ثانيا: القيم المتفرعة عن الإيمان:
تتفرع عن قيمة الإيمان قيم أخرى تفصيلية، تترك آثارا أبعد - من حيث التفاصيل - في سلوك الإنسان ومفاهيمه ونمط عيشه، وذلك على النحو الآتي:
1- التوحيد:
وهو ركن الإسلام الأعظم، الذي من دونه لا يقبل من الإنسان في الآخرة أي نوع من أعماله، مهما كانت صالحة، فالذين كفروا:
( مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ) (آل عمران:117)، إنه شرط القبول الأول.
والوحدانية المنطلق الأساس الأول لعقل المسلم، ولا يكون لهذا العقل وجود إلا باعتقاده وإيمانه بالتوحيد، إنه مسلمة عقدية بدهية فطرية عقلية، تمازج كل ذرة من كيان المرء المسلم ووعيه وضميره وفهمه لذاته وكيانه وللكون من حوله؛ وأساس هذه العقيدة إيمان مطلق وإدراك عميق لله تعالى جل شأنه، الخالق الحق، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي ليس كمثله شيء. والعقل المسلم يستلهم في حركته الحياتية مبدأ الوحدانية في تصوراته وعلاقاته كافة، وليس في منهج هذا العقل مجال إلى الشك أو الظن أو الحيرة أو التحفظ في طبيعة الوجود وغايته ومآله
>[1] ، ولا سيما بعدما انحرف مبدأ التوحيد عن مساره
[ ص: 41 ] في الديانات الأخرى:
( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ) (التوبة:30) وهكذا يبقى التوحيد السمة المميزة الفريدة للمسلم في عقله وسلوكه وضميره.
وأصل التوحيد من الوحدة، أي التفرد
>[2] . والواحد: الفرد الذي لا ثاني له من العدد، فالله هو الواحد الأحد، الأول الذي لا ثاني له، ولم يسبقه شيء، والواحد أيضا الذي لا نظير له، ولا مثيل له، كقولهم: فلان واحد قومه في الشرف أو الكرم أو الشجاعة: أي لا نظير له في ذلك ولا مساجل
>[3] . فالتوحيد إذن يأخذ ثلاثة أبعاد؛ فليس لله مكمل من زوجة أو ولد، حاشاه:
( ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ) (الجن:3) وليس له شريك في ملكوت الكون والقيام عليه:
( ولم يكن له شريك في الملك ) (الفرقان:2)، ولا شبيه له على وجه الإطلاق:
( ليس كمثله شيء ) (الشورى:11).
وقد أشارت سورة العنكبوت إلى توحيد الله في مواضع عدة، كقول الله سبحانه:
( وإلهكم واحد ) (الآية:46)، وقوله تعالى:
( وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ) (الآية:8)، وقوله عز وجل:
( وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) (الآية:22)، ثم قوله جل شأنه:
( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ) (الآية:41).
[ ص: 42 ]
وقد قسم العلماء التوحيد إلى أقسام عدة، وكل قسم منها يقوم على أسس معينة ونواحي مختلفة، ولعل أبرز هذه التقسيمات وأهمها وأوضحها تقسيمه إلى: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات. ومتعـلـق توحـيد الألوهيـة: الأوامـر والنواهـي، من الواجب والمحرم والمكروه، أما متعلق توحيد الربوبية فهو الأمور الكونية، كالخلق والرزق والإحياء والإماتة وغيرها
>[4] . فقولنا: (لا إله إلا الله) يتضمن نفيا وإثباتا؛ نفي الإلهية عمن سوى الله، وإثباتها لله وحده، فهو وحده المستحق لأن يعبد ويطاع فيما أمر ونهى
>[5] . في حين يشتمل توحيد الربوبية على أن الله تعالى هو وحده الخالق لهذا الكون، وهو وحده المالك له، وهو وحده المدبر له، والتدبير يتعلق بأنواع التصرف كلها في هذا الكون الرحب
>[6] .
في حين يتضمن توحيد الأسماء والصفات إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه في القرآن الكريم وما صح على لسان رسلـه من الأسماء الحسنى والصفـات العلى، الـدالة على كماله، إثباتـها بـمعـانيـهـا الحقيقـية من دون تشبيه أو تـمـثيل أو تكييف، ونفي ما نفاه الله عز وجل عن نفسه أيضا
>[7] .
[ ص: 43 ]
وقد تضمنت سورة العنكبوت إشارات كثيرة إلى جوانب التوحيد الثلاثة، فمما جاء في توحيد الربوبية، قول الله سبحانه:
( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله ) (الآية:61) وقوله:
( ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ) (الآية:63)، إذ أقر المشركون بتوحيد الربوبية بوصف أن الله تعالى هو الخالق، ولكنهم لم يقروا له بتوحيد الألوهية:
( خلق الله السماوات والأرض بالحق ) (الآية:44)، كما أشارت السورة إلى ملكوت الله تعالى:
( آمنوا إن أرضي واسعة ) (الآية:56)، و قوله تعالى:
( وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء ) (الآية:22)، ليسوا بمعجزين لأنهم يتقلبون في ملكوت الله، الذي يهيمن عليه تماما بملكه إياه. أما تدبير الله لملكوته فمما جاء فيه بشأن الرزق مثلا قول الله تعاظم شأنه:
( الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ) (الآية:62)،
( الله يرزقها وإياكم ) (الآية:60).
أما توحيد الألوهية فقد أشارت إليه السورة عبر ما أمر الله تعالى به من عبادات، وما دعا إليه الأنبياء من عبادة الله كقول الله تعالى:
( اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة ) (الآية:45)، وقوله تعالى:
( وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله ) (الآية:16)،
( فإياي فاعبدون ) (الآية:56).
وبشأن توحيد الأسماء والصفات فقد وردت آيات كثيرة أشارت إلى أسماء الله وصفاته منها:
( وهو السميع العليم ) (الآية: 5 و60)،
( إنه هو العزيز الحكيم ) (الآية:26)،
( إن الله لغني عن العالمين ) (الآية:6)،
[ ص: 44 ] ( إن الله على كل شيء قدير ) (الآية:20)،
( الله بكل شيء عليم ) (الآية:62).
وعقيدة التوحيد هذه ليست إطارا نظريا لما ينبغي على المؤمن أن يعتنقه، بل هي محفز سلوكي عملي قيمي، وعلى وفقها لا بد من التحلي بأنماط سلوكية مهمة ترتقي بالإنسان عقلا وضميرا وسلوكا، وصولا إلى رسم ملامح الأمة كاملة في حياتها وحضارتها، حتى ليمكن القول: إن حضارتنا قامت برمتها على أساس التوحيد، بل هي على قول بعضهم أول حضارة نادت بالإله الواحد، الذي لا شريك له في حكمه وملكه
>[8] .
فبالإسلام غدا التوحيد القيمة، التي تميز بين انحطاط الفكر وسموه، بين انحطاط السلوك ورقيه، فكل من لا يعرف التوحيد الخالص يسقط - بلا ريب - في دناءة الفكر، منقادا إلى الوضاعة، مهما دلت معالم حياته المادية والفكرية على (الرقي)، فإن من انحط في العقيدة، وارتقى في الماديات، إنما ينظر إلى الوجود بعين واحدة
>[9] .
ومن الجوانب المهمة في توحيد الله تعالى أنه يقتضي منتهى العبودية له، وبما أنه لا يجوز أن يكون المرء عبدا لجهتين في آن واحد، لذا فإن منتهى العبودية لله يعني في الوقت نفسه منتهى الحرية، العبودية لله تستوجب التحرر
[ ص: 45 ] العقلي والوجداني من الانقياد لغير الله بما فيه مخالفة لله عز وجل فـ
( لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل ) >[10] ، أيا كان هذا المخلوق، أبا أو أما، عالما أو حاكما أو ملكا أو غير ذلك؛ فالطاعة المطلقة لله تعالى وحده، وطاعة غيره في معصيته خروج عن التوحيد الحق، والعياذ بالله. إن التزام هذه القاعدة كفيل بإخراج الأمة مما تاهت فيه من متاهات العلمانية والأنظمة الوضعية، التي تشعبت بالمسلمين وتفرقت بهم في السبل، فضيعوا ما ينبغي أن يعتصموا به، وفيه نجاتهم وسلامة منهجهم الحياتي والأخروي في الوقت نفسه.
ويسهم التوحيد أيضا في تحقيق الرقي العقلي والفكري والوجداني والنفسي للإنسان الموحد بالله المعتقد بأسمائه وصفاته؛ فمن صفات الله تعالى أنه وحده عالم الغيب والشهادة:
( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) (الأنعام:59)،
( فقل إنما الغيب لله ) (يونس:20)، وقد اختص الله نفسه بهذا الغيب، لا يطلع أحد عليه، إلا من ارتضى:
( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) (آل عمران:179).
وهـذا ما يترتب عليـه أن لا يلجأ المؤمن الموحد إلى منجم أو فلكي أو متنبئ أو كاهن أو ساحر أو مشعوذ ممن يدعون معرفة الغيب، وفي هذا السياق قال النبي :
( من أتى عرافا فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) >[11] . فالمرء الـذي يقصد هؤلاء إنما يعكس ضعف إيمانه وضعف عقله
[ ص: 46 ] في الوقت نفسه، فالعقل السليم هو الذي يتصرف على مقتضى الإيمان أولا، ومقتضى العقل العلمي أيضا.
ومن ناحية أخرى، فإن التوحيد المطلق لله تعالى يسهم في بلورة علاقات اجتماعية من نمط مختلف، فإن هذه العقيدة تتطلب الموالاة في الله، فيكون الحب في الله والبغض في الله، استنادا إلى مبدأ الولاء والبراء، فمن آمن بالله ووحده على أساس ما أمر الله تعالى به ونهى عنه هو أخ لمن اعتقد مثل اعتقاده، فيرتبط هؤلاء بعلاقة الأخوة الإيمانية:
( إنما المؤمنون إخوة ) (الحجرات:10) وقال النبي :
( المتحابون في الله على منابر من نور... ) >[12] . ومثل هذه العلاقة يترتب عليها نمط من التماسك الاجتماعي الراسخ يقوم على التعاضد والتناصر والمواساة، وقد ضرب الصحابة y أسمى صور هذا النمط من العلاقة؛ وهو ما ينجم عنه رسوخ الأمن والاستقرار والطمأنينة في مثل هذا المجتمع.
أما من ناصب الله تعالى العداء وخالفه في توحيده وفيما أمر به ونهى عنه فلا يجوز شرعا موالاته، وإلا فإن من يفعل ذلك يضع نفسه في نسق يتماثل به مع هؤلاء حتى ليغدو منهم:
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) (المائدة:51) وتنصرف هذه الموالاة إلى الموالاة القلبية والقولية والعملية، فلا تحل مناصرتهم بأي شكل من الأشكال في أمر من الأمور، التي ناصبوا فيها المسلمين - أو بعضهم - العداوة والبغضاء.
[ ص: 47 ]
ومن جوانب التوحيد التام لله تعالى عدم دعاء غيره، قال الله سبحانه:
( وادعوه مخلصين له الدين ) (الأعراف:29)،
( فادعوه مخلصين له الدين ) (غافر:65)، ومما نصح به النبي ابن عباس، رضي الله عنهما، وعلمه إياه قوله:
( احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف ) >[13] . وفي هذا إيجاز شديد وبلاغ بين، أنه لا يحل لامرئ مسلم أن يستعين بغير الله في أمر من الأمور، التي هي خارج عمل الإنسان المعروف، فإنه من الشرك المحبط للعمل، ويستوي في ذلك المخلوقون كافة مهما كانت مرتبتهم من نبي أو ولي أو غير ذلك، إذ لا يملك أحد منهم قدرة التصرف في ملكوت الله غير الله، والله جل جلاله ليس بحاجة إلى وسيط ليجيب دعاء الداعين:
( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) (غافر:60)، وعلى هذا فإن من سلامة العقل، وسلامة التصور، وسلامة الفكر أن يدرك المؤمن الموحد إلى من يتوجه، وممن يطلب، فمن دعا غير الله وسـألـه، فسيبقـى يدعـو ويدعـو، ولكن لا من مجـيب، لأن مـن يدعـوهـم لا يملكون صرفا ولا عدلا، ولا سيما الأموات منهم، وربما زين لهم الشيطان
[ ص: 48 ] نوعا من الاستجابة تبدو لهم، ولكنها نوع من الاستدراج ليستحقوا به مزيدا من سخط الله؛ لأنهم تولوا عنه إلى غيره فيما هو من شأنه.
أما ما يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات، فقد أشارت سورة العنكبوت إلى عدد من أسماء الله تعالى وصفاته منها قول الله سبحانه:
( وهو السميع العليم ) (الآية:5،60 )،
( إنه هو العزيز الحكيم ) (الآية:26)،
( وهو العزيز الحكيم ) (الآية:42)،
( إن الله على كل شيء قدير ) (الآية:20)،
( إن الله بكل شيء عليم ) (الآية:62)،
( خلق الله السماوات والأرض ) (الآية:44)،
( أولئك يئسوا من رحمتي ) (الآية:23).
إن أسماء الله وصفاته مقتضية لآثارها من العبودية، فكل صفة تقتضي من العبودية ما يخصها، أي أنها من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية، التي تلزم القلب والجوارح، فعلم العبد بتفرد الرب بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة يثمر له عبودية التوكل على الله
>[14] .
وعلم العبد بأن الله تعالى سميع بصير عليم يجعله يدرك أن الله تعالى مطلع على كل حركاته وسكناته، كيفما كانت وأينما كانت وفي أي وقت كانت، فإن الله تعالى يسمع ويرى ويعلم الغيب. فأمر العبد مكشوف أمام
[ ص: 49 ] خالقه لا تخفى منه خافية. ومعرفة العبد أن ربه صادق الوعد والوعيد يجعله يفهم أن ربه سيحاسبه على ما بدر منه فيعاقبه أو يثيبه على أساس ما جاء به الوحي. وهكذا يمضي الأمر على هذا المنوال في أسماء الله وصفاته كلها. وهذا يتطلب من المؤمن أن يضع ذلك في حسابه، ويحذر من ربه أن يعجل له العذاب في الدنيا قبل الآخرة.
2- الإيمان بالملائكة:
أشار القرآن الكريم إلى الملائكة في عشرات المواضع، أما في سورة العنكبوت فقد جاء ذكرهم في موضعين، في قول الله سبحانه:
( ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ) (الآية:31)، وقوله تعالى:
( ولما أن جاءت رسلنا لوطا ) (الآية:33)، ومن ثم فإن الإيمان بالملائكة من مقتضيات الإيمان الحق، وجحودهم يقدح بإيمان المرء وينقله من الإيمان إلى الكفر. والإيمان بهم في الحقيقة موضع ابتلاء واختبار لصلابة الإيمان، فرب جاحد يشكك ويتساءل: هل أن الله تعالى بحاجة إلى الملائكة ليحصوا على الناس أعمالهم ويسجلوها؟ وهل أن الله تعالى يحتاج إلى الملائكة لقبض أرواح الناس، أو للدفع عن الناس مما ليس مقدرا لهم، أو لسؤال الموتى في القبور، أو للوقوف على أبواب الجنة والنار؟! ولقد وجدنا من يتندر بذلك ويسخر منه مع زعمه أنه مؤمن بالله، ولكنه إيمان عقلي منطقي بزعمه، فيرى أن من كمال التوحيد التنكر لبعض ما جاء به نص الحديث النبوي الشريف عن أعمال الملائكة.
[ ص: 50 ]
نعم إن الله تعالى منزه عن الحاجة أو الافتقار إلى شيء، فهو الغني عن العالمين، إلا أن خلقه للملائكة لحكمة الابتلاء، فمن يؤمن بهم يكون قد رسخ إيمانه بالله تعالى وصدق تماما بما جاءت به الكتب والرسل من عند الله جل شـأنه، أما من شـك بـهم أو اسـتـهزأ بـهم، فـإن مثـل هـذا لم يتـم إيـمانه بالله ولا بالرسل ولا بالكتب، التي جاءت بخبر الملائكة أو ببعض شأنها؛ وهكذا يتقوض إيمان مثل هؤلاء.
وعليه، فإن مما يقود إليه الإيمان بالملائكة رسوخ الإيمان بالله جل شأنه، والإيمان بقدرته وعظمته، التي لا تحدها حدود. كما أن الإيمان بالملائكة يمنح المؤمن الثقة بلطف الله تعالى ورحمته به إذ جعل للإنسان ملائكة معقبات تحفظه:
( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) (الرعد:11).
قال المفسرون: يحفظونه من أمر الله أي بأمر الله تعالى، مثل قول القائل: جئتك من دعائك إياي، وبدعائك إياي
>[15] ، فإن الله تعالى سخر الملائكة المعقبات لحفظ المرء مما لم يـقدر عليه، وهكذا نسمع كثيرين يقولون: فلان نجا من الموت بأعجوبة، وأية أعجوبة! إنها المعقبات، التي تـحفظ الناس مما لم يكن مكتوبا
[ ص: 51 ] في علم الله في أقدارهم، سواء أكانوا مؤمنين أم غير مؤمنين، فذلك مما يزيد في يقين المؤمن بربه، فيكون أكثر اطمئنانا وإحساسا بالأمن في كنف ربه.
كما أن إيمان المرء بأن ثمة ملائكة عن يمينه وعن شماله تحصي عليه عمله، الحسن والسيء منه، ربما شكل رادعا عند المؤمن، فمع إيمانه أن الله تعالى لا يغيب عنه مثقال ذرة من عمله، ومطلـع عليه في كل وقت وحـين، إلا أن إيمانه بأن ثمة ملائكة تراقبه وتحصي عليه هو نوع من المراقبة الحسية الآنية، جاء في قول الله تعالى:
( إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد *
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) (ق:17-18)، فهما ملكان عن يمين المرء وعن شماله يتلقيان قوله ويكتبانه
>[16] ، وكل منهما رقيب يحفظ قوله
>[17] .
ثم إن وجود ملائكة تحصي وتكتب، وهي حاضرة مع المرء على الدوام، يبعث في نفس المرء - أو هكذا يجب أن يكون الأمر - يبعث في نفسه الحياء والخـجـل من فـعـل المعـاصي والقبائـح؛ لأن هنـاك ملائكة تنظر وترى وتسمـع ما يقوم به، فهو ليس وحـده في أحـواله كلها، بل هنـاك من يطـلـع عليه، وبهذه الصورة يسهم الإيمان بالملائكة في بلورة أنماط ومفاهيم سلوكية تتأسس على قيم الإيمان.
[ ص: 52 ] 3- الإيمان بالكتب السماوية:
إذ يقتـضى الإيـمان الـكامل إيمان المسلم بأن الله تعالى أوحى إلى أنبيائه ورسلـه كتبا لعـل من أبرزها وأشـهرها التـوراة والإنـجيل والقرآن الكريـم. فإيـمان المسـلم لا يقـتصر على القرآن الكريم، بل يؤمن بما أنزل على بقية الأنبياء والرسـل من كتب، ولا يسـلم الإيـمان مع جحـد شيء من هذه الكتب.
وذكرت الكتب في سورة العنكبوت في المواضع الآتية:
( وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ) (الآية:27)،
( اتل ما أوحي إليك من الكتاب ) (الآية:45)،
( وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ) (الآية:46)،
( وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ) (الآية:47)، ثم قوله سبحانه:
( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب ) (الآية:51).
إن من بين أهم ما يترتب على الإيمان بالقرآن، كتابا منزلا من عند الله، الاطمئنان إلى أن الله تعالى لم يدع البشر يتخبطون في متاهات الأيديولوجيات والفلسفات والتحريفات، التي أصابت الكتب السماوية الأخرى، فأنزل عليهم كتابا تعهد بحفظه حتى قيام الساعة:
( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9)، إذن فهو كتاب مصون من التحريف، ليكون بذلك محل اطمئنان، ولما كان منزلا من لدن الله تعالى فهو محل اطمئنان مرة أخرى،
[ ص: 53 ] فمصدره الله الحكيم العليم الخبير الرحيم، الذي لا يخفى عليه شيء مما يصلح للبشر في معاشهم ومعادهم، وهو بذلك سبيل النجاة الوحيد ولا نجاة من دونه، ولا سلامة للعيش من دونه، ولا سلامة في الآخرة من دونه، يجنب الأمة مناهج التخبط والضلال.
ومن ناحية أخرى، فإن القرآن الكريم يمثل منهج التحاكم بين الناس، فلا يحل التحاكم أو الاحتكام إلى غيره، ومن احتكم إلى غير كتاب الله فقد خضع لقول الله تعالى:
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) (المائدة:44)، ولا يعذر في ذلك الجهل أو عدم الفهم، فقد استفاض أمر الإسلام واشتهر ولم يعد أحد يجهل هذه المسألة أو لا يفهمها، أي وجوب التحاكم إلى شرع الله سبحانه، ويزداد الأمر سوءا عندما يعتقد من يحكم بغير ما أنزل الله أن الإسلام وأحكامه لم يعودا صالحين لزماننا هذا بذريعة تطور الظروف وتغير الأحوال، وأن الأمم الأخرى - من غير المسلمين - تشهد تطورا وتقدما، وتعيش حياة أفضل مما هو عليه حال المسلمين، ولم يحققوا ذلك إلا بفضل فلسفاتهم وأيديولوجياتهم، وإذا كنا ننوي بلوغ ما بلغوا، فما علينا سوى انتهاج سبيلهم واتخاذ مناهجهم (!!).. إن مثل هذا القول يتضمن جحود القرآن والسنة وإنكار سلامتهما وصلاحياتهما، ومثل هذا ليس من خلاف على الحكم عليه.
[ ص: 54 ] 4- الإيمان بالأنبياء والرسل:
تضمنت سورة العنكبوت سبع إشارات إلى الأنبياء والرسل هي:
( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ) (الآية:14)،
( وإبراهيم إذ قال لقومه ) (الآية:16)،
( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) (الآية:18)،
( وجعلنا في ذريته النبوة ) (الآية:27)،
( ولوطا إذ قال لقومه ) (الآية:28)،
( وإلى مدين أخاهم شعيبا ) (الآية:36)،
( ولقد جاءهم موسى بالبينات ) (الآية:39).. والإيـمان بالأنبياء والرسـل جـزء لا يتجزأ عن مجمل الإيمان، ولا يصح إيمان قطعا من دون الإيمان بهم.
والأنبياء والرسل من نعم الله تعالى على البشرية، بهم تتم الهداية إلى الدين الحق:
( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (آل عمران:164)، والنبي ، هو دعوة إبراهيم لهذه الأمة:
( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) (البقرة:129). فلماذا يكون الإيمان بالأنبياء والرسل ضرورة واجبة؟
إن العقل البشري قاصر حتما عن بلوغ درجة الكمال وبلوغ العقيدة السليمة، هذا مع ما بثه الله تعالى في نفوس البشر من سلامة الفطرة، فـ
( ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه ) >[18] .
[ ص: 55 ]
ولكن كلا من العقل وسلامة الفطرة لا يبلغان بالمرء أيضا حقيقة الإيمان التام، فقد شهدت عدة حضارات رقيا كبيرا في مجال الفلسفة والنشاط العقلي، كما هو حال حضارة الإغريق وحضارة الصين وحضارة الهند، إلا أن أيا من هذه الحضارات لم تدرك الغيبيات ولم تعرفها، وبقيت وثنية مشركة؛ لقصور العقل الإنسـاني عن معرفة الغيب.. وهنا تأتي مهمة الأنبياء والرسل في تبليغ بني البشر ما يجب أن يعتقدونه ويؤمنوا به.
وعليه، فما من إنسان يسعه الزعم أنه قد اهتدى من دون الإيمان بالأنبياء والرسل، فهم أصفياء الله عظم شأنه في التبليغ عن ربهم، وقد عصمهم الله جل شأنه فيما بلغوا عنه، لذا فهم لا يخطئون، ولا يضلون، ولا ينسون، ولا يكذبون، ولا يتوهمون في التبليغ. فهم والحال هذه مصدر التلقي بالنسبة للبشر ما يجب اعتقاده والإيمان به.
ومن هنا فإنه لا بد من تعظيم الرسل، وتصديقهم، واتباعهم، والاحتكام إليهم وإلى ما جاءوا به، كل في زمانه، أما من أعرض عنهم فقد وقع في الضلال، ليس بشأن الآخرة فحسب بل بما يتعلق بعمله الدنيوي أيضا، أعني فيما يعتمده من منهج في حياته، وما يعتمده من قيم ومعايير، وما يجره ذلك من أنماط سلوكية، وأحكام وشرائع، ومن كان حاله كذلك فهو والبهائم سواء، مهما كان نوع الرقي المادي، الذي يعيشه:
( إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) (الفرقان:44).
[ ص: 56 ]
وعلى الضد من ذلك، فإن الإيمان بالرسل يثمر - فيما يثمر - عن قيم ومعايير أساسية ترسم ملامح حياة وحضارة تباين وتخالف حياة المكذبين وحضارتهم، ولا سيما في المجال القيمي والفكري والاعتقادي.
5- الإيمان بالبعث والحساب:
جاء ذكر البعث والحساب وما يتعلق بهما أكثر من عشرة مرات في سورة العنكبوت، منها قول الله عز وجل:
( ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ) (الآية:25)،
( وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) (الآية:27)،
( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ) (الآية:64)،
( وإليه تقلبون ) (الآية:21)، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. والإيمان بالآخرة والقيامة والحساب والمشاهد، التي سيشهدها البشر آنذاك والجنة والنار من أركان الإيمان، التي بجحدها ينتقض إيمان المرء، فلا يستقيم إيمان من دونها.
ويترتب على هذا الإيمان معطيات في غاية الأهمية سنشير إليها هنا إجمالا وسنفصلها بيانا في فقرة لاحقة؛ فالإيمان بالآخرة يقتضي الخوف من حساب الله تعالى، إذ يترتب على هذا الحساب إما جنة وإما نار؛ وليس من عاقل يزكي نفسه بدخول الجنة:
( بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ) (النساء:49).. وعليه، فثم مصير مخوف، وهو الوقوع تحت طائلة عذاب النار في جهنم، والعياذ بالله؛ فلا بد للمرء من الاجتهاد ما وسعه السبيل للنجاة منها، ولا يكون ذلك إلا باتباع الهدي الصحيح، منهج الدين الحق، الذي شرعه الله تعالى وجاء به نبيه صلى الله عليه وسلم ، بكل ما يتضمنه ذلك من عقيدة وأحكام وأخلاق.
[ ص: 57 ]
إن المرء سيسأل عن سلوكه وعن عمله، وسيحاسب على ذلك، الأمر الذي يملي عليه أن يعد لذلك عدته المناسبة من سلوك وعمل يثاب عليه ويتجنب به العقاب، أي أن الإيمان بالبعث والحساب يفرز بين نمطين مختلفين من السلوك والمفاهيم.
6- الإيمان بالقدر خيره وشره:
وهو ركن الإيمان الأخير، الذي لم يأت في القرآن الكريم بألفاظ مباشرة، بل وردت معانيه، ومما جاء في سورة العنكبوت بشأنه قول الله عز وجل:
( الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم ) (الآية:62)، فالعباد يتقلبون في أرزاقهم، بعضهم يتسع رزقه وبعضهم يضيق عليه، وما يفعل ذلك إلا الله عز وجل. وكذلك قول الله جل شأنه:
( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) (الآية:2)، وفي الفتنة تتعاقب على المرء أحوال الخير والشدة، وما يفعل ذلك إلا الله تعالى.
وعلى وجه العموم، فإن كل ما يمر به البشر هو عبارة عن تقلبهم في أقدار الله. يمرضون بقدر الله ويشفون بقدر الله، يغتنون بقدره ويفتقرون بقدره. يأمنون بقدره ويخافون بقدره، وحتى الأسباب، التي يأخذ بها العباد إنما هي من أقدار الله تعالى.
والإيمان بالقدر، خيره وشره، لا يختلف عن أركان الإيمان الأخرى، فيه يكتمل إيمان العبد، وبجحده يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، والعياذ بالله.. فما قيمة الإيمان بالقدر؟
[ ص: 58 ]
إن الإيمان بالقدر والتسليم به ينعكس على سلوك المؤمن بأنماط غاية في الأهمية، فمعه لا تنقاد النفوس إلى هواجس اليأس والقنوط. فما يصيب المرء من ضيق أو شدة أو عذاب أو ابتلاء إنما هو من عند الله، والله صاحب العدل المطلق، وقد حرم الظلم على نفسه.
إذن، ما أصابه من هذه الأحوال لا بد من أن يكون أحد الأحوال الآتية: إما عقوبة لذنب ارتكبه، أو اختبار وامتحان ليتبين صدقه في الإيمان من كذبه، وتمسكه بعقيدته من عدمه، أو أن الله يريد أن يثيبه فيرفعه درجـات بصبره على ما أصابه. فالاقتناع بهذه الأحوال يجعل النفس مطمئنة آمنة مستقرة غير مضطربة ولا قلقة. وهذا أمر مهم لتحـديد سلـوك الفرد في المجتمـع. فثـم من يرى أن ما أصابه من ضيق أو شدة إنما هو بفعل المجتمع وظلمه إياه، فيفكر بالانتقام من المجتمع، فيقع في الجريمة، ومثل هذا في الغرب وحضارته الحديثة كثير.
والمؤمن بالقدر يثق بالله وبوجـوده ولا يفـقد الأمـل، ويطـمئن إلى ذلك، إذ الإيمان بالقدر يتضمن الاعتقاد بأن في عقب كل محنة منحة، فهذان الحالان يتعاقبان على الدوام لقول الله سبحانه:
( فإن مع العسر يسرا *
إن مع العسر يسرا ) (الشرح:5-6)، فإن كان حاله في شدة متصلة، فليعلم أن ذلك من قدر الله عليه، فإن صبر جزاه الله بذلك أعظم الجزاء:
( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) (الزمر:10)، وقول النبي :
( عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) >[19] .
[ ص: 59 ]
فكما أن الشدة قدر من الله، كذلك الفرج والرخاء قدر من الله، وليس للعبد أن ينسى الله في رخائه، فيشتط في سلوكه ويفتتن معتقدا أنه حقق ذلك بجهده وطلبه وأسبابه كما قال قارون:
( إنما أوتيته على علم عندي ) (القصص:78)، فذلك من جحود نعمة الله تعالى أولا، ويندفع إلى الترف والإسراف والطغيان، وذلك مما ينذر بزوال النعم، فإذا ما اعتقد المرء أن ما معه من رخاء إنما هو من الله تعالى أحسن التعامل مع ما أنعم الله عليه به، ووضع النعمة والرخاء في إطارهما وسياقهما الشرعي الصحيح والسليم.
وربما اعتقد بعضهم أن الله تعالى ما أعطاه ووسع عليه إلا رضا منه عليه، وذلك وهم يقع به كثيرون، فإن الله تعالى يسبغ على كثير من الكافرين نعما لا يسبغها على كثير من المؤمنين، وما ذلك إلا ابتلاء واستدراجا، وليس حبا أو رضا منه سبحانه.
ويسـهم الإيمان بالقدر في بناء شـخصية قوية ثابتة على المبدأ، راسـخة في خطاها؟ لأن المؤمن بالقدر يدرك أنه لم ولن يصيبه إلا ما قدره الله تعالى له، فما أصـابه من ضـر ليس لأنه قال الحق وصـدح به، بل إن ما أصـابه هو ما قدره الله تعالى له، فعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: أتيت رسول الله وأنا غلام، فقال لي:
( يا غلام، احفظ الله يحفظك، واحفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وأعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، وأعلم أن الخلائق لو اجتمعوا على أن يعطوك شيئا لم يرد الله أن يعطيكه لم يقدروا على [ ص: 60 ] ذلك، أو يمنعوك شيئا أراد الله أن يعطيكه لم يقدروا على ذلك، واعلم أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة ) >[20] .
وعلى ذلك فليس لمخلوق أن يقرب أجل مخلوق قبل أوانه، أو أن يمنع عنه رزقه؛ فإذا رسخ ذلك حقا في صدر المؤمن غدا قوي الشكيمة لا يمنعه من الحق مانع.
ويؤدي الإيمان بالقدر إلى أن تكون القناعة والعفة منهجا لحياة المؤمن، لأنه يعلم جيدا أن رزقه من عند الله، فهو الذي يبسطه أو يضيقه، فإذا ضاق عليه أمره، لم يتذمر ويسخط ويستولي عليه القلق، لأنه يؤمن أن ذلك هو تقدير الله سبحانه له.
وكل ذلك الذي تقدم لا يتعارض على وجه الإطلاق مع الأخذ بالأسباب والسعي إليها بجد ومثابرة حقيقية؛ لأن الأسباب هي من الأقدار أيضا، فهو يمرض بقدر الله، فإذا أخذ بالأسباب وشفي، كان ذلك بقدر الله عز وجل، وهو يفتقر بقدر الله، فإذا أخذ بالأسباب وتغير حاله نحو الغنى، فإن ذلك بقدر الله أيضا، وهكذا في الأحوال كلها، فما من مؤمن أخذ بالأسباب فحالفه النجاح إلا كان ذلك توفيقا ولطفا من الله تعاظم شأنه، وما من مؤمن أخذ بالأسباب فلم يحالفه النجاح إلا كان ذلك ابتلاء واختبارا من الله جل شأنه، وربما لأن الله تعالى أراد له خيرا مما أراد هو لنفسه.
[ ص: 61 ]