صفحة
5
المستخلص:
من المقرر أن الفقه يتطور بتطور الواقع، وينكمش بانكماشه، ولا يكتفى منهجيا في موضوع الفتوى من الوصول إلى معرفة الحكم الشرعي، بل لابد من دراسـة محل الحكم، بـتـركيباته المعـقدة، وإلا لانتـهى الأمر إلى أراجيز حفظية لا نصيب لها من الواقع، ولا أدل على ذلك في تاريخ الفقه الإسلامي من نمو فقه الحياة الخاصة من عبادات ومعاملات وأحوال شخصية دون فقه الحياة العامة من نظرية ونظم سياسية وعلاقات دولية؛ لتفاعل الأول مع الواقع، وانكماش الثاني والرغبة عنه فانحط الإنتاج فيه كيفا وكما. وهذا لا يعني خضوع الفقه للواقع بل يعني أن الفقه لابد أن يكون واقعيا.
هذا، والأحكام الشرعية إنما وضعت لتحقيق المصالح على أساس من العموم. وتؤول عند تنزيلها على الواقع إلى تحقيق المصلحة المبتغاة منها، إلا إنها في بعض الأحيان قد لا تؤدي إلى تلك المصلحة المبتغاة، بل قد تؤدي إلى نقيضها من المفسدة، ويؤول تنزيل الحكم الأصلي عليها إلى المفسدة من حيث أريد به تحقيق المصلحة؛ ومن ثم وجب على المفتي أن يعدل به إلى حكم آخر يتفادى المفسدة ويتحرى المصلحة.
ولذا، قالوا: تتغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال والنيات والعوائد، وقعدوا عددا من القواعد تتعلق بدواعي تغير الأحكام، منها: قاعدة سد الذرائع، وقاعدة العادة محكمة، والضرورة تبيح المحظورة وتقدر بقدرها، كما فرقوا بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل، فاعتبروا الوسائل أخفض رتبة من المقاصد في حكمها ثم إن الوسائل بطبيعة الحال لابد متغيرة... الخ. [ ص: 5 ]
وعلى ذلك: يعد إدراك الواقع بمتغيراته وبمناهجه المختلفة ركنا أساسيا من أركان الفتوى، وإلا نزل المفتي الحكم على غير محله، وقد يؤول به الأمر إلى الشذوذ.
وقد احتل الواقع المكانة الملائمة له في السنة النبوية المشرفة، ومن ذلك: اختلاف أجوبته صلى الله عليه وسلم عن السؤال الواحد المتكرر، ولهذا خاطب الناس على حسب أفهامهم، وعاملهم على حسب قدراتهم، وراعى أحوالهم في المنشط والمكره.
ومن ذلك أيضا: تنبيهه صلى الله عليه وسلم الناس إلى مهارات أصحابه، رضوان الله عليهم، حتى يتسنى لهم الانتفاع بهم وتقديرهم، وكذا إرساله الرسل إلى جميع الملوك وزعماء القبائل لدعوتهم إلى دين الحق، وتحميلهم المسؤولية الكاملة عند كفرهم وصدهم عن سبيل الله، وأيضا هديه في استقبال الوفود وإكرامهم.
وفي واقعنا المعاصر، وجدت مسائل وقضايا لم يسبق وجودها في تاريخنا الفقهي نتيجة التطور الفكري والتقدم التكنولوجي، لا سيما في المجال الاقتصادي؛ ولهذا اشترط في الفقيه: أن تتوافر عنده الأهلية العلمية اللازمة للقدرة على إصدار حكم شرعي، وذلك بالتصور الصحيح المطابق للواقع للمسألة محل الحكم، مع إدراكه التام للنص الشرعي، الذي يمكن تنزيله.
ومن هنا اخترت أهم القضايا الاقتصادية المعاصرة كنماذج لانضباط الفتوى الاقتصادية بحسن إدراك واقعها، كقضية "توزيع الفائض في شركات التأمين الإسلامي"، و"ضمان المصرف للأضرار الناشئة عن سوء استثمار أموال العملاء"، و"تداول صكوك الإجارة الموصوفة في الذمة"، و"عمليات التحوط في المصرفية الإسلامية".
وبالله تعالى التوفيق. [ ص: 6 ]
التالي