مع اليابان في تجربته
أود أن أذكر نموذجا فذا لطالب ياباني، أرسلته بلاده للحصول على شهادة الدكتوراه، وبعد ثماني سنوات من الكد والكدح، ترك الدكتوراه وعاد ليصنع بنفسه وخبرته محركا. إنه نموذج فريد في التنمية، يحمل شعورا عاليا بالمسؤولية.. اسم الطالب "تاكيو أوساهيرا"
>[1] ، كان يدرس في بلده فنصحه أحد أساتذته بأن يدرس الميكانيكا في جامعة "هامبرغ" ليحصل على شهادة الدكتوراه، ويبدو أن الطالب كان متفوقا، لذا لم يجد صعوبة في الحصول على ابتعاث من حكومته، كان السهم الأول إلى "تاكيو" أن يتعرف على محرك، ليعرف كيف يعمل، وقد سيطرت عليه الفكرة، حتى توصل إلى قناعة مفادها: أن سر الصناعة الغربية يكمن في هذا "المحرك"، لذا كان شوقه، بل كل أشواقه أن يتعرف على المحرك عن قرب، وكان أعظم نزهة له أن يدخل مصنعا، ليرى كيف تتم صناعة هذا "المعشوق" وكانت المفاجأة الأولى أن الجامعة قدمت له كتبا كي يقرأ، وهو يريد مصنعا ليرى.
ومع ذلك راح "تاكيو" يلتهـم الكتب، يقرأ السـاعـات، لـكن حـلـمـه لم يتحقق، ولقاه مع المعشوق تأخر، وللناس فيما يعشقون مذاهب، هذا يعشق الجمال، وذاك يعشق المال، وثالث يعشق الجاه، ولكن العاشق "تاكيو" صار يعشق "المحرك" ويموت فيه حبا، عشق غريب، أليس كذلك ياعرب؟
[ ص: 29 ]
وأخيرا، جاء الفرج، فقد قرأ في الصحف أن معرضا لمحركات إيطالية سيقام، أخذ العاشق راتبه ليدفعه ثمنا لمحرك صغير، قوة "حصانين"، دفع مرتبه كله، ولو كلفه بيع ملابسه لم يتأخر، إنه عاشق وكفى!! حمل هذه "الدرة" ووضعها في غرفته وراح يتأملها، وأشك أنه نام تلك الليلة.
راح يحدث نفسه قائلا: هنا يكمن سر قوة أوروبا، فإذا استطاعت اليابان أن تصنع مثله فسوف يتغير تاريخ اليابان.
بعد أن شبع "تاكيو" من التأمل قرر أن يفكك المحرك أولا، ثم يعيد تركيبه، ثم يحاول تشغيله بعد ذلك، فمتى حصل ذلك، فقد كشف السر الكبير.. أحضر كمية من الورق، وكلما فك قطعة رسمها وأعطاها رقما خاصا، حـتى إذا انتـهـى من ذلك، قام فأعـاد التركيب، وبادر إلى تشغيـل المحرك، فلما اشتغل، يقول "تاكيو": كاد قلبي أن يتوقف من الفرح، لقد كلفه ذلك ثلاثة أيام من العمل المتواصل، كان يتناول خلاله وجبه طعام واحدة، أما النوم فكان سويعات قليلة، هرول "تاكيو" نحو رئيس البعثة، وكان رجل دين ليخبره بما صنع، لكنه تلقى جوابا لم يكن يتوقعه، قال له: سآتيك بمحرك عاطل عن العمل، وعليك أن تفككه أولا، لتتعرف على مكان العطل والخلل، ولتقوم بإصلاحه بنفسك، ثم تشغيله، فمتى اشتغل فقد نجحت.. كانت التجربة أقسى وأكبر من شراء محرك جديد وتفكيكه وإعادة تركيبه وتشغيله، ومع ذلك قبل "تاكيو" التحدي بعزيمة وهمة عالية، لقد كلفته العملية جهدا كبيرا، لمدة عشرة أيام، حتى استطاع أن يفكك المحرك، ويتعرف على القطع، التي أصابها التلـف، فوجـدها ثلاث قطع وليست واحـدة، وكان التحـدي الثاني أكبر،
[ ص: 30 ] إذ عليه أن يصنعها بيديه، مما كلفه الالتحاق بمصنع لصهر المعادن، فترك الجامعة مؤقتا، وتحول إلى عامل سباكة، يسمع ويطيع لمدير المصنع، وصبر حتى صنع القطع، وأعاد تركيب المحرك وتشغيله، حتى شهد له المشرف بذلك، ويبدو أنه كتب بخبره إلى الإمبراطور الياباني، الذي سر بذلك أعظم السرور، فقدم هدية لهذا الطالب الجاد قدرها خمسة آلاف جنية ذهبا.
كان "تاكيو" قد أمضى بين الدراسة والتدريب ثماني سنوات، يشتغل بمعدل خمس عشرة ساعة يوميا، ويراجع ليلا ما درسه.
وحين قبض هدية الإمبراطور اتخذ قرارا بالعودة لبلاده، على أن يشتري معدات بهذا المبلغ وليصنع محركا، مهما كان الثمن.
حين وصل إلى بلاده أخبر بأن الإمبراطور يريد مقابلته، فقال: لا أستحق هذا الشرف إلا إذا قمت بصناعة محرك ياباني.. كلفه هذا التصميم أن يعمل تسع سنوات متصلة، لينجز أخيرا صنع (عشرة محركات) وليأمر الإمبراطور بتخصيص قاعة في قصره لهذه المحركات، وعندما دارت المحركات دخل "الميكادو" القاعة، وكعادة اليابانيين انحنى الكل، فابتسم الإمبراطور وقال: هذه أعذب موسيقا سمعتها في حياتي.. بعد ذلك ذهب "تاكيو" إلى المعبد ليصلي شكرا.
يقول "تاكيو": بعد ذلك نمت - لأول مرة - عشر ساعات متواصلة.. إن "تاكيو" يمثل طموح شعب بكامله، لقد ترك الدكتوراه وما تعنيه، وأنا أقول: أعطوني "تاكيو عربي" وخذوا ألف شهادة دكتوراه، والسلام.
[ ص: 31 ]