2- مقصد الصدق والحق:
إن الحقيقة، التي لا ريب فيها أن القصة في القرآن الكريم بنيت بناء محكما على الحقائق الثابتة الخالصة من زخرف القول وباطله ونسج الخيال، وأسست على الحق والصدق والواقع، ولم يكن للخيال أو الوهم أو المبالغة مدخل إليها، قال تعالى:
( إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم ) (آل عمران:62). وهي تصور الحقائق بصدق وواقعية
( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ) (الإسراء:105)، لذا نجد أن من أهم المقاصد، التي يتلقاها متدبر القصص القرآني مقصد الحق والصدق، وهما معا يفضيان إلى دلالات مشتركة.
أ- الصدق:
ترددت لفظة الصدق في القرآن الكريم صفة لحديث الله عز وجل ولحديث رسوله صلى الله عليه وسلم في مثل قوله تعالى:
( ومن أصدق من الله قيلا ) (النساء:122)، وفي قوله:
( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) (الأحزاب:22).
ومن أبرز صفات الأنبياء الصدق، لذا وصفهم الله عز وجل بصيغة المبالغة (الصديق) في مثل قوله:
( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا ) (مريم:41). ولعظم شأن الصدق؛ فقد أمر الله -تعالى- خاتم النبيين وأفضل المرسلين أن يدعو بهذا الدعاء:
( وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ) (الإسراء:80).
[ ص: 65 ]
وعن منزلة الصدق قال ابن القيم: "وهي منزلة القوم الأعظم، الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم، الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين . وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران. وهـو سيف الله في أرضه، الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته. فهو روح الأعمال، ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين. ودرجته تالية لدرجة النبوة، التي هي أرفع درجات العالمين"
>[1] ، مصداقا لقوله تعالى:
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا *
ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ) (الأحزاب:23-24).
ب- الحق:
حق الشيء في اللغة إذا أحكم وصح وثبت وطابق الواقع الموضوعي له؛ وحققت الأمر وأحققته إذا كنت على بينة منه، ومنه سمي يوم القيامة حاقة؛ لأنها ساعة لا ريب فيها تجمع فيها الخلائق للحساب
>[2] .
[ ص: 66 ]
ويستعمـل الله عز وجـل مفردات (حـق، حقـت) كثيرا في القرآن بالمعنى المذكور.
والحق من أسماء الله الحسنى؛ لأن وجوده ثابت لا مرية فيه، وأفعاله صدق لا معقب لها ولا مستدرك،
( فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ) (يونس:32)،
( ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ) (الأنعام:62)، كما وصف الله تعالى كتابه بالحق في قوله:
( والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير ) (فاطر:31).
ولفظة الحق من الألفاظ المحورية، التي لها دلالات واسعة وحضور بارز في عديد من الآيات القرآنية، تتصل بتبيان مفاهيم الإيمان وإثبات أحكام الإسلام وقضاياه وقيمه، وتؤكد أن القرآن الكريم مصدر الحق ومنبعه، ولا يستحق الوصف بالحق على وجه الكمال إلا كتاب الله تعالى.
والحق نقيض الباطل، ومن ثم كان الحق صدقا باعتباره نقيضا للكذب.
وفضـلا عن دلالـة الحـق عـلى الصـدق فهو يدل أيضا على العدل، مما يعني أن الباطـل يدل على الظـلم باعتبار علاقة التناقض، التي تربطه بالحق. لذا كان سرده عز وجل لقصص الأمم السابقة ومواقفهم من رسلهم يطابق الحقيقـة والصدق، يقول تعالى:
( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ) (هود:120)، فهـي آية جاءت في أعقاب سـرد
[ ص: 67 ] لواقع لا ريب فيه، حيث ذكر في السورة قصـص نوح وهـود وصـالح وشعيـب ومـوسى مع أممهم، التي ظهرت في عصور متعاقبة، لتثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل المتلقين، الذين يقفون موقفا مشابها في كل مجال من مجالات الحياة.
وفي قـوله تعـالى:
( نحن نقص عليك نبأهم بالحق ) (الكهف:13) ما ينـص بصراحـة وحسم أن القصة من واقع التاريخ الحق، تقوم على حقـائـق، فضـلا عن كون ذلك تأكيدا على أنها واسطة بيانية تبليغية لناموس سماوي، غايته تجذير العقيدة وتوطيد نظام حياة متكامل للإنسانية، وتغيير ما بالنفوس من جهالة وشرك وعبودية لغير الله، نزعت منزعا واقعيا فصدرت عن مرجعيات تاريخيـة وحقـائق إنسـانية، ارتبطت بسـير الأنبياء والرسـل، عليهم السلام، في أزمنة غابرة، وبأخبارهم وصراعاتهم من أجل رسالات الله.
من هنـا كانت قصصهم القرآنية أخبارا لا يمكن إلا أن تنسجم من حيث الأصـالة والصدق مع روح الكتاب المبين، الذي لا ينطق عن الهوى، ولا يصدر عن وهم.
وكان الصدق التاريخي معيارا لحرص القرآن على إثباته وتأكيده، المرة تلو المرة
>[3] ، كي ينساب في حاضر المتلقي ويجيب عن واقعه وإشكالاته. ومما يجلي
[ ص: 68 ] مقصد الحق والصدق بوضوح، نسبة عملية القص لله عز وجل، فهو المرسل السارد والفاعل.
فـفـي الآية السـابـقـة، مثلا، نجد أنها وردت في مستهل حديثه سبحانه عن أصـحـاب الكـهـف، للتـأكيد على واقعية القصة، رغم أحداثها الخارقة، التي قـد لا يصـدقـهـا العـقـل، وعـبر عنها بنون العظمة والجلال ليزيدها وضـوحا أكثر على مستوى التوكيد المعنوي، ويعطيها مصداقية تامة لواقعيتها في سرد الأحداث.
وهـكذا الأمر في كل القصص القرآني، يقول تعالى:
( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ) (هود:120)، فما يقصه السارد الحق، يتطلب متلقيا يمتلك الأدوات الإجرائية لرؤية واستجلاء الحق والموعظـة والـذكرى، من أجـل تفعيلها في ممارساته وسلوكياته، وينفعل بها بفكره ووجدانه. فهو وإن لم يحضر أحداثها وزمانها، إلا أنها تنساب في واقعه حية، بشكل مباشر، خاصة حين يخاطبه تعالى عبر خطابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، في مثل قوله:
( وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ) (القصص:44).
[ ص: 69 ]