1- كيف تحدث القرآن عن الإنسان؟
لقد جاءت آيات القرآن الكريم بيانا شافيـا لـكل ما يتـعلـق بالإنسـان، إن في جـانبـه الـروحـي أو المـادي... وكان بيانـهـا إجـابة عن كل التسـاؤلات،
[ ص: 13 ] التي أثارها ولا يزال، كل من العلم والفلسفة والتي تضاربت فيها آراء الناس تضاربا أدخل الإنسان، في كثير من الأحيان، إلى متاهات نأت به بعيدا عن المكانة اللائقة به ككائن مكرم.
ونظرة عجلى إلى الكم الهائل من تلكم النظريات والفرضيات، التي حاولت تفسير الإنسان، ترينا مقدار التيه الذي انزلقت إليه تلكم العقول، وهي تضطرب مرة في تفسير أصل الإنسان، فترجعه إلى حيوان، وتطوح أخرى فتجعلـه دائرا مع غريزته، وأخرى تفقده كل إرادة فتصوره نتاجا آليا للمجتمع أو للمادة
>[1] .
الكل فسر أو حاول... ولكن وحدها صورة الإنسان في القرآن، تعطينا عن الإنسان الصورة اللائقة به، ككائن متميز في هذا الوجود.
وهي صورة يمكن أن تختصر في كونه (كائنا مكرما)، حباه الله تعالى بجملـة من الخصائص، التي فضله بها على كثير ممن خلق... وهي ما أوجزه قوله تعالى:
( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء:70).
[ ص: 14 ]
فهذه آية جامعة في تحديد ماهية الإنسان، الذي يتوجه إليه القرآن الكريم بالخطاب بعـد ذلك، ليكون خليفة في الأرض، مـكلفا بالعبـادة والعمـارة، أي مكلفا ببناء الحضارة.
فالآية تفتتح هذا البيان الرباني، بتعميم التكريم ليشمل مطلق الإنسان (بني آدم)، ثم يشير بتركيز - على عادة القرآن- إلى معـالـم ذلك التكريـم، التي أفاض القرآن في مواضع عديدة، في تفصيلها وبيانها.
فهو مخلـوق (مكرم)، و"الكرم ضد اللؤم.. يوصف به الشيء لشرفـه في ذاته، بكمال صفاته أو لحسن أفعاله وما يصدر عنه من النفع لغيره، فيقال فرس كريم، وشجرة كريمة، وأرض كريمة، إذا حسنت هذه الأشياء في ذواتها وكملت فيها صفات أنواعها، ويقال نفس كريمة إذا كملت بمحاسن الأخلاق، التي بها كمال النفوس"
>[2] .
وتكريمه، كما يضيف الإمام ابن باديس: "عام للنوع الإنساني من حيث هـو إنسـان، لا فرق بين من آمن ومن كفر؛ لأنه راجـع للخلقة الإنسانية، التي يتساوى فيها الجميع، والتمكين من أسباب المنافع، الذي هو ثابت لجميع النوع، بما عنده من عقل وتفكير، وهذا هو مقتضى العموم المستفاد من لفظ (بني آدم)"
>[3] .
[ ص: 15 ]
والآية إذ تؤسس للمفهوم القرآني للإنسان، فهي تحيلنا إلى مظاهر التكريم، التي أفاض القرآن في الحديث عنها، حاثا الإنسان على التأمل فيها، كي يدرك حقيقته فـلا يضـل في مـتـاهـات الفـلسـفـات المادية، والتصـورات التي حطت من قيمته، وإن بدت في الظاهر مقدرة له، وكي يدرك فضل خالقه ويستشعر مقدار ما حباه من نعم وميزات، فضله بها على كثير من المخلوقات، فيتوجه إليه شاكرا موحدا.
وفي ضوء هذه الآية، واستقراء للقرآن الكريم، يمكن أن نقف مع المظاهر التالية للتكريم الإنساني:
أ- أنه خلق في أحسن صورة:
وهذه أقرب صور التكريم التي يمكن أن يلاحظها الإنسان مع أدنى تأمل، إذ هي مرتبطة بتكوينه المادي، الذي عبر عنه القرآن في أكثر من مناسبة... فعلى الرغـم مـن أن الله تعالى أعلن بأن الحسن موجود في كل مخلوقاته، فقال عز وجل:
( الذي أحسن كل شيء خلقه ) (السجدة:7)، فقد نص، استثناء وتصريحا، على حسن الخلق في الإنسان ليزداد - وهو المخاطب بالقرآن- التفاتا إلى خاصة نفسه، فيرى جمالها وبديع صنعها، ويرى معها نعم الخالق ومننه عليه.
ولعل الآيات، التي تثير في الإنسان التساؤل حول خلقه، بقدر ما تدفعه إلى اكتشاف أصله، فهي تدعوه إلى اكتشاف جمال الخلق فيه، حين تخاطبه:
( فلينظر الإنسان مم خلق ) (الطارق:5)،
( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) (الذاريات:21)...
[ ص: 16 ]
ولنكتف هنا بثلاثة شواهد، يضعنا فيها القرآن أمام تكريم الله تعالى لنا من خلال طريقة خلقنا.
-الأول: قوله تعالى:
( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين *
ثم جعلناه نطفة في قرار مكين *
ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) (المؤمنون:12-14).
هي طريقة بديعـة في الخـلق، تعرف الإنسـان على أصله والأطـوار، التي تقلب فيها، كي يكون على علم بما هو عليه من حسن ودقة تركيب من جهة، وعظم قدرة الخالق وجميل صنعه بهذا المخلوق من جهة أخرى.
وما ينبغي لقارئ هذه الآية أن يغفل عن الجملة، التي عقب بها الحق تعالى على قصة الإنسان هذه؛ لأن فيها تنبيها لمزيد الفضل الرباني عليه، يقول الشيخ الطاهر بن عاشور: "وفرع على حكاية هذا الخلق العجيب إنشاء الثناء على الله تعالى بأنه
( أحسن الخالقين ) ، أي أحسـن المنشئـين إنـشـاء؛ لأنه أنشأ ما لا يستطيع غيره إنشاءه... ولما كانت دلالة خلق الإنسان على عظم القدرة أسبق إلى اعتبار المعتبر، كان الثناء المعقب به، ثناء على بديع قدرة الخالق مشتقا من البركة وهي الزيادة"
>[4] .
- الثاني: قوله تعالى:
( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم *
الذي خلقك فسواك فعدلك *
في أي صورة ما شاء ركبك ) (الانفطار:6-8).
[ ص: 17 ]
وهذه آيات أخرى تستوقف الإنسان
>[5] ، تسائله عن دوافع شروده عن ربه، الذي ما فعل معه إلا حسنا، وتدعوه أن يتأمل في نفسه، كي يرى بديع صنع الله فيه.
فالله تعالى هنا، لا يريد من الإنسان أن ينظر إلى (الخلق) فقط، بل يريد منه أن يمعن النظر ليرى مع الخلق (التسوية) و (التعديل)، إذ كلها مستويات تفضي إلى التركيب في أحسن صورة.
فـ"الخلق: الإيجاد على مقدار مقصود.
والتسوية: جعل الشيء سويا، أي قويما سليما، ومن التسوية جعل قواه ومنافعه الذاتية متعادلة غير متفاوتة في آثار قيامها بوظائفها، بحيث إذا اختل بعضها تطرق الخلل على البقية، فنشأ نقص في الإدراك أو الإحساس أو نشأ انحراف المزاج أو ألم فيه، فالتسوية جامعة لهذا المعنى العظيم.
والتعديل: التناسب بين أجزاء البدن، مثل تناسب اليدين والرجلين والعينين وصورة الوجه، فلا تفاوت بين متزاوجها، ولا بشاعة في مجموعها، وجعله مستقيم القامة، فلو كانت إحدى اليدين في الجنب والأخرى في الظهر لاختل عملهما، ولو جعل العينان في الخلف، لانعدمت الاستفادة من النظر حال المشي، وكذلك مواضع الأعضاء الباطنة، من الحلق والمعدة والكبد
[ ص: 18 ] والطحال والكليتين، وموضع الرأتين والقلب، وموضع الدماغ والنخاع... وخلق الله جسد الإنسان مقسمة أعضاؤه وجوارحه على جهتين، لا تفاوت بين جهة وأخرى منهما، في كل جهة مثل ما في الأخرى من الأوردة والأعصاب والشرايين"
>[6] .
- الثالث:
( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم *
ثم رددناه أسفل سافلين *
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ) (التين:4-6).
امتن الله تعالى على الإنسان بخلقه في أحسن تقويم، في صورته وحواسه، وانتصاب قامته وعقله وإدراكه... إلى غير ذلك مما يمكن أن تصدق عليه الآيات، وإلى كل صنف ذهب بعض المفسرين، والأولى - كما يقول أبو حيان - العموم في كل ما هو أحسن
>[7] .
وهذا التقويم الأحسن، يتسع في عمومه ليتجاوز حدود الظاهر المادي، البادي في التركيب في أحسن صورة ظاهرية، كما سبق في الشاهد الثاني، إلى أن يشمـل أيـضا التقويـم بـمعنى التناسب مع الوظيفـة التي كلف بـها الإنسان في هـذه الحياة، كما سيتضح لنا لاحقا... وهو تقويم يمنحه التميز عن كثير من المخلوقات.
[ ص: 19 ]
يقول الشيخ الطاهر بن عاشور: "والتقويم، جعل الشيء في قوام - بفتح القاف - أي عدل، وتسوية، وحسن التقويم أكمله وأليقه بنوع الإنسان، أي أحسن تقويم له، وهذا يقتضي أنه تقويم خاص بالإنسان لا يشاركه فيه غيره من المخلوقات ويتضح ذلك في تعديل القوى الظاهرة والباطنة، بحيث لا تكون إحدى قواه موقعة له فيما يفسده، ولا يعوق بعض قواه البعض الآخر عن أداء وظيفته، فإن غيره من جنسه كان دونه في التقويم"
>[8] .
ب- أن الكون مسخر له:
وهذا هو المظهر الثاني من مظاهر تكريم الله تعالى للإنسان، إذ لن يبلغ هـذا المخـلوق الحياة اللائقة بكرامته إلا أن تكون المخلوقات في خدمته، طيعة، منقادة له من أجل أن يؤدي وظيفته، وهذا جانب آخر من جوانب تفضيله عليها.
وقد حرص القرآن الكريم على تأكيد هذه الحقيقة، سواء بالحديث عن التسخير العام، أم الجزئي للكون بما فيه من سماء وأرض، وبما فيهما من مظاهر، كالكواكب والنجوم والسحاب والرياح والأمطار والجبال والبحار والحيوانات والزروع... .
ولنسق بعضا من هذه الآيات الدالة على ذلك، ونكتفي بتسجيلها دون تعليق، فهي بينة بذاتها:
[ ص: 20 ]
- فمما ورد في إطار التسخير العام:
قوله تعالى:
( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ) (لقمان:20).
- وقوله تعالى:
( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (الجاثية:13).
- ومما ورد في إطار تفصيل المسخرات:
- قوله تعالى:
( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ) (النحل:14).
- وقوله تعالى:
( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (الجاثية:13).
- وقوله تعالى:
( وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) (النحل:12).
ومظـهر التـسـخـير هذا، يتعمق فهمنا له إن ربطناه بمسائل أخرى نبه إليها القرآن الكريم، وأكدتـها حـقائـق الحياة، كما يعيشها الإنسان العادي، أو كما يتوصل إليها العلماء من خلال بحوثهم ودراساتهم للإنسان في علاقته بالكون، أو باكتشافهم للسنن، التي بثها الله فيه.
[ ص: 21 ]
ومن تلك المسائل الشارحة والمؤكدة لقضية التسخير، مسألة التوافق، الذي نجده بين الإنسان والكون المسخر له، وهو ما يطلق عليه مفهوم (العناية)
>[9] ... وهذا يستلزم أمرين:
- الأول: أن يخلق الإنسان على كيفية تمكنه من الاستفادة من خدمات الكون، وهذا ما أشرنا إلى بعضه في العنصر السابق، حيث خلق الإنسان في أحسن تقويم، يمكنه من تسخير الكون، فأشرنا إلى جانبه المـادي (التقويم البدني)، وسنشير لاحقا إلى التقويم العقلي والنفسي، بل وقابليته للارتقاء الروحي والفكري، وأهليته لتلقي رسالة ووحيا، وتكليفا ببناء حضارة.
- الثاني: أن يخلق الكون على كيفية تمكن الإنسان من الاستفادة من خدماته، وذلك بأن يودع الله تعالى فيه من السنن والقوانين، ما يجعله قابلا للارتفاق، طيعا لعملية التسخير، منقادا لخدمة من اكتشف تلكم السنن والقوانين.
ومن مجموع هذين الأمرين يأتي التسخير.
[ ص: 22 ] ج- أنه مكلف بوظيفة في الحياة:
وهذا المظهر هو كالنتيجة لما سبق، فالإنسان ككائن مكرم، وقد خلقه ربه في أحسن تقويم، وأخضع له الكون، ما كان ليترك هكذا عبثا دون وظيفة وجـودية، تليق بـما ركب فيه من خصـائص، وبـما هيئ له من استـعدادات، وبما أحيط من مظاهر العناية.
والناظر في القرآن الكريم، يجد أن الوظيفة، التي كلف بها الإنسان، قد اتخذت أشكالا ثلاثة: (الخلافة) و (العمارة)، و (العبادة) ... يقول الراغب الأصفهاني: "والفعل المختص بالإنسان ثلاثة أشياء:
1- عمارة الأرض: المذكورة في قوله تعالى:
( واستعمركم فيها ) (هود:61)، وذلك تحصيل ما به المعاش لنفسه ولغيره.
2- وعبادته: المذكورة في قوله تعالى:
( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56)، وذلك هو الامتثال للباري ـ عز وجل ـ في أوامره ونواهيه.
3- وخلافته: المذكورة في قوله تعالى:
( ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) (الأعراف:129)، وغيرها من الآيات، وذلك هو الاقتداء بالباري - سبحانه- على قدر طاقة البشر في السياسة باستعمال مكارم الأخلاق"
>[10] .
[ ص: 23 ]
وهذه المطلوبات الثلاثة من الإنسان، ينبغي أن ينظر إليها في سياق تفاعلها، إذ مطلوب من الإنسان أن يحققها في إطار حركته في الحياة، ليكون متحققا ثم محققا لمعنى الإنسانية الكاملة، اللائقة بالتكريم الذي حباه به الله تعالى
>[11] ... فعمارة الأرض إذا تجردت عن بعدي (الخلافة) و (العبادة) قد تفضي إلى الطغيان والإفساد في الأرض، وتنتهي، رغم ثمراتها المادية، إلى خراب يطال النفوس، وخواء يطارد الإنسـان، ويجـرده من معنى الإنسانية، إذ يلقي به - كما يقول غارودي- في عالم بلا معـنى، وهـذا ما يخبرنا به التاريخ، ويؤكده واقـع الحضـارة الغربية المعاصـرة، التي استطاعت تعمير الأرض، ولكنها خربت حياة الإنسان!!
والمعول إذن، أن نفهم وظيفة الإنسان في سياق التفاعل بين المطلوبات الثلاثة فيها، وذلك حين يتحرك هذا الإنسان ليتحقق ويحقق معنى (الخلافة) من خلال (العمارة) و (العبادة).
فالخلافة، بما هي وظيفة وجودية للإنسان معناها أن يكون خليفة عن الله تعالى في الائتمار بأمره وتنفيذ أحكامه على هذه الأرض، و"هـذه المهمة، التي كلف الله بها الإنسان، وجعلها غاية لوجوده تنبني على عنصر أساسي هو معنى الخليفية عن الله، ومن هذا العنصر تستمد جوهر حقيقتها وكل
[ ص: 24 ] أبعادها... فالخليفية تقتضي أن يكون الهم الأكبر للخليفة ترقيه نحو مستخلفه، واقترابه منه ليحقق معنى الاستخلاف على الوجه الأفضل، وكذلك فإن الإنسان الخليفة، جوهر خلافته أن يحصر همه وجهده في الاقتراب من الله مستخلفه، وذلك بالعمل الدائب والكدح المستديم لترقية ذاته وتنميتها حتى يبلغ من الاكتمال الدرجة التي ذكرها الله في قوله:
( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) (الانشقاق:6) .
إن تكامل الإنسان وترقيه لاقترابه من الله لا يكون إلا عبر منهاج العبادة، ولذلك قال الله تعالى في بيان قطعي:
( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56)، ومعنى العبادة: إسلام النفس في كل ما يفعل الإنسان ويذر لما يريده الله ويرضاه، عبر الالتزام الكلي بفعل ما أمر وترك ما نهى.
ولما كان الإنسان في طبيعة تركيبه، مؤلفا من عنصر روحي هو النفخة الإلهية، وعنصر ترابي، فإن الترقي والتنامي في اتجاه الله يكون شاملا للعنصرين معا، ولذلك أيضا فإن مسرح التكامل والترقي هيأه الله ليكون صالحا لهذه الطبيعة المزدوجة، فكانت الأرض مجالا لممارسة الخلافة:
( إني جاعل في الأرض خليفة ) (البقرة:30)...
وممارسة الخلافة في الأرض على سبيل تنمية الذات الإنسانية وتكميلها بمنهاج العبادة، يقتضي التعامل مع هذه الأرض بما يدفع الإنسان إلى اتخاذها طريقا لتعظيم الله وإكباره، والخضوع له، والسعي في محبته ونوال رضاه، بما يناله من التدبر والاعتبار بأحوالها، مع معرفة بالله بكمال صفاته وعظمة سطوته،
[ ص: 25 ] وسعة رحمته، بما يكتشف من أسرارها وقوانينها، وما يقيم فيها من عمران وتجهيز يحكم من سيطرته عليها وإخضاعها لإرادته، وقد جمع الله هذه المعاني في قوله تعالى:
( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ) (هود:61)"
>[12] .
وهذه الخلافة، ببعديها التعميري والعبادي، تستتبع مظاهر أخرى من مظاهر التكريم الرباني للإنسان، تكون بمثابة شروط لتحقيق الوظيفة الوجودية للإنسان، من أبرزها:
- صـلاحيـة هذا الإنسان ليكون محـلا لخطاب الله تعالى بالوحي، الذي يرسم له منهاج تحقيق الخلافة في الأرض.
- تميز الإنسان بالعقل، الذي هـو مـنـاط التكليف
>[13] بـهـذا المـنـهـاج، وهو في الوقت ذاته أداة الفهم والإدراك لمفرداته.
- تميز الإنسان بالإرادة والحرية، التي تمكنه من الحركة بوعي ومسؤولية للتحقق بمفهوم الخلافة.
وكل عنصر من هذه العناصر يحتاج منا إلى شرح، بيد أننا نخشى أن يخرج بنا ذلك عما نحن بصدده من بيان نظرة القرآن للإنسان.
[ ص: 26 ]
ولكن نشير إلى أن (العقل) يستتبع الحديث عن (العلم) الذي به كماله والذي من خلاله يمكن للإنسان أن يكون خليفة، أي (سلطانا) على هذه الموجودات المسخرة له أصلا، ولكن -كما قلنا من قبل- يحتاج استخدامها إلى إدراك القوانين والسنن التي وضعها الله فيها.
و (الإرادة) تسـتـتـبع الحديث عن (الحرية)، بما هي ميزة اختص الله تعالى بها الإنسان من بين كثير من مخلوقاته، بها تتحدد (المسؤولية)، عن سلوكه في هذه الحياة وهو يحاول أن يحقق الخلافة.
هكذا إذن تكلم القرآن عن الإنسان، باعتباره كائنا مكرما، يتجلى تكريمه في جمال خلقه، وتسخير الكون له، وتكليفه بالخلافة.