المبحث الثاني
مدخل إلى نظرية السياق في التراث الإسلامي
المطلب الأول: السياق عند الأقدمين بين النظرية والتطبيق:
ما من شك أن تطبيقات السياق منتشرة في كتب التراث الإسلامي بشـكل لافت، فالـكل يرجع إليه، ويستدل به، ويرجح، ويعلل.. ولا أحـد إلا ما قـل يعرج على تعريفه أو بيان كيفية دلالته بشـكل كلي أو جزئي.. فهـو عندهم من البـدهـيات الواضحـات، التي يزيدها التوضيح إشكالا.. بل لا يرون فيه لغير الملكات والأذواق مدخـلا، ولا يلجؤهم إلى التنظير لبعض جزئياته إلى احتدام النزاع في تحرير إشكال معين، ثم يقدرون تلك الضرورة بقدرها ولا يزيدون.
بل أكثر من ذلك نجـد منهم من ينكر على من يطالب المستدل بالسياق بالـبرهنة على وجه الدلالة، كما في قول ابن دقيق العيد (ت702هـ): "وهذا الطلب ليس بجيد؛ لأن هذا أمر يعـرف من سيـاق الكلام، "ودلالة السياق لا يقام عليها دليل"، وكذلك لو فهم المقصود من
[ ص: 28 ] الكلام وطولب بدليل عليه لعسر. فالناظر يرجع إلى ذوقه، والمناظر يرجع إلى دينه وإنصافه"
>[1] .
وإلى هذين الطرفين "المتناكرين" في السياق، يشير الجرجاني (ت471هـ) بقوله: "الناس بين منكر لـه من أصله، ومتخيل لـه على غير جهته، ومعتقد أنه باب لا تقوى عليه العبارة، ولا تملك فيه إلا الإشـارة.. وأن طريق التعليم إليه مسدود، وباب التفهيم دونه مغلق"
>[2] .
ورغم ذلك فقد عالجوا السياق من كل جوانبه في ثنايا مناقشاتهم وتقعيداتهم تلك لطرائق الاستدلال والتفهم، وإن لم يكثروا طرقه بالتأليف المتخصص والعنوان البارز.
ومن القلائل، الذين اقتحموا ميدان التنظير للسياق بالقصد الأصلي؛ فعنونوا به، أو عنونوا له، أو ألفوا فيه، أو تناولوه في مؤلفاتهم: الإمام الشافعي، والجرجاني، والزركشي، والشاطبي.
[ ص: 29 ]
حيـث عنـون به الإمام الشافعي (ت204هت) في رسالته، التي هي أول مؤلف في الأصول، فقال: "باب الصنف، الذي يبين سياقه معناه"
>[3] ، فـذكره بالاسـم، كمـا تناولـه بالمعنى في "باب العلل في الأحاديث" ببحـث قيم في أسباب الخلاف وأوجه التعارض الوهمي واعتبار سياقات الحال والسؤال
>[4] .
وهذا نص له يثير فيه بعض الإشكالات المتعلقة بالسياق، قال رضي الله عنه : "فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانـها على ما تعرف من معـانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها، وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر، ويستغنى بأول هذا منه عن آخره، وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه، وعاما ظاهرا يراد به الخاص، وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، فكل هذا موجود علمه؛ في أول الكلام أو وسطه أو آخره. وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله، وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، كما تعرف
[ ص: 30 ] الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها. وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثرة. وكانت هذه الوجوه، التي وصفت اجتماعها في معرفة أهل العلم منها به -وإن اختلفت أسباب معرفتها- معرفة واضحة عندها. ومستنكرا عند غيرها ممن جهل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة؛ فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه. ومن تكلف ما جهل، وما لم تثبته معرفته: كانت موافقته للصواب (إن وافقه من حيث لا يعرفه)؛ غير محمودة، والله أعلم.. وكان بخطئه غير معذور، إذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه"
>[5] .
وعقد الزركشي (ت794هـ) في "باب الأدلة المختلف فيها" مسألة لـ"دلالة السياق"، قال فيها: "دلالة السياق أنكرها بعضهم، ومن جهل شيئا أنكره، وقال بعضهم: إنها متفق عليها في مجاري كلام الله تعالى"
>[6] ، وعقد مسألة أخرى في باب العموم والخصوص عنون لها بقوله: "هل يترك العموم لأجل السياق؟"
>[7] .
[ ص: 31 ]
ويظل كتابا؛ "دلائل الإعجاز" للجرجاني (ت471هـ)، و"الموافقات" للشـاطبي (ت790هـ) أهـم المصـادر، التي اعتنت بالتنظير للسياق، في الألفية الأولى.
وقد ألف الأول لدراسة السياق خصيصا، واعتنى بسياق اللفظ أصالة وبسياق الحال تبعا له، وأما الثاني فلم يكن السياق إلا أحد اهتمامات عدة تناولها، وقد عكس الشاطبي في معالجته للسياق منهج سابقه فاعتنى بسياق الحال أصالة، وبسياق اللفظ تبعا له. وسنختار من كل واحد من الكتابين نصين يكشفان عن مستوى تناولهما للسياق من حيث مهمته وماهيته، دون أن نعلق عليهما في هذا المقام.
يقـول الإمـام الجرجاني (ت471هـ) عما يسميه "النظم" وهو "السياق اللفظي للخطاب" كما سنرى لاحـقا: "وهـو باب من العـلم إذا أنت فتحتـه اطلعـت منه على فوائد جليلة، ومعان شريفة، ورأيت لـه أثرا في الدين عظيما، وفائدة جسيمة، ووجدته سببا إلى حسم الكثير فيما يعود إلى التنزيل، وإصلاح أنواع من الخلل فيمـا يتعلق بالتأويل.. وإنه ليؤمنك من أن تغالط في دعواك، وتدافع عن مغزاك، ويربأ بك أن تستبين هدى ثم لا تهدي إليه، وتدل بعرفان ثم لا تستطيع أن تدل عليه، وأن تكون عالما في ظاهر مقلد، ومستبينا في صورة شاك. وأن يسـألك السـائل عن حجـة يلـقـى بـها الخصـم في آية من كتـاب الله تعالى أو غـير ذلك، فلا ينصـرف عنك بمقنع. وأن يـكون غاية ما لصـاحبـك منـك أن تحـيله
[ ص: 32 ] على نفسه، وتقول: قد نظرت فرأيت فضلا ومزية، وصادفت لذلك أريحية، فانظر لتعرف كما عـرفـت، وراجع نفسـك واسـبر ذوقك.. لتجـد مثـل، الذي وجـدت. فإن عرف فذاك، وإلا فبينكما التناكر؛ تنسبه إلى سوء التأمل، وينسبك إلى سوء التخيل"
>[8] .
ويقول: "واعلم أن الفائدة تعظم في هذا الضرب من الكلام، إذا أنت أحسنت النظر فيما ذكرت لك، من أنك تستطيع أن تنقل الكلام في معناه عن صورة إلى صورة، من غير أن تغير من لفظه شيئا.. أو تحول كلمة عن مكانها إلى مكان آخر؛ وهو، الذي وسع مجال التأويل والتفسير.. حتى صاروا يؤولون المعنى في الكلام الواحد تأويلين أو أكثر.. ويفسرون البيت الواحد عدة تفاسير. وهو على ذاك الطريق المزلة، الذي ورط كثيرا من الناس في الهلكة، وهو مما يعلم به العاقل شدة الحاجة إلى هذا العلم، وينكشف معه عوار الجاهل به، ويفتضح عنده المظهر الغنى عنه.. ذاك لأنه قد يدفع إلى الشيء لا يصح إلا بتقدير غير ما يريه الظاهر، ثم لا يكون له سبيل إلى معرفة ذلك التقدير إذا كان جاهلا بهذا العلم، فيتسكع عند ذلك في العمى ويقع في الضلال"
>[9] .
ويقول الإمام الشاطبي (ت790هـ): "فلا بد من ضابط يعول عليه في مأخذ الفهم.. والقول في ذلك، والله المستعان: أن المساقات تختلف
[ ص: 33 ] باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل.. وهذا معلوم في علم المعاني والبيان؛ فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم والالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية، وما اقتضاه الحال فيها؛ لا ينظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون أولها، فإن القضية وإن اشتملت على جمل، فبعضها متعلق بالبعض، لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد، فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره. وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض، إلا في موطن واحد؛ وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه، لا بحسب مقصود المتكلم"
>[10] .
ويقول: "إن علم المعاني والبيان، الذي يعرف به إعجاز نظم الكلام، فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب؛ إنما مداره على مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جـهـة نفس الخـطـاب، أو المـخـاطب، أو المخـاطب، أو الجميع. إذ الكلام الواحد يختلف فهمه؛ بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك"
>[11] .
[ ص: 34 ] المطلب الثاني: السياق عند الأقدمين؛
(الأهمية والخطورة والحاجة إلى البحث)
الفقرة الأولى: أهمية السياق وخطورته عند الأقدمين:
نورد هنا مجموعة من النصوص تشير بصراحة إلى مكانة آلية السياق وخطورتها عند الأقدمين، فمن حيث الأهمية تدور أوصافهم للسياق فيها بين الطريق والضابط والقاعدة والباب من العلم.. فالسياق عند الجرجاني، كما رأينا في نصه الأول: "باب من العلم إذا أنت فتحته اطلعت منه على فوائد جليلة، ومعـان شريفـة، ورأيت لـه أثرا في الدين عظيما، وفائدة جسيمة، ووجدته سببا إلى حسم الكثير فيما يعود إلى التنزيل، وإصـلاح أنـواع من الخلل فيما يتعلق بالتأويل"، وهو عند الشاطبي (ت790هـ): "ضابط يعول عليه في مأخذ الفهم"
>[12] .
والسياق عند ابن دقيق العيد (ت702هـ) "طريق إلى البيان"، و"قاعدة كبيرة" من قواعد أصول الفقه: "السياق طريق إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات.. وتنزيل الكلام على المقصود منه، وفهم ذلك قاعدة كبيرة من قواعد أصول الفقه (...) وهي قاعدة متعينة على الناظر، وإن كانت ذات شعب على المناظر"
>[13] .
[ ص: 35 ]
ويقول في نص آخر: "أما السياق والقرائن فإنها الدالة على مراد المتكلم من كلامه، وهي المرشدة إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات. فاضبط "هذه القاعدة" فإنها مفيدة في أماكن لا تحصى"
>[14] .
أما من حيث الخطورة فيقول عنه الجرجاني في ثاني نصيه المتقدمين: "وهو على ذاك الطريق المزلة، الذي ورط كثيرا من الناس في الهلكة"، ويقول ابن دقيق العيد في نصه السابق: إنه "قاعدة متعينة على الناظر، وإن كانت ذات شعب على المناظر"
>[15] ، ويقول الزركشي (ت794هـ): "فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظراته"
>[16] .
الفقرة الثانية: حاجة السياق إلى البحث عند الأقدمين:
ومع تلك الأهمية وهذه الخطورة، لم يحظ السياق عندهم بالتأليف المستقل ولا العـنوان البارز إلا قليلا، وهذا ما يـؤكـده ابن دقيـق العيـد (ت702هـ) بقوله: "السياق (...) قاعدة كبيرة من قواعد أصول الفقه، ولم أر من تعرض لها في أصول الفقه بالكلام عليها وتقرير قاعدتها مطولة إلا بعض المتأخرين
[ ص: 36 ] ممن أدركنا أصحابهم"
>[17] ، وهو ما يشير إليه الجرجاني (ت471هـ) بقوله: "ولم أزل منذ خدمت العلم، أنظر فيما قال العلماء (...) فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء.. وبعضه كالتنبيه على مكان الخبيء ليطلب، وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج.. وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب، فتسلكه.. وتوضع لك القاعدة لتبني عليها"
>[18] .
إلا أن تلك اللفتات النادرة، والإشارات العابرة، والتعريفات العارضة.. كفيلة -بإذن الله- إذا ما جمعت ورص بعضها إلى بعض، بأن تكشف عن بناء متكامل لنظرية السياق في التراث الإسلامي، ولقد أحسن الجرجاني الإشـارة إلى ذلك حـين قـال: "لئن أقصروا اللفظ، لقد أطالوا المعـنى، وإن لم يغرقوا في النزع، لقد أبعدوا على ذلك المرمى"
>[19] .
ولا يخفي الجرجاني صعوبة تحرير إشكالات السياق من حيث الماهية والمهمـة فيقول: "وإنه لمرام صعب، ومطلب عسير!.. ولولا أنه على ذلك لما وجدت الناس بين منكر لـه من أصله، ومتخيل لـه على غير جهته، ومعتقد أنه باب لا تقوى عليه العبارة، ولا تملك فيه إلا الإشارة.. وأن طريق التعليم إليه مسدود، وباب التفهيم دونه مغلق، وأن معانيك فيه معان تأبى أن تبرز
[ ص: 37 ] من الضمير، وأن تدين للتبيين والتصوير، وأن ترى سافرة لا نقاب عليها.. ونادية لا حـجـاب دونـها.. وأن ليـس للواصـف لها إلا أن يلوح ويشير، أو يضرب مثلا (...) من غير أن يتبع ذلك بيانا، ويقيم عليه برهانا، ويذكر له علة، ويورد فيه حجة"
>[20] .
ويقول: "لا تكون من معرفتها في شيء حتى تفصل القول وتحصل، وتضع اليد على الخصائص، التي تعرض في نظم الكلم، وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئا شيئا (...) وإذا نظرت (...) هذا النظر (...) احتجت إلى صبر على التأمل، ومواظبة على التدبر، وإلى همة تأبى لك أن تقنع إلا بالتمام، وأن تربع إلا بعد بلوغ الغاية، ومتى جشمت ذلك، وأبيت إلا أن تكون هنالك، فقد أممت إلى غرض كريم، وتعرضت لأمر جسيم، وآثرت، التي هي أتم لدينك وفضلك، وأنبل عند ذوي العقول الراجحة لك.. وذلك أن تعرف حجة الله تعالى من الوجه، الذي هو أضوء لها وأنوه لها، وأخلق بأن يزداد نورها سطوعا، وكوكبها طلوعا.. وأن تسلك إليها الطريق، الذي هو آمن لك من الشك، وأبعد من الريب، وأصح لليقين، وأحرى بأن يبلغك قاصية التبيين"
>[21] .
[ ص: 38 ]
تواتر هذه النصوص على حاجة السياق إلى مزيد من البحث والتحرير، والتحصيل والتفصيل، والتسمية والتبيين.. وإغراءاتها بخوض غمار ذلك بالبحث والتـأمل والتنظير.. دفعتنا إلى التصدي للهدف، الذي لخصه الجرجاني (ت471هـ) بقوله: "بقي أن تعلمونا مكان المزية في الكلام، وتصفوها لنا، وتذكروها ذكرا، كما ينص الشيء ويعين، ويكشف عن وجهه ويبين"
>[22] .
خصوصا بعدما تبلدت الملكات، وتبدلت الأذواق، وانتشرت التأويلات.. فكانت الحاجة إلى وضـع النقـاط على الحـروف أكثر إلحـاحـا، حتى لا يبقى السياق وقضايا الملكات، والأذواق، والأحاسيس، والمواجيد، والقصود.. مطايا مذللة يعتلي صهواتها كل من أراد من أصحاب الأهواء والنحل أن يوجد لباطله تأشيرة دخول إلى ساحة الرأي الفقهي أو الأخلاقي أو العقدي..
وكنا قد انتهينا في بحثنا السابق؛ "مفهوم السياق وأسس نظريته في التراث الإسلامي"، إلى تعريف "نظرية السياق" بأنها: "مجموع ما تلزم معرفته من القواعد والضوابط؛ لحصول العلم بالسياق من حيث الماهية والمهمة"،
[ ص: 39 ] وقلنا بلغة العصر "التقنية": "إن "نظرية السياق"، تقدم السياق عبر دليلين؛ "دليل تركيبه"، و"دليل تشغيله""
>[23] .
وتبعا لذلك تقوم "نظرية السياق" على ركنين؛
أولهما: العلم بماهية السياق، التي نجملها في أربعة أركان؛ "مقال يتضمن، ومقام يكتنف، ونسق يحتضن، وقرينة تقتضي"،
وثانيهما: العلم بمهمة السياق ونختصرها في ثلاثة محاور؛ "لبس يعالج، وقصد يطلب، ومقتضيات توازن"، وحول هذه "العناوين السبعة" تدور الفصول الأساسية في هذه الأطروحة الموزعة إلى بابين يختص كل واحد منهما بمعالجة ركن من ركني "نظرية السياق".
[ ص: 40 ]