ذيل، وهي جعل الشيء ذيلا للآخر وتعقيبا عليه
>[10] . أما في الاصطلاح فقد عرفه الزركشي بقوله: "أن يؤتى بعد تمام الكلام بكلام مستقل في معنى الأول؛ تحقيقا لدلالة منطوق الأول، أو مفهومه؛ ليكون معه كالدليل؛ ليظهر المعنى عند من لا يفهم، ويكمل عند من فهمه"
>[11] .
ويعتبره بعض العلماء والباحثين من مظاهر انسجام النص القرآني وتماسك بنائه وإحكام بنياته، و"سمة بارزة من سمات الأسلوب القرآني، ووجها فائقا من أوجه بلاغته؛ وذلك لأنها تجمع بين وظائف معنوية، لكونها تزيد معاني الآيات بيانا وإيضاحا، ووظائف جمالية، لكونها تمهد للتناسب الإيقاعي في رؤوس الآيات وفواصلها"
>[12] .
ونماذج التذييل كثيرة ومتنوعة، ومتكررة أيضا، تأتي مناسبة لسياقات القصة ومعناها العام، وتأكيدا على التخلق والاعتبار بصفات الله، والدعوة إلى الاختيار بين ثنائية الخير والشر أو الكفر والإيمان أو غيرها من القيم والمعاني الدينية.
ففي مطلع سورة الشعراء ترد مثلا قصة اللحظة الحاضرة والرسول صلى الله عليه وسلم باخع نفسه على آثار قومه حتى يكونوا مؤمنين، ولكنهم لا يزالون مختلفين، مكذبين، ويأتي التعقيب عليها بالآيتين الثامنة والتاسعة في قوله تعالى:
( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين *
وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) ، ثم ترد مجموعة
[ ص: 47 ] من قصص الأنبياء والأمم السابقة كموسى ونوح وثمود ولوط وأصحاب الأيكة، ليتكرر التذييل نفسه في ختام كل قصة
( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين *
وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) ، لتأكيد النتيجة الحتمية للصراع بين الحق والباطل، والتذكير بأن العزة لله، وأن الرحمة منه وحده سبحانه.
ومن أقوى التذييلات القرآنية، التذييل الذي ختم الله تعالى به قصة الجنتين في سورة الكهف، مؤكدا أن النصر لا يكون إلا من الله عز وجل:
( ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا *
هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا ) (43-44)، فبعـد سـرد القصـة، التي برزت فيها الذات الإلهية، وأشارت إلى عظمة الله في خلقه، وبطر النعمة والكفر بالخالق عز وجل، وثبات المؤمن على إيمانه مهما كانت الظروف، والتغيير الذي يحدث جراء ذلك، يأتي التذييل للتأكيد على عظمة الذات الإلهية وقوتها، ورجوع الولاية إليها. الأمر الذي يؤكد ما لهـذه السمة الجمالية في القصة القرآنية من أثر في روعة التصوير وجمال البيان، واختزال المعنى وتأكيده. ولعل المتتبع لها يكتشف أقسامها المتعدد وألوانها المتباينة.
4- الانتقاء:
وهو من أبرز خصائص القصة القرآنية، التي تبرز من خلال بعض الظواهر البلاغية كالتكرار والحذف والإضمار. فقد تكررت كثير من القصص في القرآن الكريم، لكن طريقة عرض أجزائها يتميز بالانتقاء من الأحداث والألفاظ بما يناسب السياق، الذي ترد فيه القصة.
[ ص: 48 ]
مـن ذلك، مثـلا، قصـة آدم، عليـه السـلام، فحياته حافلة بالكثير من الأحـداث، ابتداء من خـلقـه، كما أنـها حافلة بالكثير من المواقف، التي تحدد تفاعـله مـع الـكون المحيـط به، سواء في الجنة أو في الأرض، وقصته تتكرر في القرآن في عدد من السور، لكن في كل قصة ينتقى من الأحداث ما يلائم السياق، الذي وردت فيه، ففي سورة البقرة مثلا وردت قصة آدم في سياق الحديث عن وحدة الخلق، لذا كان انتقاء الأحداث ملائما لإظهار هذه الوحدة مع تكريم الله لآدم بتعليمه، أما في سورة الأعراف مثلا فقد وردت قصة آدم في سياق الحديث عن عصيان إبليس وعرض أسلوب غوايته لبني آدم.
من ذلك أيضـا ما نجـده في قصة سليمان، عليه السلام، فقد وردت في أربع سـور، وفي كل سـورة ينتقي الله تعالى جانبا منها، يتم التركيز عليه، مـن ذلك التركيز على موته، في قولـه تعـالى في سـورة سبـأ:
( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) (14).
كذلك يتضـح الانتقاء جليا في قصة موسى، عليه السلام، حيث ذكرت القصة في عدة سـور مع التركيز على أحداث دون أخرى، فمثلا تعرض القرآن لأول موقف من قصة موسى، عليه السلام، وهو إلقاؤه في اليم في عدة سور، لكن انتقاؤه للحدث يكون من أجل الكشف عن الموقف
[ ص: 49 ] الأساس منه، فمثلا في سورة القصص يكون الكشف عن شعور الأم عند تلقي أمر إلقاء ولدها في اليم في قوله تعالى:
( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) (7)، وفي سورة أخرى يكون الغرض من أمر إلقاء موسى في اليم، مناسبا لسياق العثور عليه من طرف من سيكون عدوا له، يقول تعالى:
( أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ) (طه:39).
فعرض بعض الأجزاء من القصة في سورة دون أخرى لتتناسب مع سياق الآيات يوضـح ظـاهـرة الانتـقاء، التي تتميز بها القصة القرآنية. وهذا يعني أن المهم في عرض القصص ليس التأريخ لحياة الشخصيات بتفاصيلها وأحـداثها المختلفـة، إنما المهم هو انتقاء ما يفيد الموقف ويناسب السياق، كما يفيد أن الأحداث ليست موزعة توزيعا عشوائيا، وإنما هي موزعة بدقة وروعة وإعجاز.
وتتجـلى خـاصيـة الانتـقاء كذلك في بلاغـة حذف التفـاصيـل، التي يستشفها المتلقي من السياق في بعض المواقف للدلالة على المعنى بأبلغ عبارة وأكثرها تأثيرا، كما نجد مثلا في آيتي (طه:69-70):
( وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى *
فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى ) ، فقد حذف من بين
[ ص: 50 ] الآيتين تفـاصيل كثيرة، أي: فألقى موسى عصاه بيمينه فتلقفت حبال السـحـرة، فانبهـر السحـرة ولـم يجـدوا بدا من التسليم بصدق موسى، عليه السلام، فسجدوا.
وكمـا يختار القرآن الكريـم من الأحداث ما يلائم السياق والموقف، الذي يريد إبلاغه للمتلقي، فإنه يمتاز أيضا بانتقاء الكلمات المناسبة للمعنى، أي يتمـيز بالدقـة في اختيـار الكلمات، التي تحمل دلالات عميقة، وتعبر عن أحداث كثيـرة بأقـل عدد من الكلمـات، كمـا في كلمـة (تذودان) مثـلا الواردة في قولـه تعـالى:
( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ) (القصص:23).
فهذه الكلمة بينت أن الفتاتين كانتا تحبسان أغنامهما وتمنعانها من الاختلاط بأغنام الآخرين، حتى لا يدعي أحدهم أنها له، وهذا يعني أنهما كانـتـا تـنـتـظران - لضعفهما - حـتى يخف الزحـام فتـسـقـيـان أغنامهما، وأن أغنامهما كانت تريد الذهاب إلى مورد الماء مع سائر الماشية فكانتا تمنعانها، وهذه الكلمة ساهمت في تخيلنا للموقف وما فيه من حركة، والدوافع النفسية، التي تدفعهما للتصرف بهذه الطريقة، كل ذلك لخصه القرآن الكريم في كلمة واحدة هي
( تذودان ) .
[ ص: 51 ]
ولاشـك أن هـذه الـكلمة تكشـف عن نفسية هؤلاء القوم، الذين كان يسيـطر عليهـم حب الـذات، والحرص على مصالحهم الخاصة بهم، دون الالتفات إلى حاجة الآخرين للماء، وعدم مراعاتهم لضعف هـاتين الفتاتين وكبر سـن والدهمـا، ولذلك لفـت هـذا المشهـد انتباه موسـى، عليه السـلام، وأثار تعجبـه، ولما عرف القصـة سـقى لهمـا، وهذا يدل على حسن خلقه.
ونجـد أيضـا في قـولـه تـعـالى في قصـة موسى، عليه السلام:
( فخرج منها خائفا يترقب ) فلفظة:
( ترقب ) تخفي سردا كثيفـا وتقنية بلاغية تعبر عن الانتقاء، وهي تقنية الإضمار، حيث تلخص خوف موسى وقلقه، وحركاته، وهو في التفات مستمر، يمينا وشمالا، ويمشي بخطى يشوبها كثير من الحذر.
ومما يثبت أن القرآن الكريم يميل إلى اختيار وانتقاء الألفاظ القليلة ذات المعاني والدلالات الكثيرة، أننا نجد قصة قصيرة بليغة مركزة على قوم عاد في الآيات (18-20) من سورة القمر:
( كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر *
إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر *
تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر ) ، فهذه الآيات القصيرة تحدثنا عن تكذيب قوم عاد، والعـذاب الذي حل بهم نتيجة لتكذيبهم والذي لم يبق على أحد، جزاء وفـاقا، الأمـر الذي يؤكد أن خاصيـة الانتقاء تكشف عن أسـرار كثـيرة في القصص القرآني.
[ ص: 52 ] 5- هيمنة السارد على الشخصيات والأحداث:
إن السـارد في القصـة القرآنية هـو الله سبحـانه وتعالى، وهو حاضر في نسيـج القصـص، سواء بوصفه محركا للأحداث، أم بوصفه فاعلا فيها. وإذا كان المـؤلـف لا يظـهر بصفتـه الاعتبارية في ثنايا قصصه، وإلا عد ذلك عيبا، وكان يختفي خلف أقنعة الرواة، سواء من الخلف أو بالمعية أو من الخارج، فإنه في القصة القرآنية حاضر بعلم كلي، فهو سبحانه وتعالى يعرف ما لا تعرفه الشخصيات، وإن كان في بعض الحالات يطلعها على بعض المعرفة عن طريق الوحي قبل وقوع الأحداث، مما يكسبها قوة المواجهة، ويجعلها مطمئنة عند حصول الأزمات.
كما أن السارد يتحـكم في صـيرورة الأحـداث، ويصـيرها بـإراداته كما يشاء، وتتسلسل معظم الأحداث بطريقة منطقية، إذ يهيئ لها الأسباب الطبيعية، ولكن في بعض الحالات تتأزم الأحداث فتتدخل القدرة الإلهية لتفك أزمتها وتحل عقدتها، كما هو الشأن، مثلا، في قصة إبراهيم، عليه السلام، عندما قذفه النمروذ في النار فنزل أمر الله:
( قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) (الأنبياء:69).
وقد يأتي السرد برؤية محايدة، حيث يتم تنظيم الحكي من موقع خارجي، و"تترك شخصيات السرد تتحدث بأصواتها دون تدخل، مما يعطي انطباعا
[ ص: 53 ] للمتلقي بصدق ما يتلقى، حين يجد نفسه مشاركا في الحكي بوصفه مشاهدا حـاضرا ومستمـعا لما يجرى من حـوار. تتجـلى هذه الرؤية في وظيفة الدعـوة، من قصص الأنبياء، وما يصاحبها من جدل التكذيب، حيث الحاجة إلى معرفة التفاصيل المتلبسـة بالدعوة، كعلاقة الرسول بقومه، ومنهجه في دعوتهم، وهدفه منها.
وكل هذا يجري أمام عيني المتلقي من خلال الرؤية المحايدة، فيرى بموضوعية، وعليه من ثم أن يحكم بعقله على ما رأى، وأن يجنب كل حكم للهوى، أو للعادة"
>[13] .
ورغم الحياد في بعض القصص، فإن هيمنة السارد الكلية، تتخلل السرد؛ لأن القرآن الكريم هو كتاب دعوة، تتجلى فيه الفاعلية الدالة على عظمة الخالق وقدرته في تحريك الأحداث والشخصيات والمصائر.
[ ص: 54 ]