المطلب الأول
مفهوم التعدي، صوره، وحكمه
أولا: تعريف التعدي:
التعدي لغة: هو الظلم ومجاوزة الشيء إلى غيره
>[1] . قال الرازي: "العدو هو التعدي في الأمور، وتجاوز ما ينبغي أن يقتصر عليه، يقال: عدا عليه عدوا، وعدوانا، واعتداء وتعديا، إذا ظلمه ظلما مجاوزا للحد"
>[2] .
التعدي في اصطلاح الفقهاء:
للتعدي تعاريف عديدة لدى الفقهاء والباحثين، أبرزها ما يلي:
الـتـعـدي هـو: "فـعـل مـا لم تأذن به الشريـعـة ولا المـالك؛ لا لفـظـا، ولا عرفا"
>[3] .
[ ص: 125 ]
وعرفه الدكتور محمد فوزي, بأنه: "مجاوزة ما ينبغي أن يقتصر عليه شرعا أو عرفا أو عادة"
>[4] .
يبدو أن هذين التعريفين يشتملان على معنى واحد، وإن اختلفا في التعبير، وهي المجاوزة على حدود الشرع والعرف.
وعرفه الدكتور القره داغي، بقوله: "هو كل تصرف يراد به أو من شأنه الإضرار بالآخرين"
>[5] .
ويمكن أن يلاحظ على الشطر الأول من تعريف الأستاذ القره داغي، بقوله: "كل تصرف يراد به" أنه قيد التصرف بالإرادة؛ ليكون ضمن التعدي، فهذا يدل على أن تصرف البنك وإن أدى إلى الإضرار بالآخرين دون قصده، لا يعد من التعدي، فهذا غير دقيق: لأن كل تصرف يتولد عنه تلف أو ضرر فإنه يضمن - بأي طريقة كانت- سواء كان عن قصد منه أم لم يكن
>[6] .
كما يدفعنا الشطر الأخير من تعريفه "الإضرار بالآخرين" إلى التساؤل عن حكم تغريم البنك فيما لو خالف الشروط المتعاقد عليها أو تعـدى لكن لم يلحق بالمشروع خسارة أو تلف ولم يأت بآثار سلبية؟
ويقصد بالتعدي هنا: أن يتجاوز المضارب (البنك الإسلامي) حدود ما يجوز له في عقد المضاربة، أو يخالف شروط صاحب المال، أو أن يفعل ما نهاه عنه
>[7] .
[ ص: 126 ]
ومما يلاحظ هنا، أن الفقهاء يختلفون في نوع التعدي، الذي يوجب الضمان أو لا يوجبه، وفي قدره
>[8] . وذلك أن صور التعدي والتفريط وألوانها تختلف من قطر إلى قطر، بل وفي قطر واحد، كما أنها تختلف باختلاف الأزمنة. ومن ثم نرى الرجوع في ضابطه إلى عرف الناس وعادتهم فيما يعدونه تعديا وتفريطا.
وعلى هـذا؛ فإذا وقـع اخـتلاف بين البنك الإسلامي وبين المدخرين فيما يعتبر تعديا وتفريطا على أموال الاستثمار، فإنه يرجع إلى أهل الخبرة والاختصاص في المجال التجاري والمصرفي
>[9] .
ومما يؤكد ذلك ما ورد من القواعد الفقهية المقررة لدى أهل العلم، مثل أن: "كل ما ورد به الشرع مطلقا، ولا ضابط له فيه، ولا في اللغة، يرجع فيه إلى العرف"
>[10] .
ثانيا: أبرز صور تعدي البنك الإسلامي في أموال المستثمرين:
لما كانت مظاهر التعدي في أموال الاستثمار تتنوع من قبل المصرف، فإنه يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
[ ص: 127 ] 1- مخالفة اللوائح والنظم المتبعة في البنك:
فلو نص في النظام الأساسي على منع تقديم القروض لأعضاء مجلس الإدارة، فخالف المدير، أو المجلس فإنه ضامن لهذا التصرف. وكذلك لو اشترط القانون على أن لا يتعامل البنك مع أقارب المدير، أو أعضاء مجلس الإدارة فتعامل معهم، فيعتبر حينئذ ضامنا للضرر، الذي يحدث، وكذلك مخالفة اللوائح الداخلية الإدارية الخاصة بحدود الصلاحيات، التي تمنح لمجلس الإدارة، وللمدير، فلو تجاوز المدير، أو مجلس الإدارة هذه الحدود، فإنه يكون مسؤولا عن ذلك إذا حدثت خسارة
>[11] .
2- عدم الالتزام بشروط التعاقد المتفق عليها:
من المقرر أن عدم الالتزام بالأصول والمبادئ المتعارف عليها في مجال التمويل المصرفي، والقيود أو الشروط، التي اتفق عليها البنك الإسلامي مع رب المال، إذا خالفها المصرف يلزمه الضمان
>[12] . فمن ذلك إذا قيد صاحب المال تصرفات البنك ببلد معين، أو بأشخاص معينين، أو بسلع معينة، أو بنوع من أنواع التجارات، فعلى المصرف أن يلتزم بهذه القيود والشروط
>[13] .
[ ص: 128 ]
قـال الطـحـاوي: "إذا شرط على المضـارب أن لا يشتري إلا من فلان أو لا يشتري إلا الرقيق أو على أن لا يبيع ولا يشتري إلا بالكوفة، كان ذلك على ما شرط لا ينبغي أن يتجاوزه، فإن تعداه ضمن"
>[14] .
وقال ابن قدامة: "إذا تعدى المضارب، وفعل ما ليس له فعله، أو اشترى شيئا نهي عن شرائه، فهو ضامن للمال"
>[15] .
وقال ابن حزم: "واتفقوا أن صاحب المال إن أمر العامل أن لا يسافر بماله، فذلك جائز ولازم للعامل، وأنه إن خالف فهو متعد"
>[16] .
وكذلك لو اشترط رب المال أن لا يمشي المضارب بالمال ليلا، خوفا من اللصوص، أو لا ينزل ببحر، أو أن لا يسافر بالمال بل يتاجر داخل البلد، فيجب على العامل التقيد به، فإذا استخدمه في مجال آخر غير المـجال، الذي تم إيداعه بالمصرف لاستثماره من خلاله، أو استعمله في غير المشروع الذي
[ ص: 129 ] حدده صاحب المال، فحينئذ يكون البنك الإسلامي مخالفا لشروط صاحب الحساب، فيلزمه الضمان، لو وجدت الخسارة
>[17] .
قال الشربيني: "فإن سافر بغير إذن أو خالف فيما أذن له فيه ضمن"
>[18] .
3- انتفاع المصرف بمال الاستثمار:
إذا تصرف البنك في أموال الاستثمار تصرفا مباشرا بقصد الانتفاع به لنفسه، بدون إذن صاحبها، فإنه يضمن، وذلك لانتقال يده من يد أمانة إلى يد ضمان
>[19] .
4- مخالفة العرف التجاري:
يقتضي العرف التجاري الحذر، وعدم التعامل في مناطق غير مأمونة للأموال، وعدم التمويل للأشخاص، الذين سمعتهم سيئة، وعدم التعامل مع البنوك أو الشركات، التي على وشك الإفلاس، فإن خالف البنك في ذلك وحصلت الخسارة، لزمه الضمان؛ لمخالفته العرف التجاري
>[20] .
ويقترح لتمام التعرف على الجوانب السابقة وغيرها أن تخصص البنوك الإسلامية مراكز للبحوث ولدراسة الجدوى الاقتصادية للمشروعات، على غرار
[ ص: 130 ] البنوك الربوية والشركات العالمية، التي تهتم بالدراسات والبحوث والمعلومات والاتصالات لحماية أموال المستثمرين وتنميتها
>[21] .
ثالثا: حكم تعدي البنك الإسلامي على أموال المستثمرين:
طالما ثبت أن البنك الإسلامي مضارب على أموال الاستثمار، فإذا تعدى خرج من دائرة الأمانة إلى دائرة الضمان، أو قام بالمخالفة صار غاصبا، فيأخذ حكم الغاصب، لوجود التعدي منه على مال الغير.
ومن ثم، فقد اتفق جمهور الفقهاء
>[22] , على أن المضارب يضمن بالتعدي والتقصير، وذلك لأن المتعدي متلف لمال غيره بغير حق، فوجب عليه ضمانه،
[ ص: 131 ] كما أن الـمقصر مـتـسبـب في التلف بترك ما وجب عليه من حفظه، فوجب عليه ضمانه
>[23] .
قال الكاساني: "ولا ضمان على المدفوع إليه المال ما لم يخالف"
>[24] .
وقال ابن عبد البر: "وإذا تعدى ما أمره به رب المال ضمن ما أدركه في المال من درك وخرج عن أمانته بتعديه"
>[25] .
ويقول الزركشي: "الضمان منوط بالتعدي"
>[26] .
وقال ابن قدامة: "إذا تعدى المضارب، وفعل ما ليس له فعله، أو اشترى شيئا نهي عن شرائه، فهو ضامن للمال؛ لأنه متصرف في مال غيره بغير إذنه، فلزمه الضمان، كالغاصب"
>[27]
وقال ابن تيمية: "متى فرط العامل في المال أو اعتدى فعليه ضمانه"
>[28] .
[ ص: 132 ]