المبحث الثالث
الشمولية وفكرة الاستيعاب المستمر للشأن الإنساني
الشمولية هي ثالث عنصر من مقتضيات الخاتمية - كما قلنا - وقد نسميها (العموم)، وإنما آثرنا إفرادها بمبحث خاص، لمزيد التفصيل والتأكيد على الأهمية.. وسنتناولها من خلال النقاط التالية:
- تحديد مفهوم الشمولية (العموم) من زاوية التناول الحضاري، الذي نحن بصدده في هذا المبحث
>[1] .
- بيان معالم الشمولية (العموم)، أي المرتكزات التي تضمن الشمولية المستوعبة للشأن الحضاري.
- بيان مجالات (ميادين) هذه الشمولية.
وفيما يلي تفصيل ذلك:
1- مفهوم الشمولية:
لما اقتضت حكمة الله تعالى، كما سبق بيانه، أن يكون الوحي، الذي خص به النبي صلى الله عليه وسلم هو الرسالة الخاتمة، كان من تمام حكمته سبحانه أن يأتي الإسلام، في صياغته الأخيرة، متوافقا مع قراره تعالى بغلق أبواب الوحي.
ومن هذا التوافق، زيادة على ما سبق إيضاحه في المبحث السابق، أن تأتي الشريعة الخاتمة على صورة من السعة والشمول والعموم، بما يجعلها مستوعبة للإنسان ومسيرته في كل زمان ومكان.
[ ص: 58 ]
وهـذا الـذي فهم من القرآن الـكريـم، كما في قـول الله تعـالى:
( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ) (سبأ:28)، وقوله تعالى:
( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) (الأعراف:158).
كما فهم أيضا مما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، كما في الحديث الصحيح:
( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ) وذكر منها:
( وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة ) >[2] .
فالشريعة الخاتمة، وهي تتوجه إلى الإنسان، باعتبارها آخر خطاب إلهي له، لا يمكن أن تضمن له الهداية في الدنيا إلى آخر وجوده فيها إلا بأن تستوعب حركته فيها، ولا يتأتى لها ذلك إلا باستيعابه زمانيا ومكانيا.
أي أن لا تكون الشريعة خاتمة إلا بضمان الهداية الباقية، التي لا تنطمس معالمها بمرور الأزمنة واختلاف الأمكنة, فهدايتها ينبغي أن تتوجه إلى الإنسان، لا بشرط التقييد، لا الزماني ولا المكاني، لا العرقي ولا اللغوي.... ولا غيرها من الأوصاف الإضافية، التي قد نركبها على الأصل المشترك بين بني آدم، وهو الآدمية أو الإنسانية.
من هنا كان تعريف الشمولية (العموم)، عند من حاولوا أن يعطوا لها تعريفا، مركزا على هذه الفكرة الأساسية، كون الرسالة الخاتمة تعاملت مع الإنسان خارج القيود الإضافية، التي تركب على إنسانيته... وجاءت تعاليمها
[ ص: 59 ] (عقيدة وشريعة وخلقا) مصاغة وفقا لهذا الأمر... جاءت على شكل كليات ورؤى متكاملة، وتجنبت الإغراق في الجزئيات والأحوال التفصيلية.
فالقرآن، كما يقول الشيخ الغزالي، رحمه الله: "يمنح المسلم رؤية كاملة ومنهجا متماسكا، يجعل من الحياة خطوطا متوازية لا تصطدم، مهما امتد الزمن"
>[3] .
فهذه الرؤية الكاملة والمنهج المتماسك، هو ما يطلب من المسلم فهمه، ثم تبليغه للإنسان، أيا كان زمانه أو مكانه.
وقد حدد الشيخ الطاهر بن عاشور، مفهوم الشمولية، تحديدا دقيقا، حين ربطه بمفهوم الخاتمية، وما يقتضيه ذلك من ضمان الهداية المستمرة للإنسان، فقال: "فعموم الشريعة، سائر البشر في سائر العصور، مما أجمع عليه المسلمون، وقد أجمعوا على أنها صالحة للناس في كل زمان ومكان، ولم يبينوا كيفية هذه الصلوحية، وهي عندي تحتمل أن تتصور بكيفيتين:
الكيفية الأولى: أن هذه الشريعة قابلة، بأصولها وكلياتها، للانطباق على مختلف الأحوال، بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة وعسر.
الكيفية الثانية: أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلا للتشكل على نحو أحكام الإسلام، دون حرج ولا مشقة ولا عسر، كما أمكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك، من غير أن يجدوا حرجا ولا عسرا في الإقلاع عما نزعوه
[ ص: 60 ] من قديم أحوالهم الباطلة، ومن دون أن يلجأوا إلى الانسلاخ عما اعتادوه وتعارفوا عليه من العوائد المقبولة"
>[4] .
فهذا - كما قلنا- تحديد دقيق لمفهوم الشمولية (العموم)، لأنه يرينا أن هذه الخاصة مرجعها إلى أمرين:
1- أن تعاليم الشريعة صيغت في شكل كليات، بإمكانها أن تستوعب الإنسان في كل زمان ومكان.
2- أن كليات الشريعة لها قدرة على إعادة تشكيل الإنسان، دون اصطدام مع حركته في التاريخ، وذلك بالجمع بين أمرين، الأول: تصحيح الانحرافات، والثاني: الإبقاء على المألوف الصحيح من العادات
>[5] .