المطلب الثالث
تداول صكوك الإجارة الموصوفة في الذمة
وأهدف إلى التعرف على الفتوى المناسبة أو الحكم الشرعي لتداول صكوك إجارة الموصوف في الذمة قبل تعيين محل العقد، ولعل هذا يدعونا إلى تقسيم هذا المطلب إلى فرعين:
الفرع الأول: تأجيل الأجرة في إجارة الموصوف في الذمة.
الفرع الثاني: تداول الصكوك في إجارة الموصوف في الذمة.
وفيما يأتي تفصيل ذلك:
[ ص: 124 ] الفرع الأول: تأجيل الأجرة في إجارة الموصوف في الذمة:
انتهى مجمع الفقه الإسلامي الدولي في بيان ماهية التصكيك في القرار رقم ( 19 / 4 ) 178في دورته التاسعة عشرة لسنة 1430هـ إلى أنه: "إصدار وثائق أو شهادات مالية متساوية القيمة تمثل حصصا شائعة في ملكية موجودات (أعيان أو منافع أو حقوق أو خليط من الأعيان والمنافع والنقود والديون) قائمة فعلا أو سيتم إنشاؤها من حصيلة الاكتتاب، وتصدر وفق عقد شرعي وتأخذ أحكامه".
هذا، ويعنى بالإجارة: عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبذل والإباحة بعوض معلوم
>[1] . غير أن المالكية اختصوا مصطلح "إجارة" بالعقد على منافع الآدمي، وما يقبل الانتقال، واصطلحوا على "كراء" فيما يرد على منافع الأراضي والدور والسفن والحيوانات
>[2] . ومع ذلك فالإجارة والكراء شيء واحد في المعنى، والتفرقة بينهما مجرد اصطلاح كما قال الدسوقي
>[3] .
كما يعنى بالإجارة الموصوفة بالذمة: هي التي يكون محل المنفعة فيها غير معين بل مـوصـوف، وتعلق ذلك بذمة من التزم به سواء كان شخصا طبيعيا أو شخصا اعتباريا، كاستئجار سيارة بأوصاف معلومة لنقله إلى مكان معين أو مدة معينة.
[ ص: 125 ]
وعلى ذلك: قسم الفقهاء الإجارة باعتبار محل تعلق الحق في المنفعة المعقود عليها إلى قسمين: إجارة واردة على العين، وأخرى واردة على الذمة.
أما الأولى: فـيـكـون الحـق في المنفعة المعقود عليها متعلقا بعين معينة، كما لو استأجر شخصا معينا للعمل لديه، ونحو ذلك. وهذا لا يشترط لصحته قبض الأجرة في مجلس العقد؛ لأن إجارة العين كبيعها، وبيع العين يصح بثمن مؤجل، فكذا الإجارة.
وأما الثانية: فهي الإجارة الواردة على الذمة: ويكون الحق في المنفعة المعقود عليها متعلقا بذمة المؤجر لا بعين معينة، كما لو استأجره على طباعة بحثه على أوراق موصوفة وماكينة موصوفة ونحو ذلك. ومن أهـم أحـكامها: أنها لا تنفسخ بتلف العين المؤجرة، ولا يثبت فيها خيار العيب؛ لأن على المؤجر إبدال العين التالفة أو المعيبة.
هذا، والإجارة شرعت على خلاف القياس عند جمهور الفقهاء؛ لأنها بيع المنافع المعدومة وقت التعاقد، وإنما جازت لتعامل الناس، والتعامل دليل الحاجة، وذلك لأن تداول الناس أمرا بحيث يصل إلى حد الاعتياد مع قبول الطباـع السـليمـة له يدل على احتياجهم إليه، وأن منفعته مقصودة لهم؛ ومن ثم كان للعـرف دور بـارز في عـقـد الإجـارة؛ لأنه سبـب مشـروعيتـه، قال ابن عابدين: "وإنما جازت بالتعارف العام"
>[4] ، وهو من طرق العلم بالمنفعة
[ ص: 126 ] عند عدم النص عليها بالشرط، والعرف كذلك يحدد به مدة الإجارة عند إطلاقها، ومن هنا قال الشافعي: "الإجارات جائزة على ما يعرف الناس"
>[5] .
ويرجع إلى عادة الناس وأعرافهم في توابع الإجارة، سواء فيما يتعلق بعمل العامل أو غيره، ما لم ينص على شيء من ذلك في عقد الإجارة. ومن ثم قال البهـوتي
>[6] : "ويـجـب عـلـى مـؤجـر مـع الإطـلاق كل ما جـرت بـه عـادة أو عرف"
>[7] .
والأجرة في عقد الإجارة لابد أن تكون معلومة، والعلم بها قد يكون بالتسمية أو بالرؤية وإلا فبالعرف، ومن ثم قال علي حيدر
>[8] : "لو اشتغل
[ ص: 127 ] شخص لآخر شيئا، ولم يتقاولا على الأجرة، ينظر للعامل إن كان يشتغل بالأجرة عادة، يجبر صاحب العمل على دفع أجرة المثل له، عملا بالعرف والعادة، وإلا فلا"
>[9] .
والقاعدة أن كل ما صح أن يكون ثمنا في البيع صح أن يكون أجرة في الإجارات، سواء كان نقدا، أو عينا، أو منفعة.
وبعد،
فقد اختلف الفقهاء في حكم تأجيل الأجرة في إجارة الموصوف في الذمة، وذلك على أربعة مذاهب:
المذهب الأول: عدم جواز تأجيل الأجرة في إجارة الموصوف في الذمة؛ لأنه متى تأخرا جميعا استلزم ذلك تعمير الذمتين، وكان من باب بيع الدين بالـدين وهـو ممنوع، فلا يجوز إلا بتعجيل أحد الطرفين أو تعجيلهما جميعا، أو الشـروع في استيفاء المنفعة - كما لو تسـلـم المسـتـأجر السيارة الموصوفة في الذمـة- بناء على أن قبض أوائل المنفعـة كقبـض أواخرها؛ لأنه لما شرع
[ ص: 128 ] في اسـتـيـفـائـهـا فـكأنـه استـوفى جمـيـع المنفعـة، فارتفع المانع من التأخير، وهذا ما ذهب إليه المالكية
>[10] .
ولم يفرقوا بين عقدها بلفظ الإجارة أو السلم؛ لأن العبرة في العقود بالمعاني، واعتـبروا تأخـير الأجـرة الـيـومـين أو الثـلاثة في حـكم تعجيلها؛ لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه.
المذهب الثاني: عدم جواز تأجيل قبض الأجرة بمجلس العقد في إجارة الموصوف في الذمة قياسا على عدم جواز تأجيل قبض المسلم إليه رأس مال السلم في المجلس. وعليه: فإن تفرقا قبل القبض بطلت الإجارة؛ لأن إجارة الذمة سلم في المنافع، فكانت كالسلم في الأعيان، سواء عقدت بلفظ الإجارة أو السلم فلا يبرأ منها ولا تؤجل ولا يحال بها ولا عليها؛ لئلا تكون من باب بيع دين بدين. وهذا ما ذهب إليه الشافعية في الأصح
>[11] .
لكن مقابل الأصح: هو التفرقة بين صيغة عقد الإجارة وصيغة عقد السـلم؛ لأن العـبرة في العقـود بالألفاظ والمباني لا بالقصود والمعاني، وعليه: فإن كان العقد بلفظ السلم وجب قبض العوض في المجلس؛ لأنه سلم. وإن كان بلفظ الإجارة لم يجب؛ لأنه إجارة
>[12] .
[ ص: 129 ]
بيد أن الشيرازي
>[13] رجح اعتبار القصود دون المباني، وعليه رجح الوجه الأول، فقال: "والأول أظهر؛ لأن الحكم يتبع المعنى لا الاسم، ومعناه معنى السلم، فكان حكمه كحكمه، ولا تستقر الأجرة في هذه الإجارة إلا باستيفاء المنفعة؛ لأن المعقود عليه في الذمة فلا يستقر بدله من غير استيفاء كالمسلم فيه"
>[14] .
المذهب الثالث: جواز تأجيل الأجرة في إجارة الموصوف في الذمة إذا لم تعقد بلفظ "سلم" ولا "سلف"؛ لأنها لا تكون سلما، فلا يلزم فيها شرطه. أما إذا جرت بلفظ "السلم والسلف" كأسلمتك هذا الدينار لتحملني إلى مكان كذا، فإنه يشترط لصحتها عندئذ تسليم الأجرة في مجلس العقد؛ لأنها بذلك تكون سلما في المنافع، ولو لم تقبض الأجرة قبل التفرق من مجلس العقد لآل إلى بيع دين بدين، وهو منهي عنه. وهذا ما ذهب إليه الحنابلة
>[15] .
[ ص: 130 ]
المذهب الربع: جـواز تأجيل الأجـرة في إجـارة الموصوف في الذمة؛ لأن الأجـرة لا تلزم ولا تملك بالعقـد، فـلا يجـب تسليمها به، بل بتعجيلها أو شرطها في الإجارة المنجزة أو الاستيفاء للمنفعة. وهذا ما ذهب إليه الحنفية.
قال ابن عابدين: "الأجر لا يلزم بالعقد"، أي لا يملك به كما عبر في الكنز؛ لأن العقـد وقع على المنفعـة وهي تحـدث شيئا فشيئا، وشأن البدل أن يـكون مقـابلا للمبدل، وحيث لا يمكن استيفاؤها حالا لا يلزم بذلها حالا، إلا إذا شرطه ولو حكما، بأن عجله؛ لأنه صار ملتزما له بنفسه حينئذ وأبطل المساواة، التي اقتضاها العقد فصح"
>[16] .
يتبين مما سبق ما يأتي:
أولا: يمكن أن ترد مذاهب الفقهاء السابقة في تأجيل الأجرة في إجارة الموصوف في الذمة إلى ثلاثة أقوال: الأول: المنع مطلقا. وهذا مذهب الشافعية. الثاني: الجواز مطلقا وهذا مذهب الحنفية. الثالث: الجواز إن عقد بلفظ الإجارة والمنع إن عقد بلفظ السلم والسلف. وهذا ما ذهب إليه الحنابلة ووجه عند الشافعية. أو الجواز إن شرع في استيفاء المنفعة. وهذا ما ذهب إليه المالكية.
ثانيا: الخلاف بين مذاهب الفقهاء إنما هو ناشئ عن التباين في تكييف طبيعة الإجارة الموصوفة في الذمة: فمن اعتبرها سلما في المنافع اشترط تعجيل الأجرة في مجلس العقد كالمالكية والشافعية.
[ ص: 131 ]
أما الحنابلة فحكموا عليها بمقتضى الصيغة، فلو استخدم صيغة الإجارة كانت على شرط الإجارة، ولو استخدم صيغة السلم أو السلف كان سلفا. وأما الحنفية فشبهوا إجارة الموصوف في الذمة بإجارة الأعيان.
الراجح:
بعد استعراض المذاهب السابقة والوقوف على أدلتها نتجه إلى القول: بجواز إجارة الموصوف في الذمة من غير اشتراط تسليم الأجرة في مجلس العقد إذا جرت بلفظ الإجارة، ولم تعقد بلفظ السلم أو السلف، وذلك أخذا بمذهب الحنابلة ووجه عند الشافعية؛ لأنه أرفق بالناس لما فيه من التيسير والتسهيل عليهم في مبادلاتهم المالية ومعاملاتهم التجارية، ولأنها عوض في عقد معاوضة محضة فلم يجب تسليمها في مجلس العقد كالإجارة الواردة على الأعيان.
وهـذا ما رجحـه كثير من المعـاصرين منهم: د. عبد الستار أبو غدة، ود. نزيه حماد، وأخذت به هيئة المحاسبة والمراجعة للمـؤسـسات المالية الإسلامية بالبحرين في الفقرة رقم 3 / 5 ، ونصه: "ولا يشترط فيها تعجيل الأجرة ما لم تكن بلفظ السلم أو السلف، وإذا سلم المؤجر غير ما تم وصفه فللمستأجر رفضه وطلب ما تتحقق فيه المواصفات"
>[17] .
[ ص: 132 ]