المبحث الثاني
طبيعة القيم الغربية
هل علينا، ونحن نريد أن نتحدث عن طبيعة القيم الغربية، أن نعرج أولا للحديث عن مرجعية هذه القيم؟
يبدو أن الأمر ضروري، ذلك أن هذه المرجعية تمثل خلفية لتلك القيم، مثلما أن القيم - كما ذكرنا - تمثل خلفية للحضارة.
والخـلفيـة، التي نعنيها هنا، هي الروافد الأولى، التي تشـكل الحـضارة... إذ لا يـمـكن لحـضـارة ما أن تظـهـر هـكذا فـجـأة عـلـى مسـرح الـتـاريـخ، بلا مقدمات... فهذا مخالف لمنطق التاريخ نفسه.
إذ التاريخ يؤكد، أن الظاهرة الحضارية في مسيرة الإنسان، تبرز فيها خاصيتان: التعاقبية والتراكمية.
تعاقبية، من حيث أن الحضارات تتداول على استلام القيادة بشكل دوري، كلما أتمت حضارة ما دورتها، بأن فقدت سبب وجودها ومبررات استمرارها كحضارة قائدة، سلمت زمام الأمر لحضارة أخرى ناشئة، تمتلك سببا للوجود ومبررات للاستمرار.
[ ص: 80 ]
وتصـل الدورة الحـضارية إلى نـهايـتـها عنـدما تـفـقـد الحـضـارة (روحها)، أي الـمثل والفضائل التي أسستها، فإذا فقدت من واقع المجتمع والفرد، كمفهوم على مستوى التصور، أو كتمثل على مستوى السلوك، يحدث انقلاب في مسيرة الحضارة، "فإذا حدث هذا الانقلاب، انهار البناء الاجتماعي، إذ هو لا يقوى على البقاء بمقومات الفن والعلم والعقل فحسب؛ لأن الروح وحده هو الذي يتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم، فإذا سقطت الروح سقطت الحضارة وانحطت؛ لأن من يفقد القدرة على الصعود يهوي بتأثير جاذبية الأرض.
وعندما يبلغ مجتمع ما هذه المرحلة، أي عندما تكف الرياح التي منحته الدفعة الأولى عن تحريكه، تكون نهاية (دورة) وهجرة حضارة
>[1] ، إلى بقعة أخرى، تبدأ فيها دورة جديدة طبقا لتركيب تاريخي جديد"
>[2] .
وهذه التعاقبية والتداولية، ليس لها من منطق يحكمها سوى توفير الشروط، التي توطن الحضارة، أو وجود نقائضها التي تدفعها إلى الهجرة من موطن إلى آخر.
والحضارة الناشئة هي تلك التي تحقق شروط استقبال الحضارة، وتوطينها، فتكون بذلك مستعدة لأن تدفع بمسيرة البشرية نحو الحركة من جديد.
[ ص: 81 ]
وهي في اندفـاعها هـذا، لا يمكن أن تبدأ بداية صفرية، بل تستند إلى ما خلفه غيرها، وهذا ما قصدناه بخاصية التراكمية، أي وجود عناصر من حضارات أخرى، تدخل في تشكيل الحضارة الجديدة الناشئة.
وبناء على ما سبق، فكل حضارة لا بد لها من روافد، ولكن سيطرة حضارة ما، واتساع دائرة إشعاعها في العالم، زيادة على القراءة المؤدلجة (نسبة إلى الأيديولوجيا) للتاريخ والواقع، قد يخفيان جذورها، ويظهرانها بطريقة مجافية للواقع والتاريخ، في صورة الكيان المستقل بذاته، على حد تعبير أولئك الذين يصبغون على الحضارة وصف الأسطورة، فيقال مرة الأسطورة الإغريقية، ويقال أخرى الأسطورة الغربية... وهكذا.
والحضارة الغربية، التي نحن بصدد الحديث عنها هنا، لا تخرج عن هذه القاعدة، فهي محكومة بخاصيتي (التداول) و (التراكم)، فقد جاءت خلفا للحضارة الإسلامية، ولم تكن أبدا - مهما حاول ذوو النظرة العنصرية الإنكار- منطـلـقـة من الـصـفر، أو ناتـجـة عن تـولـد ذاتـي!! .. بل راكمـت في أصولها على ما خلفه غيرها.
ومن هنا وجدنا الباحثين الجادين، غربين وغير غربيين، يقومون بحفريات، تتفاوت من حيث العمق، للبحث عن جذور الحضارة الغربية، ومن ثم تقديم تفسيرات لطبيعة القيم التي تـحـكمها وتوجـه سـلوكها، إن في بعدهـا الثقافي أو الاقتصادي أو السياسي...
[ ص: 82 ]
وسنشير في هذا المقام إلى نموذجين من هذه الحفريات... أحدهما من داخل الفضاء الغربي، يقدم ملاحظاته وهو مهموم بمصير الحضارة الغربية، والثاني من داخل الفضاء الإسلامي، يقدم ملاحظاته وهو مهموم بمصير الحضارة الإسلامية... اخترناهما لتكون لدينا رؤية من داخل الحضارة الغربية وأخرى من خارجها.
- أما الأول فـهو الفيـلسـوف الفـرنـسـي (روجيه غارودي)، في كتابه: (في سبيل حوار الحضارات)..
ففي سياق تعريفه بالغرب، يرفض غارودي الوهم القائل بأن الحضارة الغربية معجزة ذاتية، أي أن وجودها منها، لم يكن لغيرها مساهمة ولا إضافة إلى هذا الوجود.
فهو يرى أن هذه قراءة مغرضة للتاريخ، وتزييف للحقائق، خصوصا عندما تتخذ شكل مراوغة ومخادعة للقارئ، حين يتم إيهامه بعرض مكونات الحضارة الغربية منفصلة عن جذورها.
يقول غارودي: "إنني لا أحب لفظة (الغرب)، وقد حملوها عددا كبيرا من التعريفات التي خدمت قضايا مشبوهة في تقسيم العالم، ويؤكد (بول فاليري) على أن (أوربة) وليدة تقاليد ثلاثة:
- في المجال الأخلاقي: المسيحية، وبوجه أدق الكاثوليكية.
- في مضمار الحقوق السياسية والدولة: تأثير موصول للقانون الروماني.
- في حقل الفكر والفنون: التقليد الإغريقي.
[ ص: 83 ]
فلم نفصم هذه (التيارات) الثلاثة عن منابعها؟ إنهم يخلقون على هذا المنوال وهما أن (الغرب) هو بدء مطلق، وأنه انبجس مثلما يظهر نبات نمتنع عن تتبع جذوره، انبجاس كائن فريد وحيد، بنوع معجزة تاريخية"
>[3] .
ثم قام غارودي بتتبع هذه التيارات الثلاثة، وصولا إلى منابعها، ليضع أمامنا أن البداية الأوروبية لم تكن حقيقة من الإغريق بعيدا عن التأثير الفارسي، كما لم تكن من الرومان بعيدا عن التأثير الإغريقي، وكما لم تكن أيضا من المسيحية مفصولة عن أصلها الشرقي، وإن تلوثت بالفكر الإغريقي
>[4] .
فـغـارودي لا يريد هـنـا أن يفـند وهم الأسطـورة الغـربـيـة فـحـسـب، وإنما يتأسف كذلك على الفرص التي ضيعتها الحضارة الغربية، حين ادعى أصحابها أن حضارتهم في غنى عن الأخذ من (الآخر)، كما كانت في بدئها غنية بجذورها الذاتية.. ففاتتها فرص تاريخية، كان بإمكانها أن تقلل من الاختلالات التي تطبع حاضرها، وتنذر بخراب مستقبلها
>[5] .
- أما الأنموذج الثاني فهو للمفكر الجزائري مالك بن نبي، في كتابه (وجهة العالم الإسلامي).
[ ص: 84 ]
ففي سياق الحديث عن الاتصال الأول بين أوروبا والعالم الإسلامي، عمد بن نبي إلى تفكيك بنية الغرب المتمثل في أوروبا، وذلك من خلال التنقيب عن الجذور الأولى المحددة لشخصية الإنسان الغربي، في سلوكه الفردي والأسري والاجتماعي، ثم لاحقا في سلوكه مع بقية الشعوب خارج الفضاء الغربي، وبالأخص العالم الإسلامي.
فبين أن علاقته بالأرض، منحته سلوك الاستقرار، وأثرت في تعامله مع الزمن والتفاعل مع الظروف الطبيعية، وكان لذلك انعكاس على أسرته وعلاقتها ببقية الأسر.
>[6]
كانت تلك أسسه الأولى.. "ثم تفد إليه تعاليم المسيح وفلسفة ديكارت لتكمل هذه الصورة، فتمده الأولى بالاتجاه نحو العموم، وبذلك تمنحه ما كان يفتقر إليه استقراره من حركة ونشاط، وتنظم الثانية ضروب نشاطه الأساسية تنظيما علميا، كي تدفعه دفعا مستمرا إلى الازدهار الصناعي الذي سينتج عن تطوره.
في هذا المجتمع ذي الفضائل الجذبية، الأثرة، التي سنت التعاون وجهلت سنة الضيافة، أودعت المسيحية (خميرة) التوسع الأخـلاقي، الذي استخدم فيما بعد ذريعة للحروب الصليبية والمشاريع الاستعمارية.
حتى إذا جاءت الحروب الصليبية، وجدنا الحضارة الأوروبية تخرج عن حدودها لتجني حصادا طيبا من الحضارة الإسلامية، ودفعتها هذه الاتجاهات
[ ص: 85 ] أيضا إلى اكتشاف أمريكا، وهنا نشهد انفصالا عميقا بين أوروبا التي صارت صاحبة الكلمة العليا وبين بقية الإنسانية، وهو انفصال يفسر لنا سياسة العالم منذ أربعة قرون، كما يفسر لنا الاختلال الراهن في أوضاعه السياسية؟"
>[7] .
هكذا إذن كانت الحضارة الغربية في جذورها، وسواء أخذنا برؤية غارودي أو بن نبي، وهما تتقاطعان وإن اختلفتا من حيث العمق، لاختلاف المكان الذي يقف فيه كل منهما، فإن المشترك في الرؤيتين هو التأكيد على التحـول الذي وقـع في تلك الجذور، بحيث أصبحت الحضارة الغربية على ما هي عليه الآن.
وقـصـة هـذا التـحـول لا يمكن تفصيلها في هذا المقام، فدراستنا هذه لا تتسع لذلك
>[8] ، ولكن نعطي النتيجة التي آلت إليها هذه الحضارة، كما تنبأ بها بعض الفلاسفة في بداية القرن العشرين، أو كما سجلها من عايشوا تحقق تلك النبوءات.
فقد رأى (اشبنغلر) أن الحضارة الغربية انتهت أو ستنتهي إلى أن تكون تربتها مستنزفة ميتافيزيقيا
>[9] ، وهو ما عبر عنه آخرون بتمركزها حول المادة
[ ص: 86 ] وخـلـوها من الروح، بل تـحولـهـا إلى حـضـارة اللا معنى
>[10] ، حضارة الضياع، أو بتعبـير غارودي: "حـضـارة وحـدانية السوق"، التي لم تعد تنظر للإنسان إلا على أنه منتج أو مستهلك
>[11] .
وانطلاقا من تلك الجذور، ثم هذا التحول والمآل الذي آلت إليه الحضارة الغربية، يمكننا أن نتبين طبيعة القيم الغربية، التي استندت إليها في تسويق منتجاتها، المادية منها والمعنوية.