- ثالثا: الاستمرار:
ومن خصائص العمل الخيري لدى المسلمين: الاستمرار؛ لأن فعل الخير عند المسلم إما فريضة دورية، يلزمه أداؤها بحكم إيمانه وإسلامه، مثل زكاة المال الواجبة في كل حول أو عند كل حصاد
( وآتوا حقه يوم [ ص: 77 ] حصاده ) (الأنعام:141) أو كزكاة الفطر الواجبة عند مقدم كل عيد للفطر من رمضان، أو فريضة غير دورية، مثل كل حق مالي يجب بوجوب المقتضى له، مثل نفقة القريب على قريبه المعسر، لما توجبه صلة الرحم، وحقوق أولي القربى، ومثل إطعام جاره، إذا جاع وهو بجانبه، ومثل قرى الضيف إذا لم يكن له مكان ينزل به، أو لم يكن لديه مال، وهو غريب الدار.. فقرى الضيف محمدة جليلة، وهو من مكارم الشيم، التي عرف بها العرب قبل الإسلام.
حـتى الشخـص، الذي لا يلـقي بالا لإكرامك إذا حـللت به ضيفـا، ولم يضيفك، فإذا حل بك ضيفا بعد ذلك فلا تعامله كما عاملك، بل يلزمك إكرامه وقراه.. عن أبي الأحوص عن أبيه قال: "قلت: يا رسول الله! الرجل أمر به فلا يقريني ولا يضيفني فيمر بي أفأجازيه؟ قال:
( لا.. أقره ) قال: ورآني رث الثياب، فقال: "هل لك من مال"؟ قلت: من كل المال قد أعطاني الله من الإبل والغنم، قال:
( فلير عليك ) >[1] .
وحسن الضيافـة ينبـع من شرف عظيم وخلق رصين، والكرم لا يضاهيه إلا التقى.. وهو من مكارم الأخلاق، التي جمعها يوسف، عليه السلام.. وأصل الكرم كثرة الخير، وقد جمع يوسف مكارم الأخلاق مع شرف النبوة، مع شرف النسب، وكونه نبيا ابن ثلاثة أنبياء متناسلين، أحدهم خليل الله إبراهيم، وانضم
[ ص: 78 ] إليه شرف علم الرؤيا، وتمكنه فيه، ورياسة الدنيا وملكها بالسيرة الجميلة وحياطته للرعية وعموم نفعه إياهم، وشفقته عليهم، وإنقاذه إياهم من تلك السنين.
قال العلماء: لما سئل صلى الله عليه وسلم : أي الناس أكرم؟ أخبر بأكمل الكرم وأعمه، فقال:
( أتقاهم لله".. ) ومن كان تقيا كان كثير الخير وكثير الفائدة في الدنيا، وصاحب الدرجات العلا في الآخرة
>[2] .
ومثل إغاثة المضطر وإخراجه من ضرورته.
وهناك مساحة رحبة لفعل الخير والتسابق إليه في حياة المسلم، في غير الفرائض والواجبات اللازمة، وذلك في دائرة التطوع بالخير لوجـه الله تعالى، كما قـال الله عـز وجـل في الثناء على عباده الأبرار المستحقين لجنته ورضوانه:
( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا *
إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) (الإنسان:8-9) وكل عمل ابن آدم يضاعف له، كما ورد في الحديث:
( كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.. ) >[3] . فالخير وفعله ونيته جزء من حياة المسلم، فإن استطاع فعل الخير لم يدخر وسعا، وإن لم يستطع نواه في قلبه، ودعا غيره إليه، ودله عليه ليكون له مثل أجره.
وفي المقابل التحذير من كفران النعم، والترغيب في شكرها، والاعتراف بها، وحمد الله عليها، ومما يستأنس به في هذا الصدد قصة
[ ص: 79 ] الثلاثة، الذين بدا لله أن يبتليهم، وقصتهم أوردها البخاري
>[4] في حديث طويل - يمكن الرجوع إليه في الصحيح- وفيه:
"جـواز ذكر مـا اتفق لمـن مضى؛ ليتعظ به من سمعه، ولا يكون ذلك غيبة فيهم... وفيه التحذير من كفران النعم، والترغيب في شكرها، والاعتراف بها، وحمد الله عليها.. وفيه فضل الصدقة، والحث على الرفق بالضعفاء، وإكرامهم، وتبليغهم مآربهم.. وفيه الزجر عن البخل؛ لأنه حمل صاحبه على الكذب وعلى جحد نعمة الله تعالى"
>[5] .
ومما يدخل في سياق الخير وفعله ونيته، ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم :
( الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر: فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال بها في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنه انقطع طيلها، فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها، وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر، فشربت منه ولم يرد أن يسقي كان ذلك حسنات له، فهي لذلك أجر، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي لذلك ستر، ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام، فهي على ذلك وزر ) >[6] .
[ ص: 80 ]
وقد علم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كل مسلم: أن يتصدق بصدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، على نفسه، بل عن كل عضو من أعضائه أو مفصل من مفاصله، كما في الحديث الصحيح: أن
( في الإنسان ثلاث مائة وستون مفصلا، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة ) >[7] .. وفي الحديث أيضا:
( على كل مسلم صدقة".. فقالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد؟ قال: يـعمل بيـده، فينفع نفسـه ويتصـدق".. قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف".. قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فليعمل بالمعروف، وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة ) >[8] .
ومـن دواعي استـمرار المسـلـم في عمل الخـير وتصدقه عن نفسه: أن الله تعالى يثيبه على كل عمل يقوم به، وإن احتقره في نفسه، فقد قال تعالى:
( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) (الزلزلة:7)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :
( ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) >[9] .