المبحث الأول
الاستخلاف الإنساني
وعلاقة الاستخلاف بالعمل الخيري هو أن هذا العمل يعد صورة تطبيقية ومفهـوما تفسـيريا لرسـالة الإنسـان وشـموليتها في الأرض، وقـد قال تعـالى:
( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) (البقرة:30)، وقال:
( وعلم آدم الأسماء كلها ) (البقرة:31).
بهذا العلم الكامن في فطرة الإنسان كما استودعه الله قابليته للتعلم من ذاته، ومما حوله يتحقق للإنسان وهو يزداد علما بالسعي والاكتساب، وبالخوف والأمل، أنه خليفة الأرض، أي أنه (المؤتمن) بأمانة الاختيار التي ميزه الله بها، على حسن استثمار أشيائها ومواردها وكائناتها، سخر الله منافعها له، ووقاه مخاطرها بقدر إيمانه وهدايته، وبقدر سعيه وصدقه. وهو يعمل ويستثمر، ويحيا ويموت غير غافل عن فتنة ابتلائه
>[1] . والخليفة في بيان القرآن هو المؤتمن.
ونظرة الإسلام إلى الإنسان جاءت نظرة متفردة متميزة، إذ رفع من قيمته وأعلى من قدره بما لا يعرف نظيره في دين سماوي ولا فلسفـة وضعية، فقـد أعـلن القرآن كرامـة هـذا الجنس عند الله، حيث قـال تعالى: ـ
[ ص: 21 ] ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء:70).
ولنظرة الإسلام إلى الإنسان أوجه متعددة، فهو بوجه عام كان مستخلفا من الله في هذه الأرض لعمارتها واستثمار خيراتها سلطه الله عليها فأعطاه القدرة على تسخيرها وتسخير سائر الكون لمنافعه بما وهبه الله من الحواس والعقل وسائر الصفات الجسمية والعقلية التي تجعله أهلا لذلك على تفاوت بين أفراد البشر، وفي القرآن آيات كثيرة تفيد هذا المعنى:
( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) (البقرة:30)،
( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ) (الأنعام:165)، والأرض خاصة والكون وما فيه مسخر للإنسان ومذلل له ليتمكن من تحقيق هذا الاستخلاف، ويعبر القرآن الكريم عن هذه الفكرة في آيات كثيرة منها قوله تعالى:
( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ) (الملك:15)، وقوله:
( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ) (لقمان:20).
ونرى بالإضافة إلى هذه الآيات، التي يرد فيها التسخير آيات أخرى كثيرة تشير إلى استفادة الإنسان مما خلقه الله من الأنعام والدواب والماء والنبات ومن هذا القبيل الآيات الواردة في أوائل سورة النحل:
( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون *
ولكم فيها جمال حين تريحون وحين [ ص: 22 ] تسرحون ) (النحل:5-6)؛ وتسـخير الأرض والكون للإنسـان واسـتخلاف الله له في الأرض يقتضيان انتفاع الإنسان بما خلق الله في الكون واستثماره لما في الأرض من خيرات وثمرات.
وبذلك يكون السعي في جلب الرزق واستثمار ما خلق الله في الكون والانتفاع به أمرا مستحسنا بل امتثالا لأمر الله واستفادة من نعمه المعروضة:
( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ) (القصص:77).
والإحسان في الإسلام ليس له حدود، فالسعي عمل لأن العمل من ثمار السعي والحركة ابتغاء الرزق وابتغاء فضل الله، فدوافع العمل ومسوغاته ثمرة مهة من ثمار هذا السعي وتلك الحركة...
وإذا كان التطوع ظاهرة اجتماعية موجودة على مر العصور وحتى وقتنا الحاضر، فما هي مسوغات العمل في الإسلام؟ وما دوافعه؟ وما علاقة العمل بمفهوم التطوع في الإسلام؟