5- غياب ثقافة التطوع:
إن مما يلفت النظر ابتداء أن التدني في فاعلية التطوع، في معظم المجتمعات العربية، يأتي في وقت هي أشد ما تكون حاجة إلى تنشيط كافة فعاليات العمل الأهلي، وفي القلب منها فعاليات العمل التطوعي، وذلك لأسباب تعود إلى طبيعة التحولات الاقتصادية والسياسية، التي تمر بها من جهة، ونظرا لصعود موجة الاهتمام العالمي بما يسمى "القطاع الثالث" أو "اللاربحي" من جهة أخرى، مع ما يفرضه هذا الصعود من ضرورة التفتيش عما تملكه في مخزونها الثقافي والقيمي من محفزات ودوافع تنشيط العمل التطوعي وتطويره، إذ لم يحظ العمل التطوعي في أي ثقافة أجنبية بمثل المكانة، التي حظي بها في الثقافة الإسلامية، ومع ذلك فإن ثقافة التطوع في المجتمع العربي المعاصر تتسم بدرجة متدنية من الفاعلية، في معظم البلدان، وهو ما يدفعنا للتساؤل: لماذا هذا التدني في فاعلية التطوع وفي جدواه الاجتماعية في عالمنا العربي؟
لاشك أن هناك أسبابا كثيرة يمكن ردها إلى أن الثقافة السائدة في هذا المجال تعاني بدورها من إشكاليات أربع:
- إشكاليات التسييس.
- اختلال الأولويات.
[ ص: 166 ]
- جمود الخطاب الفكري وتقليده في ميدان التطوع.
- ازدواجية المرجعية المعرفية في هذا الميدان.
وقد نبتت هذه الإشكاليات، بمجملها، في مناخ عام عاشته معظم المجتمعات العـربية على مدى النصـف قرن الأخير، حيث تشـكل هذا المناخ في إطار فلسفة الرأي الواحد، من أعلى هرم السلطة إلى أدناه، وهو ما يناقض فلسفة التطوع القائمة على المبادرة والاختيار الحر.. ولكن ماذا عن هذه الإشكاليات من المنظور الواقعي؟
تجلت إشكالية اختلال الأولويات، داخل ثقافة التطوع، في التركيز على مفاهيم وأفكار التطوع حول قضايا لا تحتل أولويات متقدمة في سلم الاهتمام العام للمجتمع، الأمر الذي تؤكده ممارسات الخطاب الثقافي الوافد، حيث يولي اهتماما كبيرا بأفكار التطوع والعمل الأهلي في قضايا المرأة والسلام والبيئة، أكثر من قضايا محو الأمية والبطالة والرعاية الصحية، التي تحتل أولوية متقدمة بالنسبة لمعظم المجتمعات العربية.
ونظرا إلى حالة الجمود، الذي يعانيه القائمون على العمل التطوعي، وعدم قدرتهم على إنشاء خطاب ثقافي يتسم بالفاعلية والتجديد والتجاوب مع متغيرات الواقع، فإنهم يواجهون إشكالية جمود وتقليدية الخطاب الفكري، الذي يمارسه معظمهم.. إن جمود ثقافة التطوع وتقليديته - على هذا النحو - تجعله غير قادر على التوسع وكسب قواعد اجتماعية جديدة، بسبب جموده الداخلي، وكذلك سيطرة قيم الثقافة الفردية وانصراف معظم أفراد المجتمع لحل
[ ص: 167 ] أزماتهم الخاصة، كما أن هذا الجمود يجعله حبيسا لأطره المحلية والقطرية، وعاجزا عن التفاعل والتوافق مع الخطاب العالمي لثقافة التطوع.. والنتيجة النهائية لذلك هي استمرار قابلية ثقافة التطوع بالمجتمع العربي للتأثر بثقافة الآخر، والتبعية لها، دون القدرة على التأثير فيها أو تجنب سلبياتها.
وتستند ثقافة العمل التطوعي في المجتمع العربي في قسمها الموروث إلى المرجعية التراثية الدينية، فيما تستند في قسمها الوافد إلى المرجعية العلمانية، وتتسبب هذه الازدواجية في ظهور ازدواجية المرجعية المعرفية في هذا الميدان، لتسبب كثيرا من التناقضات والانقسامات داخل خطاب الثقافة السائدة للتطوع، إذ يعمد أنصار الموروث إلى التركيز على المضمون الديني الإسلامي للتطوع، مع إعطائه تفسيرا ضيقا لا يتسع في كثير من الحالات لغير المسلمين، بينـما يركز أنصـار الوافد على المضمون المادي "الدنيوي" للتطوع، وينفون - أو يتجاهلون - أية أبعاد روحيـة أو دينية له، ولا يعود مثل هذا الانقسام إلا بآثار سلبية على ثقافة التطوع بصفة عامة.
وتسبب إشكالية "الازدواجية المرجعية" ضررا آخر لثقافة التطوع في المجتمع العربي بإسهامها في إيجاد منافسة غير متكافئة بين المكون "الموروث" والمكون "الوافد"، حيث لا يجد أنصار الوافد مانعا - حسب مرجعيتهم المعرفية - يمنعهم من قبول التمويل الأجنبي، أو العمل طبقا لأجندة أولويات لا تخدم المجتمع العربي، الذي يعملون فيه بالضرورة، فضلا عن الآثار السلبية لتلك الأجندة الأجنبية على نظام القيم والأخلاقيات في المجتمعات العربية..
[ ص: 168 ] ليس ذلك فحسب، وإنما يؤدي هذا التمويل الأجنبي إلى خلق حالة من التناقض في منظومة القيم والمبادئ، التي تقوم على أساسها ثقافة التطوع، فبينما تؤكد الثقافة الموروثة على قيم الاعتماد على الذات والتضحية والبذل والعطاء من ذات اليد والإيثار، تأتي الثقافة التطوعية الوافدة - بقبولها التمويل الأجنبي - لتؤكد على قيم التواكل على (الغير)، أو التطوع بأموال الآخرين، واستمرار الخضوع، وذل المسألة.. (وليس غريبا في هذا السياق أن يتلقى طالبو التمويل الأجنبي دورات تدريبية في كيفية كتابة الطلب، الذي يتقدمون به للجهات الأجنبية للحصول على التمويل، وهذا الطلب هو صيغة حديثة لتكريس ذل المسألة).
ولكن ثمة مبشرات، برغم كل الصعوبات والتعقيدات، التي تكتنف ثقافة العمل التطوعي، وثمة ما يشجع على التصدي للمعوقات، ويبشر بإمكانية التغلب عليها، ويبدو ذلك من جملة التغييرات الاجتماعية والتحولات السياسية والاقتصادية، التي تجري على مستوى المجتمع العربي كله - وإن بدرجات متفاوتة، من منطقة إلى أخرى، منذ ما يقرب من عقدين على الأقل - إذ إن خلاصة هذه التغييرات وتلك التحولات تصب باتجاه تغيير المناخ الشمولي، الذي تولدت فيه أزمة ثقافة العمل التطوعي من ناحية، وتسهم في تشكيل مناخ جديد أكثر انفتاحا ومرونة من قبل الدولة في علاقتها بالمجتمع من ناحية أخرى، إلى جانب ذلك ثمة ضرورات محلية قطرية وإقليمية، عربية ودولية، تتطلب بذل مزيد من الجهود المنظمة من أجل تفعيل ثقافة العمل التطوعي.
[ ص: 169 ]
فعلى المستوى المحلي، لكل بلد عربي، بات من الضروري إيلاء ثقافة التطوع الاهتمام الكفيل بإخراجها من حالة الركود إلى حالة الفاعلية، لأن في ذلك مصلحة مزدوجة للدولة والمجتمع معا، فالدولة من جهتها تسعى للتخفيف من أعباء إرث السلطة الأبوية، والانتقال من فلسفة الرعاية الكاملة إلى الرعاية النوعية، ومن هنا فإن تفعيل ثقافة العمل التطوعي يأتي في خدمة هذا التوجه، أما من جهة المجتمع فقد عانى بما فيه الكفاية من الإقصاء والتهميش في ظل الدولة الشمولية، وهو يتطلع كذلك إلى ترميم شبكة العلاقات التعاونية والتراحمية بين فئاته
>[1] .
فالسنة النبوية تحث على التراحم والتواد والتهادي، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى ) >[2] ؛ ويقول صلى الله عليه وسلم : "اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما.."
>[3] .
وفي حديث آخر:
( قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله ) >[4] .
[ ص: 170 ]
والـكفـاف: الـكفـايـة بلا زيـادة ولا نقص، وفيه فضيلة هذه الأوصاف، وقد يحتج به من يقول: الكفاف أفضل من الفقر ومن الغنى
>[5] .
وفي الحديث أيضا:
( ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس ) >[6] ، فليسـت حقيقة الغنى كثرة المـال؛ لأن كثيرا ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أوتي، فهو يجتهد في الازدياد ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب فكأنه غني.
وقيل: إن الغنى النافع أو العظيم الممدوح هو غنى النفس، وبيانه أنه إذا استغنت نفسه كفت عن المطامع فعزت وعظمت: وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى: الذي يناله من يكون فقير النفس لحرصه.. والحاصل أن المتصف بغنى النفس يكون قانعا بما رزقه الله، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة ولا يلح في الطلب ولا يلحف في السؤال، بل يرضى بما قسم الله له
>[7] .