المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد،
فإن موضوع الفقه الإسلامي هو: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، وذلك عبر النظر العقلي في النصوص وبذل الوسع في فهمها واستخراج الحكم منها. وهو ينظم فيما ينظم علاقات الأفراد بالكيفية، التي تجمع بين ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات.
والفقه بطبيعة الحال ينمو في حياة متجددة، تثير الإشكالات، وتلد المستجدات، وتضع التحديات
>[1] .
صحيح أن أصول المشكلات الإنسانية، يمكن أن تكون واحدة في سائر العصور، بيد أن مظاهرها وأشكالها مختلفة، ولولا هذا لما جعل الاجتهاد مصدرا للتشريع، ولما جاءت معظم النصوص عامة ومرنة
>[2] .
[ ص: 7 ]
وقد لامس هذه الحقيقة الحجوي الثعالبي
>[3] بقوله: "ويظهر لي أن ندرة المجتهدين أو عدمهم هو من الفتور، الذي أصاب عموم الأمة في العلوم وغيرها، فإذا استيقظت من سباتها، وانجلى عنها كابوس الخمول، وتقدمت في مظاهر حياتها، التي أجلها العلوم، وظهر فيها فطاحل علماء الدنيا من طبـيـعـيـات ورياضيات وفلسفـة، وظـهر المخـتـرعـون والمكـتـشفـون والمبتكرون... عند ذلك يتنافس علماء الدين مع علماء الدنيا، فيظهر المجتهدون"
>[4] .
وبهذا يظهر أن فقه الواقع علم أصيل، يبنى على إدراكه الأحكام، وتتخذ في ضوئه المواقف
>[5] ، وأن الاجتهاد لا يكفيه الرؤية النصفية، وهي الوصول إلى معرفة الحكم الشرعي فقط، بل لابد من دراسة محل الحكم، بتركيباته المعقدة، ومن ثـم كانت مشـكلة الحضـارة اليوم هي أن الذين أدركوا آليات فهم الواقع
[ ص: 8 ] لم يؤمنوا بالخطاب الإلهي، وكثير من الذين آمنوا بالخطاب الإلهي لم يدركوا آليات فهم الواقع
>[6] .
ومن هنا كان مثل الفقه والواقع كمثل الحبل المضفور، تكونه خصلتان تلتف إحداهما على الأخرى من أوله إلى آخره، فإذا التف الواقع بمشاكله ونوازله على الفقه، والتف الفقه باجتهاداته وفتاويه على الواقع، كانت الحياة تسير سيرا مفتولا يعطيها متانة وقوة وتماسكا، فإذا سار الواقع بعيدا عن الفقه، وسار الفقه بعيدا عن الواقع، فقدت الضفيرة صفتها، وفقدت بذلك قوتها ومتانتها
>[7] .
كما اتضح أيضا سبب التفاوت الكبير بين ما عرفه فقه الحياة الخاصة، كالعبادات والمعاملات والأحوال الشخصية... إلخ من نمو وازدهار وتضخم، وما عرفه فقه الحياة العامة السياسية من ضمور، ذلك أن الأول كان يتفاعل مـع الواقـع ويتبـادل معـه التأثر والتأثير، أمـا الثاني فـكان مهمـلا مرغوبا عنه، لا يكاد يطلبه أو يعمل به أحد، فابتعد أهله عن الواقع وابتعد الواقع عنهم، فانحط الإنتاج فيه كما وكيفا
>[8] .
وعليه، فالفقه يتأثر بالواقع مثلما يؤثر فيه، ويأخذ منه مثلما يعطيه، ويتكيف معه مثلما يكيفه ويوجهه، وهذا لا يعني خضوع الفقه للواقع بل يعني أن الفقه لابد أن يكون واقعيا
>[9] .
[ ص: 9 ]
خطة الدراسة: اشتملت على مقدمة، وأربعة مباحث، وخاتمة
المقدمة:
المبحث الأول: مفهوم إدراك الواقع، ومنهجية التعامل معه.
المطلب الأول: مفهوم فقه الواقع.
المطلب الثاني: أهم ملامح منهجية التعامل مع الواقع.
المبحث الثاني: أهمية إدراك الواقع.
المبحث الثالث: أهم دلائل النبوة على إدراك الواقع.
المطلب الأول: الأجوبة المختلفة عن السؤال الواحد المتكرر
المطلب الثاني: إدراك النبوة لمهارات الصحابة، رضوان الله عليهم.
المطلب الثالث: الدبلوماسية النبوية.
المبحث الرابع: نماذج لانضباط الفتوى الاقتصادية بحسن إدراك واقعها.
المطلب الأول: توزيع الفائض في شركات التأمين الإسلامي.
المطلب الثاني: ضمان المصرف للأضرار الناشئة عن سوء استثمار أموال العملاء.
المطلب الثالث: تداول صكوك الإجارة الموصوفة في الذمة.
المطلب الرابع: عمليات التحوط في المصرفية الإسلامية.
الخاتمة: وتشتمل على أهم النتائج.
والله أسـأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، إنه نعم المولى ونعم النصير.
[ ص: 10 ]