المطلب الثاني
أهم ملامح منهجية التعامل مع الواقع
يجب على الفقيه أن يتقيد بمجموعة من الضوابط تمكنه من تنزيل الأحكام الشرعية على أحوال المحكوم عليهم؛ وهم المكلفون، الذين خاطبهم الشارع خطابا كليا مبشرا لهم وميسرا عليهم، فقال تعالى:
( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) (المائدة:6)، وقال أيضا:
( ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) (الأعراف:157)، وقال كذلك:
( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ) (الأنعام:119).
والنص الأخير يدل على أن التكليف يتوقف عند حدود الضرورات، لكن كيف توزن هذه الضرورات؟ إنها أحوال، وموازين الأحوال ليست كموازين الأشياء المادية والأثقال، وعدم إدراك ذلك يؤدي إلى وضع الأحكام الشرعية في غير موضعها، مما يفوت المصالح المرجوة من ورائها، ويفضي إلى مفاسد هي منزهة عنها
>[1] .
[ ص: 19 ]
ومن هنا كان إنزال الأوامر والنواهي عموما من غير نظر في صورة الموضوع وحالة المحكوم عليه أو الوجود الخارجي، كما يسميه المناطقة، يفضى إلى عكس المقصود؛ ولهذا كان خطاب الوضع شروطا، وأسبابا، وموانع، ورخصا وعزائم.
وبـهـذا يتـضـح أن التـنـزيل تـطـابق كامـل بين الأحـكام الشـرعيـة وتفاصيل الواقع المراد تطبيقها عليه، بحيث لا يقع إهمال أي عنصر له تأثير من قريب أو بعيد.
يقول ابن القيم
>[2] : "ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب، على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم"
>[3] .
[ ص: 20 ]
وبهذا هنا فإن النظر في المصادر التبعية للشريعة الغراء، ومقاصدها، وقواعدها الفقهية تسعف في تجلية بعض الجوانب المساعدة على ضبط منهجية التعامل مع الواقع، وقد بذلت جهدي لأبرز ملامحها وأحدد معالمها، وذلك من خلال قاعدة: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، وقاعدة: "اعتبار مآلات الأفعال"، وقاعدة: "مراعاة أخف الضررين". وقاعدة: "الأصل في الأشياء الإباحة"، ثم الالتفات إلى المصالح والأعراف والذرائع، وأخيرا حسن التعامل مع الواقع.. وفيما يأتي تفصيل ذلك:
الملمح الأول: قاعدة: الحكم على الشيء فرع عن تصوره:
نص على هذه القاعدة ابن النجار
>[4] ، وابن أمير حاج
>[5] ، لكن بلفظ: "الحكم على الشيء فرع تصوره"
>[6] .
[ ص: 21 ]
كما أوردها ابن تيمية
>[7] بلفظ: "الحكم على الشيء فرع على تصوره"
>[8] .
والتصور في اللغة: "التوهم، يقال: تصورت الشيء: أي توهمت (صورته) فتصور لي"
>[9] .
وفي الاصطلاح: عرفه الشريف الجرجاني
>[10] ، بأنه: "حصول صورة الشيء في العقل، وإدراك الماهية من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات"
>[11] .
[ ص: 22 ]
ولذا قال ابن الجوزي
>[12] : "ينـبـغي أن ينظر في مـاهـيـة الشيء ثـم يطـلـق عليه التحريـم أو الكراهة أو غير ذلك"
>[13] .
ويعبر عن قاعدة التصور بتحقيق المناط. يقول ابن تيمية: "فأما تحقيق المناط فهو متفق عليه بين المسلمين، وهو أن ينص الله على تعليق الحكم بمعنى عام كلي، فينظر في ثبوته في آحاد الصور أو أنواع ذلك العام"
>[14] .
وقال الشاطبي
>[15] : "لا خلاف بين الأمة في قبوله [أي: الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط]، ومعنـاه: أن يثبت الحكم بمـدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله"
>[16] .
[ ص: 23 ]
ومن هنا وجب على الفقيه أن يعيش عصره، وأن يحسن الانتفاع من كل جديد مفيد، يقول صلى الله عليه وسلم :
( الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، حيثما وجدها فهو أحق بها ) >[17] ، واتخذ صلى الله عليه وسلم الخاتم على رسائله وكتبه، وخندق حول المدينة كالفرس... الخ.
قال الخطيب البغدادي
>[18] : "الفقيه يحتاج أن يتعلق بطرف من معرفة كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وإلى معرفة الجد والهزل، والخلاف والضد، والنفع والضر، وأمور الناس الجارية بينهم، والعادات المعروفة منهم، فمن شرط المفتي النظر في جميع ما ذكرناه"
>[19] .
وفي واقعنا المعاصر، كثيرة هي الأمور، التي لم تكن حاضرة زمان نزول الوحي أو زمان الازدهار التشريعي، بل هي جديدة كل الجدة، نتيجة التطور الحضاري والتقدم التكنولوجي والعلمي
>[20] ؛ ولهذا يشترط في الفقيه أن تتوافر عنده الأهلية العلمية اللازمة، حتى يتمكن من تحليل الوقائع، وردها لأصولها
[ ص: 24 ] والربـط بين أجـزائـهـا، والاسـتـفـادة من الـوقـائـع المـشـابـهـة، وتـحـديد الأسباب، وربط الحقائق بعضها ببعض ... الخ، وقبل ذلك يجب عليه التثبت من صحة معلوماته، وثقة مصادره، التي على أساسها يصف الواقع ويحدد معالمه، ويكشف حقائقه، وإلا فإن فهمه للواقع وتوصيفه له سيكون مغلوطا غير مطابق
>[21] .
فإن لم يستطع يرجع في كل قضية إلى المتخصصين الثقات، فإن كانت المسألة اقتصادية رجع إلى الاقتصاديين، وإن كانت طبية رجع إلى الأطباء...الخ، يقول تعالى:
( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) (النساء:83).
وقال أيضا:
( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) (النحل:43)، وكل طائفة متخصصة في أمر هم أهل الذكر فيه. قال الجويني
>[22] : "الناس يفزعون عند معرفة أحوال الناس وتقديم بعضهم على البعض إلى الاختصاصات ودقائق الزيادات في حسن الفضل وكمال الحال"
>[23] .
[ ص: 25 ]
وقال الدكتور فتحي الدريني: "التفهم للنص التشريعي يبقى في حيز النظر، ولا تتم سلامة تطبيقه إلا إذا كان ثمة تفهم واع للوقائع بمكوناتها وظروفها، وتبصر بما عسى أن يسفر عنه التطبيق من نتائج؛ لأنها الثمرة العملية المتوخاة من الاجتهاد التشريعي كله"
>[24] .
وعلى ذلك: يجب على الفقيه إدراك الواقع إدراكا صحيحا يقره عليه علماء الفن؛ لأنه "إذا فسد التصور فسد التصوير"
>[25] . بمعنى أن فساد التصور يؤدي حتما إلى فساد الحكم.
الملمح الثاني: قاعدة: اعتبار مآلات الأفعال:
لعل الشاطبي أول من استعمل هذه القاعدة
>[26] ، إلا أن مضمونها كان متداولا ضمن قواعد وأصول أخرى كقاعدة سد الذرائع، والاستحسان، والحيل... ونحو ذلك، فكلها تندرج من حيث المعنى في مدلول مآلات الأفعال على وجه العموم.
ويقصد باعتبار "مآلات الأفعال": أن الأحكام الشرعية إنما وضعت لتحقيق مصالح الإنسان، على أساس من العموم، الذي يشمل أجناس الأفعال
[ ص: 26 ] مطلقا عن الزمان والمكان والأعيان؛ والأحكام وإن كانت تؤول عند تطبيقها على واقع الأفعال إلى تحقيق المصلحة المبتغاة منها، فإنها في بعض الأحيان، وفي بعض الأعيان قد لا تؤدي إلى تلك المصلحة المبتغاة، بل قد تؤدي إلى نقيضها من المفسدة؛ وذلك لخصوصية تطرأ على ذات تلك الأعيان أو على ظرفها، تخرج بها عن عموم جنسها، التي قدر على أساسها الحكم، ومن ثم يؤول تطبيق الحكم عليها إلى المفسدة من حيث أريد به تحقيق المصلحة؛ ولذا وجب على الفقيه مراعاة ذلك المآل، فيعدل به إلى حكم آخر يتحرى المصلحة ويتفادى المفسدة
>[27] .
ومن تطبيقات هذه القاعدة: عدم قتل النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين، معللا ذلك بقوله: "دعه [أي: عبد الله بن أبي] لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه"
>[28] . قال النووي
>[29] : "وفيه [أي: الحديث] ترك بعض الأمور
[ ص: 27 ] المختارة، والصبر على بعض المفاسد؛ خوفا من أن تترتب على ذلك مفسدة أعظم منه"
>[30] .
الملمح الثالث: قاعدة: يختار أهون الشرين:
قـصـدت الشريعـة جلب المصالح ودرء المفـاسـد، ووازنت بينـهـمـا، فإذا تعارضت المصالح جاز تفويت أدناها لحصول أعلاها، وإذا تعارضت المصالح والمفاسد أخذ بالراجح منها فإن ترجحت المصالح أخذ بها وقيل بمشروعية متعلقـها، وإن ترجـحـت المفـاسد اعتمد عـليـها في المنـع، وإذا تساوى جانب المصالح والمفاسد في نظر المجتهد فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وهي من القواعد المكملة لقاعدة: "الضرر يزال"، وقد يعبر عنها بـ"الضرر الأشد يزال بالأخف" أو "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما".
والمعنى: أن الأمر المتردد بين ضررين إذا كان أحدهما أشد من الآخر، فإن الأخف يتحمل؛ مراعاة للأشد ودفعا له؛ لأن المفاسد تراعى نفيا، والمصالح تراعى إثباتا
>[31] .
[ ص: 28 ]
وهذه القاعدة يستدل لها بحديث الأعرابي، الذي بال في المسجد، حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن زجره تفاديا لحدوث ضرر أشد فقال:
( دعوه، وهريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) >[32] .
وبيانه: أن تركه حتى يكمل بولته فيه ضرر يتمثل في زيادة تنجيس المسجد، وقطعه لبولته ضرر أشد يتمثل في تنجيس بدنه وثيابه ومواضع أخرى من المسجد، فوق ضرره البدني.
ومن تطبيقات هذه القاعدة: القصاص والحدود، وقتال البغاة، ودفع الصائل، والإجبار على قضاء الديون، والنفقة الواجبة، والظفر بالحق، وأخذ المضطر طعام غيره، وقطع شجر (الغير) إذا حصل في هواء داره، وشق بطن الميت إذا بلع مالا وغير ذلك من المسائل
>[33] .
وعلى ذلك: فهـذه القاعـدة توضح كيفية وأسلوب التعامل مع الواقع في جانب المفاسد، فيوازن بين هذه المفاسد فيرتكب أخفهما ويراعي أعظمهما.
[ ص: 29 ] الملمح الرابع: قاعدة: الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم:
أورد هذه القاعدة بهذا اللفظ السيوطي
>[34] >[35] ، كما أوردها ابن نجيم
>[36] لكن بصيغة الاستفهام
>[37] ، وجعلها الزركشي
>[38] مترددة بين الإباحة، والتحريم، والوقف
>[39] .
[ ص: 30 ]
وتشمل هذه القاعدة بلفظها: قضية حكم الأفعال والأشياء قبل ورود الشرع، وكذا حكم الأفعال والأشياء، التي سكت عنها الشرع بعد وروده، فلم يخصها بحكم.
واختلاف الفقهاء في صياغة هذه القاعدة مبني على اختلافهم في حكم هذه الأفعال والأشياء بين جازم بأن الأصل في الأشياء الإباحة، وبين جازم بأن الأصل فيها هو التحريم، وبين متردد في الإباحة، أو الحظر فتوقف، وبين مفصل بين المنافع والمضار.
فالشافعية
>[40] ، وأكثر الحنفية
>[41] ، وبعض الحنابلة
>[42] وأبو الفرج المالكي
>[43] >[44] ذهبوا إلى أن الأصل هو الإباحة.
[ ص: 31 ]
وذهب أبو حنيفة
>[45] وبعض الشافعية
>[46] ، وبعض الحنابلة
>[47] والأبهري من المالكية
>[48] >[49] ، إلى أن الأصل هو التحريم؛ لأن التصرف في ملك (الغير) بغير إذنه قبيح، فلا يجوز لأحد أن يتناول شيئا حتى يرد الشرع به
>[50] .
وذهب البعض
>[51] إلى القول بالتوقف، بمعنى أن الأصل في الأشياء عدم الحكم أو عدم العلم بالحكم، فليست بمباحة ولا محظورة.
[ ص: 32 ]
ونتيجة هذا القول: أنه لا حرج في الفعل ولا في الترك وهو بمعنى الإباحة، إلا أنهم تحاشوا التعبير بالإباحة؛ لأنها حكم شرعي لابد أن يقوم على دليل.
وذهب الرازي
>[52] والآمدي
>[53] إلى أنه لا حـكم للأشـياء قبل الشرع، وأما بعده فإن الأصل في المنافع الإباحة والأصل في المضار التحريم، سواء فصله الله تعالى وذكره باسم، أو لم يكن كذلك وعرفناه بصفة الخبث
>[54] .
والراجح هو: القول الأول القائل بأن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يثبت خلافه بنص، أو يظهر خبثه وضرره، ومن ثم يسمح له بالتصرف في نفسه وفيما يزدحم به هذا الكون من خيرات وكائنات ومنافع وإمكانات. وهذا ما ذهب إليه العلامة الريسوني
>[55] .
[ ص: 33 ]
وهذه القاعدة قبل أن تحرر الإنسان في سلوكه وتصرفه، تحرره في إيمانه وضميره؛ لأنه يطمئن أن ما لم يرد فيه تحريم ولا تقييد، وكان له فيه رغبة ومصلحة فهو له، ولا حرج فيه ولا خوف منه؛ أما إذا أصبح شاكا خائفا من شبح التحريم والإثم حيثما فكر وقدر، وكلما هم وعزم، وأينما تحرك واتجه، لمجرد أن كل ما ليس منصوصا على إباحته فهو حرام، أو يحتمل أن يكون حـراما، أو قيل إنه حرام، أو فيه شبهة الحرام، فقد يدخل في أزمة إيمان وضمير، قبل أن يدخل في أزمة تصرف وتدبير
>[56] .
وعلى ذلك: أبقت الشريعة الغراء للأمم معتادها وأحوالها الخاصة بها إذا لم يـكن فيها اسـترسـال على فسـاد، ففي المـوطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية، [ ص: 34 ] وأيما دار أو أرض أدركها الإسلام، ولم تقسم فهي على قسم الإسلام ) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة:
( وهل ترك لنا عقيل من دار؟ ) يريد أن عقيل بن أبي طالب فرقها في حكم الجاهلية فلم ينقضه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة.
الملمح الخامس: حسن التعامل مع الواقع:
لا يعني الاعتراف بالواقع إقراره على ما هو عليه من الظلم والجهل والخطأ والتخلف والاستبداد، أو التنازل عن القيم في المجال الأخلاقي، أو الترخص في غير مواضع الرخص في مجال الإفتاء وإلا أدى ذلك كله إلى فقدان الإرادة، وضياع الأخلاق، والتوقيع عن رب العالمين بالهوى والتشهي.
قال عمر عبيد حسنه: "أما التنازل عن القيم، وتجميد الفاعلية، وإقرار الظـلـم، والعـدول عن الحـق، والـتـوقف والاستنقـاع الحضـاري باسم الواقعية، فهو فقدان للإرادة، وانـتـحار جماعي، وانـحـدار بشـري، وقـضـاء عـلى أي أمـل في الإصلاح".
وعلى ذلك: فـلا اعتـداد بالـواقع المخالف لنص من القرآن الكريم أو من السـنـة النبـوية المطهرة؛ لأن النـص هـو الذي أعـطى للواقع قوته، وهو عام لا يـخـتص بـزمان ولا بمكان، بخلاف الواقع، الذي قد يتـغير بتغـير الزمان والمكان.
[ ص: 35 ]
ومن الفتاوي، التي اعتمدت الواقع مع مخـالفته للنص: ما أفتى به محمد ابن الفضل
>[57] بأن ما تحت السرة إلى موضع نبات الشعر ليس بعورة للرجل؛ لتعامل العمال في الإبداء عن ذلك الموضع عند الاتزار، وفي النزع عن العادة الظـاهرة نوع حـرج. فـرد عليه فـقهاء الحنفية: بأن هذا ضعيف وبعيد؛ لأن التعامل بخلاف النص لا يعتبر"
>[58] .
الملمح السادس: الالتفات إلى المصالح والأعراف والذرائع:
وقد التفت الفقهاء إلى ما سبق فقعـدوا قاعـدة: تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص والنيات والعوائد، وقاعدة سد الذرائع
>[59] .
وقد عقد ابن القيم فصلا في "تغيير الفتوى، واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد". ومما جاء فيه: "هذا فصل عظيم
[ ص: 36 ] النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه"
>[60] .
وتغيير الفتوى قد يستند إلى العثور على دليل من النص أو القياس أقوى، وقد يستند إلى اعتبارات تتعلق بالواقع كوجود حاجـة أو ضرورة أو مصلحة، أو تغير أحوال الناس وظروفهم أو تغير عادات الناس وأعرافهم، وفساد الأخلاق المعبر عنه بفساد الزمان، فضلا عن حدوث التنظيمات الجديدة والترتيبات الإدارية الحديثة ... الخ"
>[61] .
ومن هنا فالشريعة قد أقامت للأعراف والمصالح العامة والاستحسان اعتبارا، لا يقف بمجاراة الحاجات الزمنية عند حد سوى حد المصالح والحرمات، التي جاءت لمراعاتها.
وفيما يأتي ألتفت إلى بيان مفهوم الأعراف والمصالح والذرائع:
أولا: مفهوم الأعراف:
للعادات والأعراف سلطان على النفوس وتحكم في العقول، فمتى رسخت العادة، اعتبرت من ضرورات الحياة؛ لأن العمل بكثرة التكرار تألفه الأعصـاب؛ ولذا شـاع من الأمثـال: "العـادة طبيعة ثانية"، "الناس عبيد ما ألفوا"، "تزول الجبال عن قواعدها ولا تزول الناس عن عوائدها".
[ ص: 37 ]
وقد عرف حافظ الدين النسفي
>[62] العرف بأنه: "ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول". ويعني الأمر الذي استقر في النفوس فألفته واطمأنت إليه، ولم تنكره الفطر السليمة، وذلك بسبب الاستعمال الشائع المتكرر لهذا الأمر عن رغبة فيه وميل إليه
>[63] .
وقـد اختلف الأصوليون في حجية العرف واعتباره دليلا قائما برأسه وذلك على قولين: جمهورهم قالوا بالحجية
>[64] ، ومن خالفهم قالوا بالتبعية
>[65] [ ص: 38 ] ، بيد أنـهـم جـمـيـعا اتفقوا على اعتباره والأخذ به، ولهـذا قـال القرافي
>[66] : "وأما العرف فمشـترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجـدهم يصرحون بذلك فيها"
>[67] .
ولهذا اشترطوا في المفتي أن يكون عارفا بأعراف بلده وزمانه وعادات أهـله، حـتى إن ابن عابدين
>[68] قال: "من لم يكن عالما بعادات أهل زمانه فهو جاهل".
وقد وضع الأصوليون شروطا لاعتبار العرف أبرزها ما يأتي:
الأول: أن يكون العرف مطردا أو غالبا.
ومعنى اطراده: أن يستمر العمل به في جميع الحوادث أو أغلبها. ومعنى الغلبة: أن يكون العمل به كثيرا، ولا يتخلف إلا قليلا ، فإن اضطرب عمل
[ ص: 39 ] الناس بالعرف فلا عبرة به؛ لأن العمل أحيانا إذا صلح دليلا على قصدهم إلى تحكيمه، فإن تركهم له أحيانا مماثلة ينقض هذه الدلالة
>[69] .
الثاني: أن يكون العرف المراد العمل به موجودا عند إنشاء التصرف:
وذلك بأن يكون العرف سابقا أو مقارنا للتصرف عند إنشائه
>[70] . قال القرافي: "الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت. وتبطل معها إذا بطلت"
>[71] .
الثالث: ألا يكون العرف مخالفا لنص شرعي:
فيشترط في العرف ألا يكون مخالفا لنص من القرآن الكريم أو من السنة المطهرة، وإلا فهو فاسد لا اعتداد به كتعارف الناس شرب الخمر ولعب الميسر، وتعارف النساء كشف العورات في الطرقات، ونحو ذلك؛ لأن النص هو الذي أعطى للعرف قوته، وهو عام لا يختص بزمن ولا بمكان، بخلاف العـرف، الذي قـد يتغير بتغير الزمان والمكان، ثم إن العرف لا يكون حجة إلا على الذين تعارفوه، والنص حجة على الجميع
>[72] .
[ ص: 40 ]
هذا، وقد ذهب أبو يوسف
>[73] ومن تابعه إلى أن النص إذا كان معللا بالعرف، فإن الحكم يدور معه وجودا وعدما، ولا يقال: إن العرف حينئذ قد خالف النص. ومن ذلك النص على كيلية البر والشعير والتمر والملح، ووزنية الـذهب والفضـة فمبنـي على ما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم من كون العرف كذلك، حتى لو كان العرف إذ ذاك بالعـكس لورد النص مـوافقا له، ولو تغـير العـرف في حياته صلى الله عليه وسلم لنص على تغير الحكم، فالنص معلول بالعرف فيكون المعتبر هو العرف في أي زمن كان
>[74] .
الرابع: ألا يكون هناك اتفاق صريح بين المتعاقدين على استبعاد العرف:
فيشترط لاعتبار العرف: ألا يصدر تصريح بخلافه، فإذا صرح العاقدان بذلك فلا اعتبار له؛ لأنه لا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح
>[75] .
وعلى ذلك: فكل تصرف صرح فيه المتعاقدان على خلاف ما تعارف عليه الناس، فإنه يعمل بالاتفاق ولا عبرة بالعرف، وإنما يعمل بالعرف في حالة
[ ص: 41 ] سكوت المتعاقدين، فيكون العرف مفسرا لسكوتهما مبينا لإرادتهما، قاضيا على ما بينهما من تصرف
>[76] .
ثانيا: المصالح المرسلة:
يقصد بالمصلحة: "استنباط حكم في واقعة لا نص فيها ولا إجماع، بناء على مصلحة عامة لا دليل من الشارع على اعتبارها ولا إلغائها"
>[77] . وتسمى أيضا بالاستصلاح.
ويراد بالإرسال: كل مصلحة أطلقها الشارع فلم يعتبرها ولم يلغها، وأوكل أمر تقديرها إلى الاجتهاد البشري من خلال معارفه وعلومه وإدراكه للواقع، مع التقيد بالمقاصد، التي رمى إليها الشارع الحنيف، كمصلحة عدم سماع دعوى النكاح عند إنكارها إذا لم يوثق العقد قبل ذلك في وثيقة رسمية.
وقد اشترطوا في المصلحة المرسلة شروطا ثلاثة
>[78] :
أولها: أن تكون مصلحـة حقيقة، وذلك بأن تـجلب من تشريعها نفعا أو تدفع بها ضررا، وأما مجرد توهم ذلك من غير موازنة بين جانب المصالح
[ ص: 42 ] وجانب المفاسد فلا اعتبار بها كمصلحة سلب الزوج حق تطليق زوجته مطلقا، وجعل ذلك للقاضي فقط.
ثانيها: أن تكون مصلحة عامة وليست خاصة، حتى تجلب نفعا لعامة الناس أو تدفع عنهم ضررا، أما لو كانت تحقق مصلحة خاصة بصرف النظر عن جمهور الناس ومصالحهم فلا اعتداد بها.
ثالثـها: أن لا تعارض حكما أو مبدأ ثبت بالنص أو الإجماع، وعليه: فلا اعتبار بمصلحة مساواة الابن والبنت في الإرث؛ لمعارضتها نص القرآن، ولهذا كانت من الفتاوى الشاذة فتوى يحيى بن يحيى في كفارة الجماع في نهار رمضان بصوم شهرين متتابعين حملا للأمير عبد الرحمن الأموي
>[79] على الأصعب حتى لا يعود؛ لمعارضتها نصا
>[80] .
[ ص: 43 ]
وقد علق الغزالي
>[81] على هذه الفتوى بقوله: "فهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بالمصلحة، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير الأحوال"
>[82] .
وقد أنكر الجويني هذه الفتوى، ومما قاله: "... ولو ذهبنا نكذب للملوك ونطبق أجوبة مسائلهم على حسب استصلاحهم طلبا لما نظنه من فلاحهم لغيرنا دين الله بالرأي، ثم لم نثق بتحصيل صلاح وتحقيق نجاح"
>[83] .
وعلى ذلك: فالمصلحـة المرسلـة من أصول التشريع الإسـلامي؛ حتى لا يجمد، ويتوقف عن مسايرة الأزمان؛ ولأن "حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري، ورفع حرج لازم في الدين"
>[84] .
[ ص: 44 ]