- ومن صور الرحمة في الإسلام:
رحمـة الأطـفال الصـغار وملاطفتهم والتودد إليهم وعدم إيـذائهم، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه ، قال: "قبل النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:
( من لا يرحم لا يرحم ) >[1] .
وعن السيدة عائشة، رضي الله عنها، قالت: "قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم، فقالوا: لكنا والله ما نقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( أو أملك إن كان الله نزع الله من قلوبكم الرحمة ) >[2] .
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه ، قال: قال صلى الله عليه وسلم :
( اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم، والمرأة ) >[3] .
فوصفه للمرأة بالضعف هنا يراد منه رحمتها وحسن عشرتها والإحسان إليها وعدم إيذائها.
- ومن مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم :
- التيسير والرفق: يروى "أن أعرابيا بال في المسجد، فثار إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( دعوه، وأهريقوا على بوله ذنوبا من [ ص: 57 ] ماء، أو سجلا >[4] من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) >[5] ... إن عـلاج هـذا السـلـوك الفج، من هذا الرجـل أمر ميسـور، فلماذا نصعب الأمور.
وعن أنس، رضي الله عنه ، قال: "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك ! فالتفت إليه فضحك، ثم
( أمر له بعطاء ) >[6] .
وهذه هي ميزة الإنسان الراقي على الإنسان البدائي: أن يقدر ظروف بداوته وحكم نشأته، ويقابل جهله بالحلم، وغلظته بالرقة، وخشونته بالبسمة، وإساءته بالإحسان.. لقد كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع المتسرعين في الحكم، المتطاولين بغير حق هو: العفو والحلم والصبر على الأذى، كما صبر إخوانه الأنبياء وأولو العزم من الرسل من قبل. ولم يستجب للمتحمسين من أصحابه أن يعاجلهم بالعقوبة، ويعاملهم بالعنف، ويجعلهم عبرة لغيرهم
>[7] .
وقريب من هذا ما ورد في البخاري، في توزيع (ذهيبة) جاءت من اليمن على بعض المؤلفة قلوبهم:
( بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 58 ] من اليمن بذهيبة... فقال رجل >[8] من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء؟! قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال يا رسول الله! اتق الله، قال: ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟! قال: ثم ولى الرجل، قـال خالد بن الوليد: يا رسـول الله! ألا أضرب عنقه؟ قال: لا، لعله أن يكون يصلي".. فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم ) >[9] .
هذا رائد من رواد الغلاة، الذين ضاق أفقهم عن فهم المقاصد الكبيرة من وراء تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم . فقالوا ما قالوا من سوء أدبهم وسطحية تفكيرهم. وكل همهم من الدين: لحية كثة، ورأس محلوق، وإزار مشمر! ومع هذا رفض النبي الكريم صلى الله عليه وسلم اقتراح خالد.. وفي مواقف مماثلة اقتراح عمر رضي الله عنه وعامل هذا وأمثاله بظاهر إسلامهم.. فلقـد كان خلقـه صلى الله عليه وسلم العفو والصفح، وعدم الاستسلام لغضب طارئ أو حقد قديم.
وفي فتح مكة، قال لأهلها من المشركين- وقد ناله منهم ما ناله من أذى واضطهاد -:
( يا معشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم"؟ قالوا خيرا، أخ كريم [ ص: 59 ] وابن أخ كريم ! قال: فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم! اذهبوا فأنتم الطلقاء ) وهكذا عفا عنهم، وفتح صفحة جـديدة معهم. وهـكذا علم أصحابـه أن ينتصروا على الأحقاد، وينتصروا على الغضب.