- الرحمة بالحيوان والجماد:

وتتعدى الرحمة في الإسلام الإنسان لتشمل الحيوان البهيم، فقد أعطاه الإسلام حظه من الرحمة والشفقة والإحسان، فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته بعض القصص المتعلقة بالرفق بالحيوان، حضا لهم على تطبيق ذلك السلوك [ ص: 60 ] السوي، الذي يحقق رحمة الله العامة بكل مخلوقاته في الدنيا. ومن أمثلة ذلك حديث: ( بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش... ) >^[1] ؛ وحديث أن الله غفر لامرأة بغي لسقيها كلبا اشتد عليه العطش.

وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته ) >^[2] .

وقد شملت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم حتى الجمادات، فعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه ، قال: "كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر وكان عليه، فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت" >^[3] .

وفي هذا دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكا كالحيوان بل كأشرف الحيوان، وفيه تأييد لقول من يحمل: ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) (الإسراء:44) على ظاهره.. وقد نقل عن الشافعي أنه قال: "ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم ". فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى! فقال: "أعطى محمدا حنين الجذع، الذي كان يقف يخطب إلى جنبه، حتى هيئ له المنبر، فلما هيئ له [ ص: 61 ] المنبر، حن الجذع حتى سمع صوته، فهذا أكبر من ذلك" >^[4] .

ومن مظاهر الرحمة، كقيمة خصوصية شاملة:

أن الإسلام دعا إلى الصدق والبر والعدل، ومعرفة الواجب، وأداء الحق، والحلم، والصبر على البلاء، والتواضع، والرحمة، والشفقة، والوفاء، والعفة، وصلة الرحم، ورعاية الجوار، وصون اللسان، وكظم الغيظ، وعمل المعروف، وإصلاح ذات البين، وعيادة المريض، وإغاثة الملهوف، وتفريج المكروب، وضيافة الفقراء والصدقة على المحتاجين، ووضع السنن الحميدة في طلب الحلال والأكل والشرب والنظافة والطهارة، وحدد آداب الصحبة والمعاشرة، والمؤاخاة والمجالسة، وبين حقوق الوالدين وذوي الأرحام والأيتام والضعفاء والأصدقاء والأموات والبهائم والطيور، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونهانا في مقابل ذلك عن أضداد ما دعانا إليه، وعن مساوئ الأخلاق، فالكذب، والحسد، والنميمة، والغيبة، واللمز، والهمز، والكبر، والاحتكار، والغرور، والحرص، وأكل الربا، والظلم، والفرقة، وإيذاء الناس، وشهادة الزور، وقطع الأرحام، والإفساد في الأرض >^[5] . [ ص: 62 ]

وقد وردت نصوص كثيرة في السنة لما سبق ذكره من قواعد الرحمة... ومن الأحاديث الجامعة قوله صلى الله عليه وسلم : ( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ) >^[6] .

وقوله صلى الله عليه وسلم : ( البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس ) >^[7] والبر يكون بمعنى الصلة، وبمعنى اللطف والمبرة وحسن الصحبة والعشرة، بمعـنى الطاعـة، وهـذه هـي مـجـامع الخلق، ومعنى "ما حاك في صدرك" أي تحرك فيه وتردد ولم ينشرح له الصدر وحصل في القلب منه الشك >^[8] .

وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا.. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره.. التقوى هاهنا ) ويشير إلى صدره ثلاث مرات.. ( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم.. كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه ) >^[9] .

وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.. ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في [ ص: 63 ] الدنيا والآخرة.. ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة.. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) >^[10] .

والرحمة كلها خير، ولكن أعظم ما تكون الرحمة بالضعفاء من الناس، الذين لا حول لهم ولا طول، مثل اليتيم الذي فقد الأب، والأرملة التي فقدت الزوج، والمسكين الذي فقد المال، وابن السبيل الذي فقد الوطن.. وذلك مما يرتبط بمسألتي الخير والإحسان.

إن الإحسان ممدوح عليه المسلم، ومطلوب في كل شيء، ويتجاوز في ديننا حدود الإحسان إلى الإغصان، فمن كانت في يده غرسة وقامت القيامة فليغرسها.. والإحسان في الإسلام لا يحده دين، بل قد أحسن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجميع أحسن لليهودي والنصراني بل للمشركين وهو الأقوى يوم دخل مكة فاتحا.