ثالثا: في رحاب سورة العنكبوت:
1- بيت العنكبوت:
قال الله تعالى:
( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ) (الآية:41).
اتفق جميع المفسرين على أن مقصود الآية هو أن المشركين اتخذوا أولياءهم من الأصنام والأوثان، وأن هذه لا تغني عنهم شيئا البتة، كما أن العنكبوت اتخذت لنفسـها بيتا لا يقيها من شيء، فـهو لا يدفـع عنها حرا ولا بردا، وهـو مـن شـدة وهـنه لا يصمـد أمام شيء، فأقل ريح تذهب به، فلا يحمي العنكبوت من شيء
>[1] . فهو مثل ضربه الله تعالى لمن أراد أن يعتز بغير الله سبحانه ويتقوى به، فالأمر في الحقيقة بخلاف مقصوده
>[2] . فما زاده
[ ص: 62 ] ما اعتز به إلا ضعفا على ضعفه. وفي كتاب الله تعالى مواضع عدة يتبين فيها أن من اتخذ من دون الله وليا يتعزز به لم يحصل له إلا ضد ما أراد
>[3] .
ومع أن بيت العنكبوت سمي بيتا لشبهه بالخيمة من حيث إنه منسوج ومشدود من أطرافه كبيت الشعر
>[4] . إلا أن صاحب "مفاتيح الغيب" جرده من كل دلالة حسية للبيت من حيث وظيفته، إذ لا بد للبيت من أمور كالحائط والسقف والباب وأمور ينتفع بها، فإن لم يكن كل ذلك مجتمعا فلا بد من حائط يمنع الريح أو سقف يظل من الحر، فإن لم يكن شيء من ذلك فهو كالبيداء ليس ببيت، وهكذا هو بيت العنكبوت. وكذلك هو المعبود ينبغي أن يكون منه الخلق والرزق وجر المنافع ودفع المضار، فإن لم يكن منه شيء من ذلك فهو كالمعدوم
>[5] . وهنا يأتي وجه الاشتراك والاتفاق بين العنكبوت وبين من اتخذ من دون الله أولياء، فكلاهما اتخذ ما لا يدفع عنه أدنى ضرر
>[6] .
ولابن عطاء كلام جميل في ذلك قال: " من اعتمد شيئا - أي غير الله تعالى - فهو هباء لا حاصل له، وهلاكه في نفس ما اعتمد، ومن اتخذ سواه
[ ص: 63 ] ظهيرا قطع عن نفسه سبيل العصمة، ورد إلى حوله وقوته، فالعنكبوت اتخذت بيتا ظن أنه يكنه، وأوهن بيت ظن بانيه أنه عامره أو به قيامه، فهدمه حين بناه، وخربه حين عمره"
>[7] . فكلما زاد العنكبوت نسجا في بيته ازداد بعدا في الخروج منه، فهو يبني ولكن على نفسه يبني، كذلك المشرك بالله المتخذ من دونه وليا يسعى ولكن على نفسه يجني
>[8] ، بل إن الكافر المشرك في الحقيقة أسوأ من العنكبوت، فالعنكبوت تنتفع من بيتها بما تصطاد به، إلا أن الكافر لا ينتفع شيئا مما اتخذه وليا
>[9] .
وسبحانه وتعالى يضرب الأمثال بوصفها وسيلة من وسائل الإقناع العقلي، فبالتمثيل تصوير ينتزع الحكم من السامع والمتلقي نفسه، بعد أن تصـبح الصـورة عنده محسـوسـة ملموسـة
>[10] . فالمسـتمع لهذا التشـبيـه والتمثيـل لا يبقى أمامه إلا التسليم بالمقدمات، التي سيق من أجلها المثل والتشبيه.
[ ص: 64 ]
ولكن ما نود الوقوف عنده هنا، أن جميع المفسرين أشاروا إلى الكفار والمشركين، الذين اتخذوا الأوثان والأصنام أولياء من دون الله، وصرحوا بذلك ولم يمتدوا بالفكرة إلى ما هو أبعد من الأصنام والأوثان، التي هي مقصود الآية في الحقيقة، ولا شك في ذلك، ولكن لأن القرآن الكريم خطاب للناس جميعا وللمؤمنين بخاصة في كل زمان فإننا نرى أن هناك من ينطبق عليهم المثل ولكنهم لم يتخذوا من الأصنام والأوثان أولياء!!
إنهم أناس زعموا بألسنتهم أنهم اتخذوا الله وليا لهم، يتعبدونه بالصوم والصلاة والحج والزكاة، ولكنهم أطاعوا غيره فيما أحل وحرم، وأمثال هؤلاء لهم سابقة في التاريخ، أولئك الذين:
( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) (التوبة:31)، فقد أطاعوهم فيما أمروهم به من حرام الله وحلاله، فجعل الله طاعتهم لهم عبادة
>[11] .. فعن عدي بن حاتم قال:
( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن".. وسمعته يقرأ في سورة براءة: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) .. قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه ) >[12] .
[ ص: 65 ]
وبناء على هذه المقدمات، فإن من اتخذ زعيما أو ملكا أو رئيسا أو مفكرا أو فيلسوفا وليا له يتبعه ويطيعه فيما فيه مخالفة لحلال الله وحرامه، فهو مثل العنكبوت في فعلها، فاتخذ من دون الله ما لا يغني عنه شيئا في الآخرة، ولا يدفع عنه ما يضر، ولا يجلب له ما ينفع. وكذا الحال فيمن اتخذ أيديولوجيات وفلسفات ونظريات مخالفة لما جاء به الإسلام، فحاله كحال تلك البيوت أيضا لن تغني عنه شيئا يوم القيامة، ولن ترد عنه ما لله سيقضي به في شأنه، من حيث أنه تولى من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره ولا يغني عنه في الآخرة شيئا.
ومثل ذلك أيضا من أراد أن يتعزز بالمال أو المنصب أو الجاه أو قوة السلاح أو أية قوة من أي نوع آخر، فإن هؤلاء يتجاهلون القوة الوحيدة، التي تخلق سائر القوى، إنها قوة الله تعالى، وأن اللجوء إلى قواهم تلك، سواء أكانت بأيدي الأفراد، أم الجماعات أم الدول، فهم لا يعدون أن يكونوا كالعنكبوت التجأت إلى بيت لا يدفع عنها شيئا
>[13] .
وهذا يقودنا إلى تقرير أن أية قيمة سلوكية أو أخلاقية لا يجوز تبنيها إذا كانت مخـالـفـة لشرائـع الله تـعالى، في عقـيـدتـه وأحـكامه وفضائلـه، فإنها ستقود به إلى ما يخالف أوامر الله ونواهيه، وستضل به في سبل ومناهج مخالفة لمنهج الله تعالى وسننه في بناء الحضارات وقيامها، أو تدهورها وسقـوطها، فالـولاية لله تعالى وحـده، والاعتزاز به وحـده، ولا يحل لغيره إذا كان ذلك يحله محل الألوهية.
[ ص: 66 ] 2- الابتلاء والفتنة:
الابتلاء في اللغة من بلاه الله: امتحنه، والبلاء والابتلاء: الاختبار، ويكون الابتلاء في الخير والشر، فالله تعالى يبلي العبد بلاء حسنا، ويبليه بلاء سيئا
>[14] ، كقوله عز وجل:
( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ) (الأنبياء:35).
والفتنة: الإحراق بالنار:
( يوم هم على النار يفتنون ) (الذاريات:13) وأصل الفتن إدخال الذهب على النار لتظهر جودته، وجماع معنى الفتنة الابتلاء والامتحان والاختبار
>[15] . وفي الحديث
( إن المؤمن خلق مفتنا ) أي ممتحنا، يمتحنه الله بالذنب ثم يتوب، ثم يعود ثم يتوب
>[16] .
والفتنة والابتلاء يستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء، وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا
>[17] . فهما مترادفتان في المعنى على نحو
[ ص: 67 ] عام. ولما كانت أحوال الشدة ابتلاء وأحوال الرخاء ابتلاء، فإن المرء لا ينفك من الفتنة، فهو على الدوام في اختبار وامتحان ليظهر منه ما يستحق به فعلا من عقاب أو ثواب، فلما كان الحال كذلك، فهذا يعني أن الابتلاء سنة من سنن الله عز وجل في عباده.
والسنة: العادة والطريقة
>[18] ، وسميت كذلك لأن صاحبها يعاودها على الدوام، أي يرجع إليها مرة بعد أخرى
>[19] . وسـنة الله: ما جرى به نظامه في خلقه. ومن خصائصها الثبات والاطراد
>[20] , لقول الله تعالى:
( ولن تجد لسنة الله تبديلا ) (الأحزاب:62، الفتح:23)،
( ولا تجد لسنتنا تحويلا ) (الإسراء:77). فلله سنن تنتظم شؤون خلقه كافة، منها سنة الابتلاء، التي تتصف بالعموم، فهي تصيب الإنسـان لمجـرد كـونه إنسانا، لا لصفة زائدة، أو سلوك إضافي، فهي واقعة بالمؤمن والكافر، والغني والفقير، والكبير والصغير، والأسود والأبيـض، والأفراد والأمـم، فلا تنفك عن مخلوق البتة
>[21] .
[ ص: 68 ]
خلاصة القول في خصائص الابتلاءات إنها دائما مطردة، عامة لا يستثنى منها أحد، وتكون في الخير والشر على السواء.
وقول الله تعالى في سورة العنكبوت:
( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون *
ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) (الآيتان:2-3) يعني أن الفتنة والابتلاء باقية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم موجود حكمها بقية الدهر حتى قيام الساعة
>[22] .
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه السنة في مواضع عدة منه:
( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ) (البقرة:155)،
( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ) (محمد:31)،
( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) (آل عمران:142)،
( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) (البقرة:214)، وفي الحديث قـول النبي :
( ... وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا ) >[23] .
[ ص: 69 ]
لماذا الفتنة والابتلاء؟ سؤال قد يردده كثيرون ممن يرى أن إعلان المرء إيمانه دليل انسلاخه من واقع لا إيمان فيه وانخراطه في مجتمع الإيمان. وقد يزداد التساؤل حيرة عند كثيرين أيضا وهم يرون المؤمنين يتقلبون في الشدائد والمحن، ويتقلب الكافرون في الرخاء والرفاهية، يتقلب من أطاع الله في الشدائد، ويتقلب من عصاه في النعم! وفي الحقيقة فإن هذه المقارنة هي بحد ذاتها فتنة وابتلاء؛ لذلك ينبغي على المؤمن أن يكون دائم الحذر أن تسوقه الفتنة إلى حيث لا يدري فيتوه في متاهات الشك والتردد.
والآيتان في سورة العنكبوت:
( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون *
ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) (الآيتان:2-3)، تشيران إلى معنى الامتحان والاختبار، فإن الله تعالى يمتحن عباده ليتبين الصادق من الكاذب في مزاعم الإيمان، فثم أناس ما أن يمسهم أدنى أذى في الله حتى ليخرج من إيمانه ولا يجد في نفسه قدرة على الصمود والصبر والاحتمال فقال الله سبحانه في سورة العنكبوت:
( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ) (الآية:10).
فالله تعالى يمحص عباده بعرضهم للفتنة كما يعرض الذهب على النار ليتبين صحيحه من مغشوشه:
( وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ) (آل عمران:141)،
( وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور ) (آل عمران:154)، وأصل المحص تخليص الشيء مما فيه
[ ص: 70 ] من عيب
>[24] . فإذن هو تطهير لصفوف المؤمنين من المنافقين والكذابين والضعفاء. لماذا؟ لأن الإيمان لن يترك أن يسعى في الأرض وينتشر ويمتد من دون أن يتعرض له الكافرون بالمنع والصد والعدوان.
وعليـه، فإن عمـلية التـصفية والتنـقية هذه لازمة وضروريـة لتكون صفوف المؤمنين خالية من المنافقين والضعفاء عند المواجهة، فتكون صفوفهم أقوى وأمتن.
وهذا يجعل الجماعة الإسلامية العاملة في الدعوة قوية متماسكة خالية من أية لبنة رخوة هشة تتسبب بثغرة ما في صفوف العاملين
>[25] . والإيمان أمانة الله في الأرض لا يحملها إلا من هم أهل لها، وفيهم على حملها قدرة، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص، لا يؤثرون الراحة والدعة والأمن والسلامة، ولا يضر بهم شيء من متاع الدنيا
>[26] .
إذن فالجانب الثاني هو تقوية شكيمة المؤمنين والشد من عزيمتهم ليكونوا أكثر قـوة وأصلب عودا، ولقد أعجبني كثيرا تشبيه النبي لعمل المؤمن بالفلو الذي يربيه..
( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم [ ص: 71 ] فلوه، حتى تكون مثل الجبل ) >[27] . فكذلك الحال في الابتلاء، فلو أن أحدهم كان له فلو يريد أن يربيه ويشارك به في الجهاد مثلا، فإذا أخذ هذا الفلو باللين والسهولة وخاف عليه من كل شيء، فيقوده إلى المرج يمشي هوينا، ولا يعدو به أبدا، فإنه سيسمن ويترهل ولا تنمو عضلاته، فإذا جاء وقت الجهاد كان بطيئا ثقيلا لا يقوى على أمر القتال. أما من أخذ فلوه من ميدان إلى ميدان، يعدو به ويسابقه ويجري به - على ما في ذلك من شدائد - فإنه سيقوى ويصلب, وتنشأ عضلاته قوية، فإذا جاء وقت الجهاد طار به فرسه هنا وهناك؛ فهكذا هو الابتلاء، إعداد للرجال ليصلبوا ويقووا ويستعدوا لمهام الإيمان الجسام.
وهكذا كانت سيرة المسلمين الأوائل، عالجهم الله تعالى بالابتلاء تلو الابتـلاء، والشدة بعد الأخرى، والضيق بعد الآخر حتى بلغوا ما بلغوا من القـوة والصلابة، عن خباب بن الأرت، رضي الله عنه، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال:
( كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الأرض، فيجعـل فيه، فيجـاء بالمنـشار فـيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه ) >[28] .
[ ص: 72 ]
لذا، فقد شهد المسلمون في مرحلة الدعوة المكية ألوانا من العذاب والاضطهاد حتى فقد بعضهم حياته تحت وطأة هذا العذاب، ولم يصدهم ذلك عن الحق، فكانوا أهلا لحمل الرسالة، وأداء الأمانة.
ومع قولنا إن سنة الابتلاء عامة، لا تميز بين إنسان وآخر، فعن سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال:
( الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة ) >[29] ، فهو بالنسـبة للأكثر صلابة في إيمانه، فإن شـدة البلاء تجعل منه قدوة وأنموذجا ينظر الناس إليه، فيرونه قد ثبت في بلائه الشديد، الذي لا يحتمله كثيرون فيرون في ذلك تسلية لهم، فقد أوذي هؤلاء بما هو أشد فثبتوا وصمدوا، فيثبت هؤلاء ويصمدوا أيضا، كما أن هذا الابتلاء بالنسبة لهؤلاء الأشد بلاء إنما هو رفع درجة ومكانة عند الله تعالى.
ولهذا قال النبي :
( إن الله تعالى إذا أحب عبدا ابتلاه، فمن حبه إياه يمسه البلاء كيما يسمع صوته ) >[30] . حتى ليحكى عن بعض صالحي سلف الأمة أنه إذا أصبح وليس فيه شيء من بلاء، يقول: إن الحبيب جفاني،
[ ص: 73 ] فكأن البلاء - بحسب ما يرونه - رسـالـة حب من الله تعالى ترفعهم درجة، أو تكفر عنهم سيئة، أو تأخذ بأيديهم إلى الهدى إن ضلوا في شيء من عملهم وسعيهم، ولكن ليس للعبد أن يشتهي الابتلاء أو يتمناه؛ لأنه ربما نزل به منه ما لا يطيقه ولا يحتمله فيفتتن في دينه، فإن عافية الله تعالى هي أوسع لنا.
وأخيرا، فثم أمران لا بد من ملاحظتهما في موضوع الابتلاء: فلا يصح لمخلوق أن يتهم خالقه فيما يسوس به عباده من ألوان الفتن والابتلاءات، سواء ألاح للعبد وجه الحكمة في الابتلاء أم خفي عنه، فإن الله تعالى حكيم لا يضع الأمر الذي يختاره إلا في المكان، الذي لا يصلح فيه غيره، ولعل بعضهم يستعرض أمر الناس فيرى من أحوالهم ما قد يجعله يحسب أن لهذه السنن الإلهية شذوذا، فيشك في عدالة توزيع جزئيات تلك السنن، كأن يجد عصاة مستغرقين في عصيانهم ثم لا تدركهم شدة أو ضيق، ثم يجد آخرين في غاية التقوى والاستقامة، وإذا بالمصائب والشدائد لا تنفك عنهم؛ فتلك حكمة الله، التي ينبغي إدراكها فلا يتزعزع اليقين عن قلب المؤمن
>[31] .
الأمر الثاني: أن الله سبحانه لطيف بعباده المؤمنين في هذه الفتن، بأن يصبرهم عليها، ويثيبهم فيها، ولا يلقيهم في فتنة مهلكة مضلة تذهب بدينهم، بل تمر عليهم الفتن وهم منها في عافية
>[32] . كما أن هذه الفتن لا تستأصلهم
[ ص: 74 ] وتقضي على وجودهم، وإلا لما وجدت مؤمنا على وجه البسيطة، فليس هذا هو هدف الفتن والابتلاءات كما تقدم بيانه.
إن الابتلاءات بالنسبة للمؤمنين الصادقين هي عملية إعداد وتدريب وتقوية لهم من أجل أن يكونوا قادرين على حمل الرسالة بعامة، ولا سيما قيمها، التي ستكون الأساس والمعيار، الذي تشاد عليه حضارة الإسلام ومنهجه في الاستخلاف، كما أن الفتن محل اختبار اليقين، تلك القيمة العظيمة - أي اليقين - التي برسوخها يستقيم السلوك باطمئنان نفس المؤمن إلى أن الله تعالى لا يعبث بها، بل إن في الأمر حكمة بالغة، قد تغيب عن ذهن المؤمن، ولكن يقينه لا يبهت.
3- عدل الله سبحانه في علمه:
وردت الإشارة إلى علم الله تعالى في سياقين اثنين في سورة العنكبوت، يـفـيـد الأول إحـاطـة الله تعـالى بعلمـه بـكل شيء كما في قول الله عز وجل:
( إن الله بكل شيء عليم ) (الآية:62)،
( يعلم ما في السماوات والأرض ) (الآية:52)،
( والله يعلم ما تصنعون ) (الآية:45)،
( أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ) (الآية:10)، وبموجب هذه الآيات يدرك المؤمن أن الله تعـالى مطلع عليه في كل أحواله، لا تغيب عنه شاردة أو واردة، بل إن الله سبحانه وتعالى يعلم من المرء ما قد يخفى على المرء نفسه، وما غفل عنه، أو نسيه، أو غير ذلك. وهذا يملي على المرء أن يكون حذرا متيقظا حتى لا يقع في سخط الله عليه، فيسعى إلى تقويم
[ ص: 75 ] عمله وسلوكه وفكره ونياته؛ لأن الله تعالى مطلع على ذلك كله، وسيسأله عنه على رؤوس الأشهاد، لذا عليه أن يستحيي من ربه ومن سؤاله عن عمله.
أما السياق الثاني، الذي جاءت الإشارة به إلى علم الله فتتضمن صيغة مستقبلية مثل قول الله عز وجل:
( فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) (الآية:3)، وقوله جل شأنه:
( وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ) (الآية:11)، فهل إن علم الله يقتضي ابتلاء الناس ليتبين له بعد ذلك - وعلى موجب ما سيظهر منهم - من هو الصادق ومن هو الكاذب ومن هو المنافق؟ وهل إن الله سبحانه لا يعلم حالهم من الصدق والكذب قبل ابتلائهم؟
قال العلماء إن علم الله تعالى ينقسم إلى قسمين: علم يترتب عليه جزاء، وعلم لا يترتب عليه جزاء، فعلـم الله الأزلي القديـم السـابق لـوقوع الأشـيـاء لا يترتب عليه جزاء - وهذه قضية مهمة جدا - وعلم الله تعالى بعد الوقوع هو العلم الذي يترتب عليه الجزاء، فيكون العلم الذي يجعله الله تعالى مرئيا على الوقوع المراد به علم المجازاة، إن كان خيرا فخير، وإن كان شرا فشر
>[33] . وعلم الوقوع هذا هو حجة وبرهان أيضا على الناس، جاء من أعمالهم وتصرفاتهم نفسها
>[34] .
[ ص: 76 ]
إذن، فإن الله تعالى يحاسب الناس على ما وقع منهم فعلا، وليس على ما علمه من حالهم في علمه للغيب، وهذا فضل من الله تعالى من جانب، وعدل منه من جانب آخر، وتربية للناس من جانب ثالث، فلا يؤخذ المرء إلا بما وقع من أمره فعلا، وبما حققه به فعله، فليس الأشهاد بأعلم من الله بحقيقة ما في قلوب العباد
>[35] .
وهنا نرى أيضا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم على المنافقين بما ينبغي لهم من استحقاق على نفاقهم بإبطانهم الكفر، مع أن القرآن الكريم أخبره بنفاقهم، فإخبار القرآن عنهم إنما هو إخبار عن علم الله تعالى القديم، وهذا لا يقتضي حكما قضائيا أو جزائيا، فكان يجب أن يظهر منهم في الواقع والعمل الفعلي أمام الأشهاد ما يقتضي مقاضاتهم عليه، وكذا الحال ما يتعلق بالأخذ بالظنة والوهم، فإنه من الظلم الشديد، فيقتضي العدل أن يؤخذ المرء بما عمل فعلا ودلت عليه القرائن وشهد عليه الشهود.
فالإشـارة إلى علم الله في هذا السـياق هو دليل على مقتضى العـدل في مقاضاة الناس ومحاكمتهم، وهذا تنبيه للعباد على واحدة من أهم القيم، التي قامت عليها الحياة الإسلامية، ألا وهي العدل، الذي أكده القرآن الكريم مرات كثيرة وبصيغ وإشارات متعددة ومتنوعة. وتكمن أهمية العدل في أنه القيمة، التي تميز بين مجتمعين؛ مجتمع سليم وآخر سقيم، فالذي يسود فيه العدل يعيش في أمن ورخاء، وأما الآخر فلا يفارقه الظلم والاضطراب وقيم السوء كلها.
4- العبودية لله تعالى:
[ ص: 77 ]
جاءت الأنبياء والرسل بالعبودية التامة لله تعالى، التي هي مقتضى توحيد الألوهية، ففي سورة العنكبوت قال الله تعالى:
( وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله ) (الآية:16)،
( وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله ) (الآية:36)،
( فإياي فاعبدون ) (الآية:56)،
( واعبدوه واشكروا له ) (الآية:17)، ثم أضاف الله تعالى المؤمنين إلى نفسه فقال سبحانه:
( يا عبادي الذين آمنوا ) (الآية:56).
وأصل العبادة مأخوذ من الذل، فالعبد يذل لمعبوده، ومن التذلل لله جل شأنه امتثال كل ما أمر به واجتناب كل ما نهى عنه
>[36] . والعبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تقتضي غاية الذل لله مع غاية الحب له
>[37] .
وتنصرف العبادة إلى كل أعمال البر عندما تتحدد النية فيها لله تعالى وحده إخلاصا تاما له، فهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، والإحسان للجار واليتيم والمسكين
[ ص: 78 ] وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والتلاوة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، والإخلاص لدين الله، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضى بقضائه، والتوكل عليه والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك كله من العبادة لله تعالى وحده ولا تجوز لغيره أبدا
>[38] .
هذا الاستغراق في العبادة يقود إلى تحقيق العبودية لله بكل وجه، فذلك هو الدين الحق، وهي أعلى درجات محبة العبد لله تعالى لتلتقي بمحبة الرب لعبده، فإذا كان في القلب شيء من محبة غير الله تعالى كان ذلك نقصا في العبودية لله سبحانه
>[39] .
ويتفرع عن محبة الله الانقياد له، فذروة المحبة تعني ذروة الانقياد له سبحانه، فإذا نقص هذا الانقياد، بالانقياد لغير الله جل شأنه كان ذلك نقصا من العبـودية، فإذا كان هذا الانقيـاد في معصـية الله نقض ذلك العبـوديـة لله، إذ لا يجتمع في القلب عبوديتان، عبودية لله وأخرى لغيره، ولا سيما إن الله تعالى غيار، كما جاء في حديث النبي :
( إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله ) >[40] ، وقوله :
( لا شيء أغير من الله ) >[41] . إذن
[ ص: 79 ] فغيرة الله تعالى أن يطاع غيره، وغيرة الله من أن يدعى غيره، ويسأل غيره، فهو وحده المالك لا مالك غيره، وهو الكريم لا أكرم منه، وهو السخي لا أسخى وأجود منه، فكيف يجوز سؤال غيره؟!
فالانقياد التام لله تعالى هو تجرد من التذلل لغيره، هي حرية تامة لإرادة العبد ولقراره ولأفكاره ومفاهيمه من أشكال الضلال والبهتان كلها، فالعبودية هنا تساوي الحرية، والعبودية لله جل شأنه من أعظم القيم التي تميز الحضارة الإسلامية، فهي تفضي إلى قيمة عليا أخرى وهي حرية الإرادة الإنسانية، فمن كان حقا عبدا لله عظم شأنه، كان حرا حقا، بل ليس ثم من هو أكثر منه حرية؛ مهما بدا على الآخرين من حرية مطلقة، فهم في الحقيقة عبيد لأيديولوجيات أو زعماء أو شهوات أو رغائب، أو هم عبيد لوسائل الإعلام، التي تسهم كثيرا في رسم ملامح تفكيرهم وقراراتهم.
وثم أمر آخر مهم، يترتب على العبادة لله تعالى يتمثل في كسر روح التعالي والاسـتكبار، فالعبد الحق يرى أن العلو لسـيده وحده، وأن الكبريـاء لا تليق إلا بجناب سيده وحده، فإذا ما استحوذ هذا الشعور على العبد أدرك أنه وإخوته من عباد الله إنما هم إخوة متساوون في العبودية لله تعالى؛ فالثروة لا ترفع بعضهم فوق بعض، والوجاهة لا تعلي بعضهم على بعض، والمناصب لا ترفع بعضهم وتحط بعضهم، فهم في العبادات يقفون على صعيد واحد، في صلاتهم سواء، وفي حجهم سواء، وفي صيامهم سواء. ويتمخض ذلك عن مشاعر الحب والتواضع والتماسك والتواصل، فكما أن
[ ص: 80 ] العقيدة تجعلهم إخوة مؤمنين، فإن العبادة تشد من عرى هذه المحبة في الممارسات اليومية لتفاصيل العبادات.
أما قول الله سبحانه وتعالى بشأن رفع الناس بعضهم فوق بعض، فما ذلك إلا من قبيل الابتلاء والمحنة:
( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ) (الأنعام:165)، فهذا التمايز في الدرجات لم تكن غايته تمايزا أخلاقيا يسوغ التكبر والتعالي لبعض الناس على بعض، بل هو ابتلاء من الله ليرى كيف يسلك الناس فيما آتاهم الله تعالى من نعم تفاضلوا بها فيما بينهم. وهنا تفضي العبودية إلى قيم أخرى مهمة تتمثل في العدل والتواضع ونفي التعالي والاستكبار:
( إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ) (الإسراء:37).
5- فعل الله تعالى:
سنعرج في هذه الفقرة على مسألتين، تتعلق الأولى بخلق الله للكون، وتتعلق الثانية بعذابه، الذي صبه على الأقوام السابقة.
قال الله تعالى في سورة العنكبوت:
( خلق الله السماوات والأرض بالحق ) (الآية:44)، وفي التعريفات فإن الإبداع إيجاد شيء من لا شيء لقول الله تعالى:
( بديع السماوات والأرض ) (البقرة:117) أما الخلق فهو إيجاد شيء من شيء لقول الله سبحانه:
( خلق الإنسان ) (النحل:4)،
[ ص: 81 ] فالإبداع أعم من الخلق
>[42] . ولكن كما قال الله تعالى:
( بديع السماوات والأرض ) فإنه سبحانه وتعالى قال:
( خلق الله السماوات والأرض ) .. وعليه، فإن الإبداع والخلق هما سواء في الدلالة على إيجاد الشيء من العدم، والخالق هو المبدع المخترع للخلق على غير مثال سابق
>[43] .
وفي قول الله سبحانه:
( خلق الله السماوات والأرض بالحق ) جانبان؛ الأول ما يتعلق بالخلق، وهي واحدة من أهم المسائل العقدية قديما وحديثا، فمع أن المشركين القدامى أقروا لله تعالى بالخلق:
( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) (لقمان:25)، إلا أن ملحدي العصر الحديث مالوا في الأمر ميلا شديدا، فأنكروا وجود الله تعالى أصلا، وجحدوا وجوده، ليقولوا: إن هذا الكون ليس مخلوقا لأحد، بل إن الصدفة هي التي تقف وراءه بأسره، من أصغر تكوين فيه إلى أكبر تكوين.
وفي هذا السياق زعموا أن الإنسان هو ابن الطبيعة، وأن الطبيعة أوجدته بالصدفة، وهذا الزعم لا يستند إلى أية حجة مقبولة، بل إن العقل المحض يرفض نظرية الصدفة، لأن الصدفة العشوائية لا تخلق نظاما، وإن حصل وأوجدت نظاما ما، فإنها لا يمكن أن تتمخض عن نظام معقد، أو مجموعة هائلة من الأنظمة المتوافقة والمتسقة مع بعضها، بحيث يتداخل بعضها مع البعض الآخر، ويتكامل بعضها مع البعض الآخر بشكل مذهل.
[ ص: 82 ]
وهم بقولهم: إن الإنسان هو ابن الطبيعة إنما يسعون إلى تجريده من القيم، التي يفرضها الخالق على مخلوقيه، وأرادوا إخضاع الإنسان إلى قوانين الطبيعة، التي تتيح له كل شيء يتوافق مع رغباته وشهواته، وهذا ما قادوا حضارتهم الحديثة إليه، حتى بلغ بهم الحد منافاة الفطرة في كثير من أنماطهم السلوكية وقيمهم. بل إنهم قولبوا كنيستهم في إطار مفاهيمهم الإلحادية هذه وما تمخض عنها، فراحت الكنيسة تشرعن الزواج المثلي، حتى مارسه بعض قساوستها. فالإنسان مخلوق الله عظم شأنه، ولأنه مخلوقه فعليه واجب الخضوع لشرعه وللقيم، التي تضمنها هذا الشرع، وليس له أن يحيد عنها في استخلافه وإعماره للأرض.
أما الجانب الثاني من الآية الكريمة فيتعلق بقوله سبحانه ،
( بالحق ) ومما قاله المفسرون بهذا الشأن: إن الله تعالى أراد بذلك أنه لم يخلقهما باطلا لغير شيء، بل خلقهما لأمر هو كائن
>[44] ، ولم يخلقهما لهوا أو عبثا
>[45] ، وإنه خلقهما للميعاد والبعث والحساب
>[46] ، وإنه خلقهما بالعدل وبيانا للحق
>[47] ،
[ ص: 83 ] وإن الله خلقهما بالحكمة، التي لا يشوبها عبث أو لهو، وليكون هذا الخلق موافقا لمصالح العباد ومنافعهم
>[48] ، وإن خلقهما خضع لحكم وفوائد دينية ودنيوية، وبخلقهما قام الدليل على وجود الخالق، الذي أوجـدهما، فاقتضى ذلك عبادته
>[49] .
ومن هنا نرى أنه لا عبث في خلق الله لمخلوقاته ولا لهو في ذلك، بل إن الخلق برمته يخضع لغائية تسير في مجراها حتى بلوغ النهاية، وهي البعث والحساب، ومن ثم إلى جنة أو نار، وهذا المسار المحتم هو ما ينبغي على ابن آدم أن يضعه في حسابه، فهو على الطريق، وبالغ النهاية لا محالة، فلا بد من أن يعد العدة لهذه النهاية، بالخضوع التام لما أراده مبدع الكون من شرائع وأحكام، وهذا هو مقتضى العقل والمنطق العملي أيضا.
ومن ناحية أخرى، فإن الذي خلق السماوات والأرض بالحق، لا يقع في ملكه باطل، فكل ما يقع فيه إنما هو بالحق، وهذا يوفر للإنسان - إذا ما اعتقد ذلك - القدر المناسب من الطمأنينة والسلام، فإن الله لا يقع في ملكه ظلم، وهو لا يظلم عباده، حاشاه
>[50] .
المسألة الثانية في هذه الفقرة تتعلق بقول الله جل شأنه:
( فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) [ ص: 84 ] (الآية:40).
وتشير الآية إلى ألوان العذاب، التي أصابت المكذبين من الأمم السابقة، فأصاب الحاصب قوم لوط لما أمطرهم الله تعالى حجارة منضودة من سجيل، وأصابت الصيحة قوم شعيب، وخسف الله الأرض بقارون، وأغرق قوم نوح وأغرق فرعون وجنده
>[51] . كما أن ما يحفظه التاريخ من وقائع الأمم في دأبها على الكفر والتكذيب والظلم في الأرض جار على سنة الله تعالى المطردة في إنزال العذاب بهم
>[52] . وفي الآية، كذلك، إشارة ضمنية إلى أن المؤمنين بالله تعالى لا يصيبهم شيء من هذا البلاء المسلط على الكافرين، فقد لاذ المؤمنون بحمى الله تعالى، فلا يصل إليهم ضر، ولا يقع عليهم مكروه
>[53] ، إلا إذا غيروا وبدلوا، أو فشت فيهم المعصية وما يتشعب عنها، فإن الله تعالى يؤدبهم بالابتلاء، الذي هو من قبيل العقوبة، أو تكفير الذنوب، أو ليردهم إلى صوابهم ورشدهم.
والأمر المهم، الذي نود الوقوف عنده هنا، ما وقع فيه الفكر الإلحادي المعاصـر، الذي رد أمثـال هذه الوقائـع إلى فعل الطبيـعة، وجردها من نسـبتها
[ ص: 85 ] إلى الله جل شأنه، فسادت عبارات وألفاظ وتراكيب ربما رددها كثيرون من غير إدراك معنـاها، فأطـلقوا عليها كوارث طبيعية، وقالوا عنها غضب الطبيعة، وقـالوا عنها تغيرات كبيرة في المناخ، أو ما شاكل ذلك من صيغ، وهذا كله من نتاج الفكر العلماني الإلحادي، الذي سمى نفسه علميا، وهو في الحقيقة ملحد كافـر، فهذه الوقائـع هي أفـعال الله تعالى وليسـت أفعال الطبيعة، فليس للطبيعة إرادة، وهي ليسـت عـاقـلـة، فـكيـف لها أن تـقـرر وتـفعل، فـلا يحصـل من أمر، ولا تقع واقعة، إلا بمشيئة الله تعالى وإرادته، عقوبة أو ابتلاء واختبارا، أو تكفيرا للذنوب.
ومثل ذلك أيضا ما يتعلق ببعض الأوبئة، التي تفشو بين الناس، التي غالبا ما تعود إلى فساد العلاقات الجنسية كالإيدز, فتعزى إلى أسباب تستبعد كونها عقابا من الله تعالى , وكان من أحدث هذه الحالات فيروس "زيكا"، الذي بدأ ينتشر في الغرب ويتسبب في تشوهات خلقية في الأجنة, متناسين أن الله تعالى عاقب قوم فرعون بالجراد والقمل والضفادع, فهم ينظرون للأمر من زاوية (علمية) متجاهلين مشيئة الله تعالى في ذلك وسننه ونواميسه، التي تنتظم حياة العباد.
فإن الله تعالى هو الخالق وحده، المدبر وحده، فليس ثم من يتصرف في ملكوته غيره، ومن ثم فإن كل ما يحصل، إنما يحصل على وفق غائية وقصدية بعيدة عن العبثية والعشوائية والصدفة، بل كل أمر مرتبط بمشيئة الله تعالى وإرادته وقضائه وقدره.
[ ص: 86 ] 6- مسألة الرزق:
وهي من المسائل المهمة جدا لارتباطها بالعيش اليومي للإنسان، فمن دون الرزق تستحيل الحياة، ويوشك المرء على الهلاك، فتتوقف الحياة، ويتوقف نشاط الإنسان فيما كلفه الله تعالى به من إعمار للأرض، وهكذا يبدو أن الرزق هو مفتاح أساس لديمومة النشاط البشري على الأرض، والله تعالى هو الرزاق، فهو القائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها، وما يمكنها من الانتفاع به من مباح، وغير مباح، رزق لها
>[54] .
أشارت سورة العنكبوت إلى هذه المسألة في ثلاثة مواضع:
( إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق ) (الآية:17)، و
( وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم ) (الآية:60)، و
( الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ) (الآية:62), ويتضمن ذلك تقريرا لثلاثة جوانب غاية في الأهمية.
فقول الله تعالى:
( فابتغوا عند الله الرزق ) يشير إلى أنه هو الرزاق وحده، وغيره لا يرزق
>[55] ، فهو مالك الملك، الكون كله ملك طوعه، وهو
[ ص: 87 ] وحده الذي يتصرف فيه، فهو مالك الرزق وحده
>[56] . فلما كان الرزق عند الله وحده فلا بد من أن يطلب منه، وطلب الرزق هو سبيل من سبل العبادة، قال ابن عطاء: "اطلبوا الرزق في الطاعة والإقبال على العبادة"
>[57] . فالعبد وهو يتقلب في سعيه طلبا لرزقه يسأل الله أن يرزقه ويوسع عليه، فذلك يجعل المرء في عبادة وهو يسعى إلى رزقه، إذ الدعاء هو العبادة، كما يؤكد ذلك عبودية العبد لخالقه، وإنما هو يتقلب في ملك سيده وليس في ملكه هو، كما زعم قارون لما قال:
( إنما أوتيته على علم عندي ) (القصص:78).
أما الجانب الثاني فهو قول الله جل شأنه:
( وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم ) فقالوا في معنى:
( لا تحمل رزقها ) : لا تدخره لعجزها عن ذلك، إنما تصبح فيرزقها الله
>[58] . إذ لا شيء من المخلوقات يدخر رزقه سوى الإنسان والفأرة والنمل
>[59] .
[ ص: 88 ]
كما يمكن القول في قوله سبحانه:
( لا تحمل رزقها ) : إن بين الدواب العمياء أو الكسيحة أو ما شاكل ذلك، ومع هذا فإن الله تعالى يسخر لها من يأتيها برزقها، وإننا لنسمع في الحكايات اليومية ما يؤكد مثل هذا المعنى. بل إنه من العجب كل العجب أن تضرب الصخرة فتنشق عن حشرة، لا تدري حين تلقاها من أين يرزقها الله، وعلى أي شيء أنشأها ورباها؛ وهي إن لم تجد ما تقتات عليه فليس لها من مصير سوى الموت، في حين تجد الإنسان - صاحب الحول والطول والحيلة والدهاء والتدبير - دائب الكد، متواصل السعي، فلا يدرك - بكده وجهده - غير لقمته، ولا يبلغ من حياته سوى الكفاف، أو ما هو دون الكفاف، وتجد آخر متربعا في عقر داره، يحمل إليه فاخر اللباس، والنفيس من المأكل والمشرب بما يفيض عن حاجته، ليؤكد الله سبحانه لمخلوقيه أنه هو الرزاق بلا سبب، المعطي بلا طلب
>[60] .
فلـمـا كان الحـال كذلك، فإنـه يتـطلب من المرء أن لا يقع في الحسد لمن رزقهم الله تعالى ووسع عليهم، فذلك شأن الله وله في ذلك الحكمة البالغة، كما يقتضي ذلك عدم الوقوع في حبائل اليأس والقنوط والابتئاس، فسنة الله تعالى في الابتلاء تدل على أن الحياة لا تسير في خط مستقيم، بل إن خطوطها متعرجة، تتراوح بين الرخاء والشدة، تتعاقب بين المنح والمحن، وعلى هذا الأساس يتخذ سلوك المرء طابع السوية والاستقامة فلا ينحرف ولا يشتط به.
[ ص: 89 ]
كما أن هذا الإيمان بطبيعة الرزق يقود إلى جانب آخر على درجة كبيرة من الأهمية، إذ يجعل المرء بهذا الإيمان ثابتا على الحق، لا يزيغ عنه؛ لأن الثبات على الحق لا يؤخر رزقا، ولا يقرب أجلا، فالأمران كلاهما بيد الله جل جلاله، وإنما البشـر مسـخـريـن مـن الله تعالى ليـكونـوا سـبيـلا إلى الرزق والأجـل، سـلبا أو إيجابا. فيبقى المؤمن صلبا قويا متماسكا إيجابيا فاعلا، لا يلين ولا ينطوي ولا ينكسر أمام الرزق، طالما أن الذي يتصرف به هو الله تعالى وحده فـ
( الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم ) (الآية:62)، فليست الملوك ولا الرؤساء ولا القادة ولا أرباب المال والأعمال هم الذين يرزقون أو يمنعون.
إلا أن بسط الرزق أو تضييقه من الله تعالى لا يعني القعود عن الأخذ بالأسباب، بل يبقى العبد في سعيه ونضاله من أجل كسبه
>[61] . فقد قال الله تعالى:
( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ) (الملك:15)، فذلك يترتب عليه أمران، الأول أن ذلك تسخير من الله لحصول الرزق، فكما تقدم فإن الأسباب هي من الأقدار أيضا، ثم إن هذا السعي يقود إلى تحقيق الاستخلاف وإعمار الأرض، التي هي من غايات خلق الإنسان:
( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) (البقرة:30)،
( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) (هود:61).
[ ص: 90 ] 7- البعث والحساب:
جاء ذكر الآخرة في مواضـع عدة من سورة العنكبوت، كما تقدم بيانه في المبحث الأول؛ وسنشير هنا إلى جانبين مما يتعلق بالحياة الآخرة، يتعلق الجانب الأول برجاء اليوم الآخر، أما الجانب الثاني فيتعلق بالحياة الدنيا مقارنة بالحياة الآخرة.
قال الله سبحانه:
( من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ) (الآية:5)،
( يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ) (الآية:36).
وقد اتفق معظم المفسرين على أن الرجاء يعني الخوف والخشية
>[62] ، وتحفظ بعضهم على هذا المعنى، بوصف أن الخوف ضد الرجاء أصلا
>[63] . لذا قيل: إن
[ ص: 91 ] الرجاء توقع الثواب والخير من الله تعالى
>[64] . والرجاء بحسب ما أورد ابن القيم هو "حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويطيب لها المسير"
>[65] . وقال: هو استشعار جود الرب وفضله تبارك وتعالى، والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه
>[66] . ويمتزج معه الخوف، فيفعل العبد ما أمره به ربه، آملا ثوابه، ويترك ما نهى عنه، خائفا من عقابه
>[67] .
وهـذا هـو ما يمكن الاطمئنان إليه، فلا يكون الرجاء رجاء إلا إذا مازجـه الخـوف، الخوف من انقطاع ما هو مأمول لسبب عارض مما يتوقع أو ممن يتوقع منه؛ وهذا هو عين ما يمكن استشعاره في الآيتـين السابقتـين، وهـو احتمـالية أن لا يـحـصل العبد على ثواب ربه، بل يحصل له عقابه، ومن ثم ما على العبد سوى الحذر واليقظة الدائمة مما قد يقع فيه من ذنوب ومعاص تذهب برجائه.
إذن والحال هذه، ما على العبد إلا مبادرة العمل الصالح، الذي يصدق رجاءه ويحقق له ما يأمله، ويكتسب به القرب عند الله سبحانه، فالأمر ليس
[ ص: 92 ] بالتمني وليس بالتطلع وحده، بل لا بد من العمل والسعي والجد في العمل، قال النبي :
( من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة ) >[68] . والإدلاج هو السير ليلا، أو السير آخر الليل
>[69] . فلا تتأتى الجنة إلا من جد في العمل، فأجهد نفسه نهاره، وأقام ليله، وكل ذلك يسهم في بلورة شخصية إيمانية تمتلك مقومات العمل الصالح ليس بالعبادة وحدها، بل بأنواع البر المختلفة بما يسهم في إعمار الأرض على وفق المنهج الإلهي، الذي ارتضاه الله سبحانه في شرائعه.
أما الجانب الآخر فيتعلق بقيمة الحياة الدنيا مقارنة بالآخرة وتمثل بقول الله سبحانه:
( وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ) (الآية:64)، وفي هذا السياق قول الله سبحانه:
( وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ) (الأنعام:32 )،
( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ) (محمد:36)،
( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ) (الحديد:20). وفي موازاة ذلك قول الله تعالى:
( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) (الحديد:20)،
( وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ) (الرعد:26 ).
[ ص: 93 ]
فما هما اللعب واللهو؟
اللهو هو ما يشتغل به الإنسان مما ترتاح إليه نفسه، ولا يتعب في الاشتغال به عقلا وبدنا، فلا يطلق إلا على ما فيه استمتاع وملاءمة للشهوة
>[70] ، كما يطلق على كل أمر قليل القيمة يشغل عما يجب توجيه الجهد والعمل له، فالذي يعمل لصالح دنياه مهملا العمل لسعادته في آخرته الخالدة، إنما يلهو بالفاني عن الباقي
>[71] ، وقيل: هو الإعراض عن الحق
>[72] .
أما اللعب فهو عمل أو قول فيه خفة وسرعة وطيش، ليست له غاية مفيدة، بل غايته إراحة البال، وتقصير الوقت واستجلاب العقول في حالة ضعفها كعقل الصغير وعقل المتعب، وأكثره أعمال الصبيان
>[73] ، وهو ضد الجد، ومنه ما هو عبث مطلق، ومنه ما فيه فائدة للجسد والنفس كالرياضة، ويقال لكل من يعمل عملا ليست منه فائدة: إنما أنت لاعب
>[74] ، وقيل فيه: إنه إقبال على الباطل
>[75] .
[ ص: 94 ]
أما الحياة الدنيا فهي ذلك الحيز المكاني والزماني منذ خلق الله الكون وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهي بالنسبة للإنسان تمتد منذ خلق الله سبحانه آدم عليه السلام وإلى أن تقوم الساعة. أما بالنسبة للأفراد أو الأشخاص فهي لا تعدو تلك المدة الزمنية، التي تمتد من لحظة الميلاد إلى لحظة الوفاة، والمقصود بها هذا الزمن الذي يحدث فيه الابتلاء، أما مكانها فهو الأرض، التي نحيا عليها
>[76] .
إذن فما الذي يعني أن الحياة الدنيا لهو ولعب؟
ولقد قال الله سبحانه:
( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) (البقرة:30)، فالله سبحانه جعل من هذا المخلوق خليفته في الأرض، وأناط به مهمة إعمارها:
( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) (هود:61)، ثـم نـهى الله سبحانه وتعالى عن الإفساد في الأرض:
( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) (الأعراف:56 )، فكيف تتوافق هذه المقدمات مع عد الحياة الدنيا لهوا ولعبا ومتاعا؟
أشـار المفسـرون إلى أن عد الحياة الدنيا لهوا ولعبا من النواحي الآتية: فأفـاد أكثرهم أن ذلك من حيث إنـها لا تـدوم، وأن الـدوام للآخـرة فقط، فهي ليست أكثر مما هو شبيه بلعب الصبيـان ولـهـوهم، يلعبون ساعة من زمن
[ ص: 95 ] ثـم ينـصرفون
>[77] ، فالحياة الدنيا ليسـت سـوى مشـوار قصير يـمضي البشر بعده نحو حياة دائمة باقية، في الجنة أو في النار، فذلك ما يجب أن يعملوا لأجله بجد وعزم.
في حين أشار آخرون إلى أن ذلك الوصف يتعلق بما كان لغير وجه الله منها، أي من الدنيا، فما كان منها لله فهو من الآخرة وليس من الحياة الدنيا
>[78] ، وثم من قال: إن المقصود بذلك المشركين، فهم أهل الدنيا، وهم أهل لعب ولهو، أما المؤمنون فهم أهل الآخرة
>[79] ، وهي لعب ولهو للقلوب الغافلة اللاهية، تفرح بها النفوس المبطلة الباطلة
>[80] .
غير أنه بوسعنا الذهاب إلى آراء أخرى قد تكون أكثر قبولا، فقد وصف الله الحياة الدنيا بهذا الوصف مقارنة بالحياة الآخرة
>[81] . ومن هذه الزاوية فلا شك في أن الحياة الدنيا لا تعني شيئا قياسا بالآخرة، من حيث زمن كل
[ ص: 96 ] منهما، وبالنعيم المتاح في كل منهما. ومن ناحية أخرى فإن هذا الوصف توجيه للإنسان ليكون هو القائد للأشياء الموجه لها، فلا تفقده ذاته وكينونته
>[82] ، هدفه الرئيس التوجه إلى خالقه.
فليس من روح الإسلام احتقار الدنيا والفرار منها ومما فيها من متاع وزينة وما إلى ذلك، بل يرمي القرآن الكريم من وراء هذا الوصف وضع كل شيء في موضعه المناسب وعند مكانه المناسب من حدود الله وأحكامه، فلا تصبح النفوس أسيرة للملاذ والشهوات والمتاع الدنيوي، بل يأخذ منها القدر المناسب ليضعه في المكان المناسب، وبالأسلوب المناسب، طبعا كل ذلك من الناحية الشرعية، واضعا نصب عينيه الحياة الحقيقية المفعمة في الآخرة؛ فيضع لهذه قيمتها الحقة، ولتلك قيمتها المناسبة، ولا يستبدل إحداهما بالأخرى، فذلك هو الضلال حقا
>[83] ، فالدنيا - في الحقيقة - دار ممر وليست دار مستقر، وهي مزرعة المؤمن، ومما زرع فيها يحصد في الآخرة، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولقد أثر عن النبي قوله:
( لا تسبوا الدنيا، فنعم مطية الرجل، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر ) >[84] .
[ ص: 97 ]
وعليه، يبقى الإنسان قائما بجهده، ساعيا في مهمته في الاستخلاف والإعمار، فذلك نصيبه من الدنيا
( ولا تنس نصيبك من الدنيا ) (القصص:77)، ويكون واجب الاستخلاف والإعمار محكوما بقواعد المنهج الإلهي، الذي شرعه الله تعالى. إنها مهمة بناء حياة مفعمة بعوامل التحضر، التي تستند إلى القيم، التي شرعها الله تعالى. بيد أن المؤمن يفعل ذلك ويبذل فيه جهده، وعينه ترنو إلى الآخرة، يعمل لها، ويطمع في نعيمها الدائم، ولا ينهمك منغمسا في ملاهي الدنيا ودوامة الجري فيها:
( ألهاكم التكاثر *
حتى زرتم المقابر ) (التكاثر:1-2 )،
( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ) (المنافقون:9).
فنظرة المؤمن متوازنة إلى كل من الدنيا والآخرة، ولا يمكن أن تكون نظرته متوازنة قطعا إلا إذا استندت إلى القيم والمعايير، التي حددتها الشريعة، التي أرادها الله أن تكون حاكمة لسلوك الإنسان وضابطة وموجهة له في مسعاه لإعمار الأرض.
[ ص: 98 ]