المبحث الأول: الرحلة الدينية لمجاورة المسجد الأقصى:
بناء عـلى ما سلـف من فضـل المسـجـد الأقـصى والـبركة الحاصلة فيه وما حوله من ربوع فلسطين، يعد عاملا قويا في حمل الناس عامة وأهل العلم والفضل خاصة من أجل مجاورة بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.
فمع الزمن صارت المجاورة سببا مهما ومستقلا في شد الرحال والتفكير في الاستقرار بعين المكان حتى صارت فيه ثلة من العلماء عرفوا بالمقدسيين كابني قدامة المقدسيين صاحبي المغني والشرح الكبير.
وتحكي كتب التراجم عن عبادة بن الصامت الصحابي الجليل رضي الله عنه حيث رحل لبيت المقدس وتوفي بها عام 34هـ، وكذا شداد بن أوس الأنصاري نزل بيت المقدس وتوفي بها عام 58هـ، وأبو ريحانة الأنصاري الصحابي الجليل كلهم ماتوا ببيت المقدس، وغيرهم من التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ممن نـزل هـذه الأرض المبـاركـة وجـاورها لمدة من الـزمن كـإبراهيـم بن أدهـم وأبي حامد الغزالي.. وغيرهم كثير.
فقد كان من نصيب المغاربة أن يجاوروا المكان الطيب المبارك وعلى رأسهم، الإمام محمد الطـرطـوشـي الفهري المالكي؛ بحيث رحل إلى المشـرق العربي عام 496هـ، وقدم بيت المقدس وحـج وتـفـقـه على أبي بـكر الشـاشـي وسـكن الشـام ودرس بها وكان من جملة المجـاورين لبيـت المقـدس، رحمة الله عليهم جميعا.
[ ص: 46 ]
وإذا كانت المشاعر الدينية هي الغالبة على هذه الزيارة، فإن بعض الرحالة اكتفوا بزيارة المسجد الأقصى والإكثار من الصلوات فيه ووصف أوضاعه وتاريخه كما فعل أبو القاسم الزياني في "الترجمانة الكبرى"
>[1] .
كما أن الكثير من أعلام المغرب أقاموا هناك لبضع سنوات، كأمثال الشيخ سيدي صالح حرازم المتوفى بفاس أواسط القرن السادس، والشيخ المقري التلمساني صاحب كتاب "نفح الطيب" وغيرهما.
وقد اعتاد المغاربة على الجوار بالبقعة قرب الزاوية الجنوبية الغربية لحائط الحرم وفي أقرب نقطة للمسجد الأقصى تحريا للفضل والزلفى؛ وعليه فقد أوقفها عليهم الملك الأفضل عام 589هـ، الموافق 1193م.
هـذا، وقـد حظي الجـوار المغربي للحرم المقـدسي بعناية رسمية وأهلية على مستوى الوقف. وقد نصت مختلف حجيات الوقف ووثائقه على أن المغاربة، سواء كانوا عابرين أو مقيمين، هم المعنيون وحدهم بالعقارات الموقوفة وعلى رأسها حجية أبي مدين شعيب المحررة بتاريخ: 720هـ، الموافق 1320م، وهـي على سبيـل المثال لا الحصر، حيث تنص الوثيقة على أن "كلا من قـرية عين كارم والإيـوان حبس عـلى المغـاربة المقيـمـين بالـقـدس الشـريف أو القادمين إليه"
>[2] .
[ ص: 47 ]
وفي حالة انقراض المغاربة من مدينة القدس فإن الوقف يرجع إلى المغاربة المجاورين بمكة المكرمة وبالمدينة المنورة.
وقد نصت حجية وقف السلطان الملك الأفضل نور الدين عام 589هـ/1193م، على المساواة بين جميع المغاربة في الاستفادة من العقارات الموقوفة، بل ونصت الوثيقة على أن الحارة موقوفة "على جميع طائفة المغاربة على اختلاف أوصافهم وتباين حرفهم، ذكورهم وإناثهم، كبيرهم وصغيرهم، فاضلهم ومفضولهم"
>[3] .