المبحث الأول
منهج الحمل ومساراته
يمكننا أن نصور منهجهم في "استثمار الخطاب" وفق مسار عام تكون فيه "نقطة الانطلاق هي مقتضى اللفظ، والوجهة هي قصد المتكلم، والطريق هو مقتضيات المقام والنسق، والبوصلة هي القرينة".
ونعني بذلك؛ أن "يعتمد الناظر المقتضى الظاهري للمقال معنى أوليا مؤقتا، ثم يبحث في ذات المقال وفي مقامه ونسقه عن قرائن تعين ذاك المعنى، أو ترجحه، أو تستبعده، أو تمنعه، أو تجعله محتملا مستوي الطرفين إلى جانب معنى أو معاني أخر".
ثم يكون ما ينتهي إليه هو المعنى النهائي بالنسبة إليه، فإن وافق قصد المتكلم حقيقة كان مصيبا في حمل الخطاب على معناه، وكان ذلك هو تطابق الدلالتين الحقيقية والإضافية للخطاب حسب تعبير ابن القيم، وإن لم يوافق قصد المتكلم كان مخطئا في حمل الخطاب على ذاك المعنى، وكان ذلك هو تباين الدلالتين الحقيقية والإضافية للخطاب حسب تعبير ابن القيم دائما.
وسنحاول هنا أن نلم بعض شتات القواعد والضوابط التي أثمرتها تأملات الأقدمين، وحفلت بها مناقشاتهم واستطراداتهم.. لنشكل بمجموعها قانونا يضبط سير الناظر في رحلته عبر الخطاب وسياقه للوقوف على قصد المتكلم.
[ ص: 153 ]
وقد أجملنا ذلك في "ضابط كلي" واحد، هو: "الترجيح بين المعاني بحسب المقتضيات"، ثم فصلناه في "تسع مسارات جزئية" سنرتبها على حسب مباحث الدلالة؛ التي يحلو لي إعادة رسم خارطتها وترتيبها وفق خمسة مباحث
>[1] ، هي؛ طرق الدلالة، ومسالك الدلالة، وصيغ الدلالة، وأوجه الدلالة، ومراتب الدلالة. فلنخصص لمسارات الحمل في كل مبحث منها مطلبا.
المطلب الأول: مسارات الحمل في طرق الدلالة:
نعني بطرق الدلالة "الخيارات" المتاح للمتكلم سلوكها للدلالة باللفظ على المعنى، وهي ست طرق؛ فإما أن يدل باللفظ على المعنى بطريق الوضع، أو بطريق الاستعمال، أو بطريق الحقيقة، أو بطريق المجاز، أو بطريق الصريح، أو بطريق الكناية. ونجمل مسارات الحمل عليها في ثلاث مسارات؛
المسار الأول: حسم التردد بين الوضع والاستعمال:
يصرح الطبري (ت310هـ) بأن دلالة الاستعمال تعتبر أصلا لا يمكن العدول عنه إلا بقرينة توجب ذلك فيقول: "وغير جائز لأحد نقل الكلـمة التي هي الأغلب فـي استعمال العرب علـى معنى، إلـى غيره إلا بحجة يجب التسلـيـم لها"
>[2] .
[ ص: 154 ]
ويؤكد الشاطبي (ت790هـ) ذلك، ويقرر فيه قاعدته: "القاعدة في الأصول العربية؛ أن الأصل الاستعمالي إذا عارض القياسي، كان الحكم للاستعمالي"
>[3] ، ثم يستثني منها ما أرشدت قرينة خاصة إلى استثنائه: "ففي هذا ما يدل على صحة الأخذ بالعموم اللفظي، وإن دل الاستعمال اللغوي أو الشرعي على خلافه"
>[4] .
وينقل لنا ابن رشد الحفيد (ت595هـ) وجهة نظر الإمام مالك رضي الله عنه في ترتيب بعض الدلالات، فيقول: "وأما مالك فإن المشهور من مذهبه أن المعتبر أولا عنده في الأيمان التي لا يقضى على حالفها هو النية، فإن عدمت فقرينة الحال، فإن عدمت فعرف اللفظ، فإن عدم فدلالة اللغة"
>[5] ، فنراه يقدم عرف الاستعمال على دلالة الوضع، وإن قدم عليهما شاهد الحال، وقدم على الجميع قصد المتكلم الذي عبر عنه بالنية.
المسار الثاني: تمييز الحقيقة من المجاز:
يقول ابن عصفور (ت663هـ): "الكلام لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة، إلا أن يكون في الكلام كما تقدم قرينة، فتكون تلك القرينة مرجحة لجانب المجاز على جانب الحقيقة"
>[6] .
[ ص: 155 ]
ويسجل الآلوسي (ت1270هـ) في هذا المقام إحدى لفتاته التقعيدية الدقيقة، قائلا: "نصب القرينة المانعة في المجاز إنما يشترط في تعينه دون احتماله، فإذا تضمن نكتة ساوى الحقيقة، فيمكن الحمل عليهما؛ نظرا إلى الأصالة والنكتة"
>[7] .
وينظر الشوكاني (ت1255هـ) -وهو يناقش بعض آراء منكري المجاز- للفرق بين الحقيقـة والمجـاز، معتبرا أنه القرينة، فيقول: "اللفظ الذي لا يفيد إلا مع القرينة هو المجاز، ولا يقال: اللفظة مع القرينة حقيقة فيه، لأن دلالة القرينة ليست دلالة وضعية، حتى يجعل المجموع لفظا واحدا دالا على المسمى"
>[8] .
وقبل هؤلاء كلهم سعى الإمام الشاشي (ت344هـ) لتفصيل ما يعدل به عن الحقيقة إلى المجاز، فحصره في: "خمسة أنواع؛ أحدها: العرف، وذلك أن ثبوت الأحكام بالألفاظ إنما كان لدلالة اللفظ على المعنى المراد للمتكلم (...) الثاني: قد تترك الحقيقة بدلالة في نفس الكلام (...) الثالث: قد تترك الحقيقة بدلالة سياق الكلام (...) الرابع: قد تترك الحقيقة بدلالة من قبل المتكلم (...) الخامس: قد تترك الحقيقة بدلالة من محل الكلام"
>[9] .
[ ص: 156 ]
وتبعه البزدوي (ت482هـ)، فقال: "باب جملة ما يترك به الحقيقة، وهو خمسة أنواع: قد تترك بدلالة الاستعمال والعادة، وقد تترك بدلالة اللفظ في نفسه، وقد تترك بدلالة سياق النظم، وقد تترك بدلالة ترجع إلى المتكلم، وقد تترك بدلالة في محل الكلام"
>[10] . وتبعهما الإمام السرخسي
>[11] (ت483هـ)، على نفس الترتيب.
وإذا أعدنا النظر إلى هذه الأنواع الخمسة التي اتفقوا عليها، وجدناها تعود كلها إلى السياق بشكل مباشر.
المسار الثالث: جعل الكنايات صرائح:
ذلك ما يؤكده علاء الدين المرداوي (ت885هـ)، نقلا عن ابن عقيل: "واختار ابن عقيل: أن ألفاظ الكنايات مع دلالة الحال: صرائح"
>[12] ، ويؤكده كذلك مجد الدين ابن تيمية (ت653هـ) فيقول: "دلالة الحال في الكنايات تجعلها صريحة، وتقوم مقام إظهار النية"
>[13] ، وقبلهما بقرون يسجل ابن فرقد
[ ص: 157 ] (ت189هـ) ما يشبه الاستثناء من قاعدتهما هذه، فيقول: "ويسقط اعتبار دلالة الحال إذا جاء التصريح بخلافها"
>[14] ، ويقول: "وإنما تعتبر دلالة الحال والمقصود بالكلام إذا لم يوجد التنصيص بخلافه"
>[15] ، ويعضد هذا الاستثناء ابن الصدر (ت570هـ) بقوله: "دلالة الحال إنما تعتبر إذا لم يوجد الصريح بخلافها"
>[16] ، ويعلله ابن قدامة (ت620هـ) فيقول: "لأن صريح قوله يقدم على ما تقتضيه دلالة الحال"
>[17] ، وقد مر بنا آنفا تقديم مالك لنية الحالف على دلالة الحال، ومر بنا كذلك قول ابن تيمية (ت728هـ) في تفسير هذه النية: "كقول الحالف: أردت كذا".
وقد عرف المناوي (ت1031هـ)، الكناية مبينا علاقتها بالحقيقة والمجاز وحـاجتـها إلى قرينـة تـتكشف معنـاها، فـقـال: "الكناية كلام استتر المراد منه بالاسـتعـمـال، وإن كان معناه ظاهرا في اللغة، سـواء كان المـراد به الحقيقة أو المجاز، فيكون تردده فيما أريد به، فلا بد فيه من النية أو ما يقوم مقامها من دلالة الحال ليزول التردد، ويتعين ما يريد به. والكناية عند علماء البيان أن
[ ص: 158 ] يعبر عن شيء بلفظ غير صريح في الدلالة"
>[18] ، وقد وردت في القرآن الكريم عدة كنايات كقوله تعالى:
( أو لامستم النساء ) (النساء:43؛ المائدة:6)، وقوله:
( كانا يأكلان الطعام ) (المائدة:75).
المطلب الثاني: مسارات الحمل في مسالك الدلالة:
نعني بمسالك الدلالة "الجهات" التي يمكن أن يدل من خلالها اللفظ الواحد على معانيه، وهي أربعة؛ فإما أن يدل بمسلك العبارة، أو بمسلك الإشارة، أو بمسلك التنبيه، أو بمسلك الاقتضاء.
ونلخص مسار الحمل في مسالك الدلالة في: إبراز ما وراء اللفظ والقصد الأصلي من معان.
إذ الإجماع منعقد أنه لا يتميز شيء منها عن غيره إلا بقرينة من السياق، ذلك أن ما أفاده الخطاب في محل النطق "وكان مسوقا له" فهو الاستدلال بالعبارة، وما أفاده في محل النطق "ولم يكن مسوقا له" فهو الاستدلال بالإشارة، وما أفاده "نظم الخطاب" لا في محـل النطق فهو دلالة الخـطاب
[ ص: 159 ] أو تنبيه الخطاب بالأحرى
>[19] ، ثم ما توقفت عليه صحة الخطاب لغة أو شرعا أو عقلا، هو اقتضاء الخطاب.
قال السرخسي (ت483هـ) مبينا مسالك استخلاص المعاني من الألفاظ؛ "دون القياس والرأي": "هذه الأحكام تنقسم أربعة أقسام؛ الثابت بعبارة النص، والثابت بإشارته، والثابت بدلالته، والثابت بمقتضاه. فأما الثابت بالعبارة فهو "ما كان السياق لأجله"، ويعلم قبل التأمل أن ظاهر النص متناول له. والثابت بالإشارة "ما لم يكن السياق لأجله" لكنه يعلم بالتأمل في معنى اللفظ من غير زيادة فيه ولا نقصان"
>[20] .
ومن تطبيقاتهم في ذلك استدلال الغزالي (ت505هـ) على لحوق كل شاغل عن الجمعة بالبيع بدلالة "أن الآية إنما نزلت وسيقت لمقصد وهو بيان أحكام الجمعة، وما نزلت الآية لبيان أحكام البياعات"
>[21] .
[ ص: 160 ]
وقـال الجـويـني (ت478هـ)، مبيـنـا تعلـق المفاهيم بالسيـاق: "الفحوى لا استـقلال لهـا، وإنـما هي مقتضى لفظ على نظم ونضد مخصوص"
>[22] ، وقال الغزالي (ت505هـ): "فهم غير المنطوق به من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده"
>[23] ، وقال ابن قدامة (ت620هـ): "التنبيه وهو فهم الحكم في المسكوت من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده"
>[24] .
ويشير ابن القيـم (ت751هـ) إلى هـذه الدلالات ضـمن حديثه عن تفاوت مراتب النظار في الفهم، فيـقـول: "والمقـصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص؛ وأن منهم مـن يفـهـم مـن الآية حكما أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتـصر في الفهم على مجـرد اللفظ دون سياقه، ودون إيمائه، وإشارته، وتنبيهه، واعتباره"
>[25] .
[ ص: 161 ] المطلب الثالث: مسارات الحمل في صيغ الدلالة:
نعني بصيغ الدلالة "القوالب" التي يحمل بها اللفظ معاني معينة، ونخص منها ما له تعلق بالأحكام، وينحصر في أربع صيغ، هي: الإخبار، والاستخبار، والأمر، والنهي.
وينحصر مسار الحمل في صيغ الدلالة في: تعين معاني الصيغ.
قـال الطـبري (ت310هـ): "إن لـكل حرف من حروف الـمعانـي وجـها هـو بـه أولـى من غـيره، فلا يصلـح تحويـل ذلك عنه إلـى غيره، إلا بحجة يجب التسلـيـم لها"
>[26] ، ويمثل الشاطـبي (ت790هـ) لـذلك فيـقول: "كالاستفهام لفظه واحد؛ ويدخله معان أخر من تقرير، وتوبيخ، وغير ذلك.. وكالأمر؛ يدخله معنى الإباحة، والتهـديد، والتعجيز، وأشباهها.. ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة وعمدتها مقتضيات الأحوال"
>[27] .
ولهذا يكثر في تعليقاتهم على معـاني الحروف ومعانـي الصيغ، قولـهم: "ولا يتميز ذلك إلا بما يقتضيه الحال وسياق الكلام"
>[28] .
[ ص: 162 ] المطلب الرابع: مسارات الحمل في أوجه الدلالة:
نعـني بأوجـه الـدلالـة "نـوعية" دلالـة اللفظ على معناه من حيث السعة والضيق، فإما أن يدل على ما يصلح له بوجه "الاستغراق" فيكون عاما، أو بوجه "التعيين" فيكون خاصا، أو بوجه "الشيوع التام" فيكون مطلقا، أو بوجه "الشيوع الناقص" فيكون مقيدا. ونجمل مسار الحمل في أوجه الدلالة في "توسيع الدلالة وتضييقها"، ويتم ذلك عبر مسارين فرعيين؛
المسار الأول: توسيع الدلالة وتضييقها تعميما وتخصيصا:
يقول ابن القيم (ت751هـ): "فاللفظ الخاص قد ينتقل إلى معنى العموم بالإرادة والعام قد ينتقل إلى الخصوص بالإرادة"
>[29] ، ويقول الرازي (ت606هـ): "وأما المخصص للعموم فيقال على الحقيقة على شيء واحد؛ وهو إرادة صاحب الكلام، لأنها المؤثر في إيقاع ذلك الكلام لإفادة البعض، فإنه إذا جاز أن يرد الخطاب خاصا، وجاز أن يرد عاما، لم يترجح أحدهما على الآخر إلا بالإرادة"
>[30] ، ويقول: "وأما الذي يصير به العام خاصا، فهو قصد المتكلم"
>[31] ، ويقول الجويني (ت478هـ): "وكم من لفظ يراه كثير من الناس عاما، ولا عموم له عند ذوي التحقيق"
>[32] .
[ ص: 163 ]
ويفصل ابن دقيق العيد (ت702هـ)، فيقول: "إن الألفاظ العامة بوضع اللغة على ثلاث مراتب: أحدها: ما كان فيه قرينة تدل على عدم قصد التعميم (...)، الثاني: ما ظهر فيه قصد التعميم بأن أورد مبتدأ لا على سبب، لقصد تأسيس القواعد. والثالث: ما لم تظهر فيه قرينة زائدة تدل على التعميم ولا قرينة تدل على عدم التعميم"
>[33] .
ويقرر الطـبري (ت310هـ) قاعـدته في إجراء الألفـاظ على عمومها، إلا أن تـخـصـصها قـريـنة من السـيـاق، فيـقول: "وغير جائز ادعاء خصـوص فـي آية عـام ظاهرها، إلا بحجة يجب التسلـيـم لها"
>[34] ، ويقول: "فغير جائز أن يصرف ما عمه الله تعالـى إلـى الـخصوص، إلا بحجة يجب التسلـيـم لها"
>[35] .
المسار الثاني: توسيع الدلالة وتضييقها إطلاقا وتقييدا:
قال ابن فرقد (ت189هـ): "مطلق الكلام يتقيد بما هو المعلوم من دلالة الحـال"
>[36] ، وقال الجـويـني (ت478هـ): "إن الصيغـة التي تسـمى مـطـلـقـة لا تكون إلا مقترنة بأحوال تدل على أن مطلقها ليس يبغي بإطلاقها حكاية، وليس هاذيا بها، فإذا لا تلقى صيغة على حق الإطلاق"
>[37] .
[ ص: 164 ]
وقال ابن تيمية (ت728هـ): "كل لفظ مقيد مقرون بغيره، ومتكلم قد عرفت عادته، ومستمع قد عرف عادة المتكلم بذلك اللفظ، فهذه القيود لا بد منها في كلام يفهم معناه، فلا يكون اللفظ مطلقا عنها"
>[38] .
ومرادهم هو إثبات تخصيص مطلق اللفظ بمقتضيات سياقه، لا نفي وجود الإطلاق من حيث هو.
المطلب الخامس: مسارات الحمل في مراتب الدلالة:
نعني بمراتب الدلالة "درجات" دلالة اللفظ على معناه من حيث الوضوح والخفاء، وفيها التقسيمان المعروفان للجمهور والأحناف. ونجمل مسارات الحمل فيها في مسارين بارزين؛
المسار الأول: تغيير حكم الأقوال والأفعال:
ويتجلى ذلك في تغيير دلالة النص، وتغيير دلالة الظاهر، فنفرد لكل منهما فقرة خاصة.
الفقرة الأولى: تغيير السياق لدلالة النص:
إذا كان الخطاب نصا في معنى معين بمقتضى لفظه، ثم قامت القرائن الأخرى في مقامه وفي نسقه بتأكيد ذلك المقتضى، كان ذلك نورا على نور، وحجة إلى حجة، فلم يحتج مثل هذه الصورة إلى كثير تنظير وتقعيد.
[ ص: 165 ]
لكن اللافت حقا، والأولى بمزيد من المناقشة والتأمل في هذا المقام، هو أن الخطاب قد يكون نصا في معنى معين بمقتضى لفظه، ولكن القرائن المرشدة إلى قصد المتكلم في مقامه وفي نسقه.. قد تعدل به عما هو نص فيه إلى نقيضه الذي لا يحتمله البتة بمقتضى وضعه ولا بمقتضى استعماله، ثم يكون نصا قاطعا فيما نقلته إليه تلك القرائن. وهذا ما يشير إليه الإمام الغزالي (ت505هـ) حين يقول: إنه بقرائن الأحوال "يعلم قصد المتكلم، إذا قال: السلام عليكم؛ أنه يريد التحية أو الاستهزاء واللهو"
>[39] .
وقد اعتنى الأصوليون والفقهاء بهذه النقطة عناية أزاحت عنها كل لبس وغموض، ومن ذلك قول ابن قدامة (ت620هـ): "دلالة الحال تغير حكم الأقوال والأفعال، فإن من قال: يا عفيف ابن العفيف حال تعظيمه، كان مدحا، وإن قاله حال الشـتم، كان قذفا وذما، ولو قال: إنه لا يغدر بذمة، ولا يظلم حبة خردل، وما أحد أوفى ذمة منه؛ في حال المدح كان مدحا بليغا، كما قال حسان:
فما حملت من ناقة فوق رحلها أبر وأوفى ذمة من محمد
ولو قاله في حال الذم كان هجاء قبيحا، كقول النجاشي:
قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
[ ص: 166 ]
(...) ولولا القرينة ودلالة الحال كان من أحسن المدح وأبلغه.. وفي الأفعال لو أن رجلا قصد رجلا بسيف، والحال يدل على المزح واللعب لم يجز قتله، ولو دلت الحال على الجد جاز دفعه بالقتل"
>[40] .
وقد تقدمت قاعدة الإمام الرازي (ت606هـ) في هذا المعنى، حيث يقول: "فكل صفة وقعت في سياق المدح كانت مدحا، وكل صفة وقعت في سياق الذم كانت ذما، فما كان مدحا بالوضع فوقع في سياق الذم صار ذما واستهزاء وتهكما بعرف الاستعمال"
>[41] ، ولعل الصواب أن يقول: "بقصد المتكلم"، لأنه المؤثر حقيقة في هذه الصيغ، إذ لا يلزم تقدم استعمال لهذه الصفات في خلاف مدلولها، حتى نقول بأنها نقلت بعرف الاستعمال، بل الواقع أنها نقلت بقصد المتكلم واستعماله الوقتي العارض، لا المعهود المتعارف.
وقد بنى الفقهاء على ذلك أحكاما، كما مر آنفا في نص ابن قدامة، وكما في قول الباجي (ت474هـ) في شرحه للموطأ: "(مسألة) ومن قال لرجل يا ابن العفيفة؛ فقد قال ابن وهب بلغني عن مالك: يحلف ما أراد القذف، ويعاقب. وقال أصـبغ: إن قاله على وجه المشـاتمة حد"
>[42] ، وفي
[ ص: 167 ] رسائل الثعالبي: "ورب إشارة أبلغ من عبارة، وتعريض أوقع من تصريح، ولسان حال أنطق من لسان مقال"
>[43] .
الفقرة الثانية: تغيير السياق لدلالة الظاهر:
إذا كان الخطاب ظاهرا في معنى معين بمقتضى لفظه، ثم قامت القرائن الأخرى في مقامه وفي نسقه بتأكيد ذلك المقتضى، ارتفع بتلك القرائن فأصبح نصا قاطعا في تلك الدلالة، وأما إذا تعارضت تلك القرائن مع ما كان الخطاب ظاهرا فيه، فإنها قد تنزله من مستوى الظاهر إلى مستوى المؤول، فيحمل على المعـنى الخـفي بـمقتـضى اللفظ، القوي بمقتضى القرائن، وإذا خلا من الحالين لـم يـجز صرفه عن ظاهره، ولا الحكم بقطعيته. وهذا ما يجمله الطـوفي (ت710هـ)، بقـوله: "قـد يكون لفظ أظهر في المراد من لفظ، وقد تقترن به قرينة: لفظية، أو معنوية، أو حالية؛ توجب لـه زيادة الظهور، فتختلف مراتبه بذلك"
>[44] .
والحاصل أن الصور المحتملة في الظاهر بعد النظر في القرائن ثلاثة؛
الصورة الأولى: ارتفاعه إلى درجة النص؛ وفيها يقول الجويني (ت478هـ): "وكم من لفظ يعتقده الفقهاء ظاهرا، وهو عند ذوي التحقيق
[ ص: 168 ] نص"
>[45] ، وقد بين مراده في موضع آخر بقوله: "المقصود من النصوص الاستقلال بإفادة المعاني، على قطع مع انحسام جهات التأويلات، وانقطاع مسالك الاحتمالات. وهذا وإن كان بعيدا حصوله بوضع الصيغ، ردا إلى اللغة؛ فما أكثر هذا الغرض مع القرائن الحالية والمقالية"
>[46] ، وفي المعنى ذاته يقول التلمساني (ت771هـ): "واعلم أنه قد يتعين المعنى ويكون اللفظ نصا فيه بالقرائن والسياق، لا من جهة الوضع"
>[47] ، وهو ما يشير إليه الشاطبي (ت790هـ) بقوله: "صار ظاهره باحتفاف القرائن به إلى منزلة النص القاطع الذي لا احتمال فيه"
>[48] .
الصورة الثانية: نزوله إلى درجة المؤول، وفيها قال الشاطبي: "المسألة السادسة: شرط التأويل صحة المعنى؛ (...) إن قبله اللفظ؛ فإما أن يجري على مقتضى العلم أو لا، فإن جرى على ذلك فلا إشكال في اعتباره"
>[49] ، فيركز على شرطين اثنين لإثبات صحة التأويل، هما موافقة مقتضى المقال، والملاءمة للمقام والنسق، اللذين أجملهما في قوله: "أن يجري على مقتضى العلم"، سواء حصل ذلك العلم بـمـقـتـضى خـطابات أخـرى، أو بشواهد أحوال، أو باقتضاء عقل.
[ ص: 169 ]
ثم يبين مقصـوده بالأمثـلة، فيقول: "ومثاله تأويل من تأول لفظ الخليل في قوله تعالى:
( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) ؛ (النساء:125) بالفقير، فإن ذلك يصير المعنى القرآني غير صحيح، وكذلك تأويل من تأول غوى من قوله:
( وعصى آدم ربه فغوى ) (طه:121)؛ أنه مـن غوي الفصـيل، لعدم صحـة غـوى بـمـعـنى غـوي، فـهـذا لا يصـح فيه التأويل من "جهة اللفظ"، والأول لا يصـح فيـه مـن "جهة المعنى"، ومثال "ما تخلفت فيه الأوصاف" تأويل بيان بن سمعان في قوله تعالى:
( هذا بيان للناس ) (آل عمران:138)"
>[50] . ويعني بتخلف الأوصاف عدم صحة التأويل "من الجهتين" من جهة المعنى، ومن جهة اللفظ.
ومن أمثلة التأويل القريب المقبول ما "قيل في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم :
( لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ) تحـمله على القضـاء أنه من هذا القبيل، لأن التطوع غير مراد فلا ينفي إلا الفرض الذي هو ركن الدين وهو صوم رمضان، والقضاء"
>[51] .
ويقول ابن القيم (ت751هـ) في معرض حديثه عن التأويلات الفاسدة: "تأويل اللفظ بمعنى لم يدل عليه دليل من السياق ولا قرينة تقتضيه؛ فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه، إذ لو قصده لحف بالكلام قرائن تدل على
[ ص: 170 ] المعنى المخالف لظاهره حتى لا يوقع السامع في اللبس، فإن الله أنزل كلامه بيانا وهدى، فإذا أراد خلاف ظاهره ولم يحف به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره إلى فهم كل أحد؛ لم يكن بيانا ولا هدى"
>[52] .
الصورة الثالثة: إجراؤه على ظاهره، استصحابا للأصل عند عدم القرينة المقوية أو المؤولة، قال الطبري (ت310هـ): "غير جائز إخراج ما كان ظاهر الآية مـحتمله من حكم الآية، إلا بحجة يجب التسلـيـم لها"
>[53] ، ويتأكد هذا الأمر عنـدهم إذا تعلـق النظـر بحروف المعاني لكثرة محاملها رغم ظهورها في ما هي أصل فيه، وقد بينا من ذلك نماذج وذكرنا بعض أقوالهم فيها في المطلب الثالث المتعلق بصيغ الدلالة.
المسار الثاني: قصر المشترك على أحد معانيه:
قـال الطـبري (ت310هـ): "الـكلـمة إذا احتملت وجوها لـم يكن لأحـد صرف معنـاهـا إلـى بعض وجـوهـها دون بعض، إلا بحجة يجب التسلـيـم لها"
>[54] .
[ ص: 171 ]
ومن تطبيقاتهم قول ابن الهائم (ت815هـ): إن في لفظ الخليل تفسيرين؛ أحدهما: الصديق، والثاني: المصطفى، ثم قال مرجحا الثاني: "وهذا التفسير صواب. والذي قبله بعيد عن الصواب في هذا المقام، وإن صح لغة"
>[55] .
وقد نص الزركشي (ت794هـ) على أن: "دلالة السياق (...) ترشد إلى تبيين المجمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد"
>[56] ، وأورد قول ابن دقيق العيد (ت702هـ) في معاني أداة التعريف: "وعندنا أن هذا مختلف باختلاف السياق ومقصود الكلام، ويعرف ذلك بقرائن ودلالات منه"
>[57] .
وفي خلاصة مجملة لما ورد في هذا المبحث؛ يمكننا أن نستخلص أن المسارات التسع التي حددنا للحمل موزعة على مباحث الدلالة تشترك في مقصد كلي واحد، وهو: "الترجيح بين المعاني بحسب المقتضيات".
وهذا ما يشير إليه الطبري (ت310هـ)، بقوله: "فغير جائز صرف الكلام عما هو فـي سياقه إلـى غيره إلا بحجة يجب التسلـيـم لها من دلالة ظاهر التنزيـل أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم تقوم به حجة، فأما الدعاوي فلا تتعذر علـى
[ ص: 172 ] أحد"
>[58] ، وقوله: "توجيه الكلام إلى ما كان نظيرا لما في سياق الآية أولى من توجيهه إلى ما كان منعدلا عنه"
>[59] .
وهو ما لخصه ابن بدران (ت507هـ)، بقوله: "والقاعدة الكلية في الـتـرجيـح أنه مـتـى اقـترن بأحد الدليلين المتعارضين أمر نقلي؛ كآية أو خبر، أو اصطلاحي؛ كعرف أو عـادة، عاما كان الأمر أو خاصا، أو قرينة عقلية، أو لفظية، أو حالية، وأفاد ذلك زيادة ظن رجح به"
>[60] .
وقد لخصه من بعدهما العز بن عبد السلام (ت660هـ)، بقوله: "قد يتردد المعنى بين محامل كثيرة يتساوى بعضها مع بعض، ويترجح بعضها على بعض، وأولى الأقوال ما دل عليه الكتاب في موضع آخر أو السنة، أو إجماع الأمة، أو سياق الكلام. وإذا احتمل الكلام معنيين وكان حمله على أحدهما أوضح وأشد موافقة للسياق، كان الحمل عليه أولى"
>[61] .
[ ص: 173 ]