1- تيار الذوبان:
وهو أخطر رد فعل واجه به المسلمون حضارة الغرب، وقد جسد بشكل كبير ذلك القانون الذي حدثنا عنه ابن خلدون، وهو يحلل العلاقة بين الغالب والمغلوب، فقال: "المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غـلبها وانـقادت إليـه، إمـا لنـظـره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، وإنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقاد انتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت
[ ص: 108 ] به، وذلك هو الاقتداء، أو لما تراه، والله أعلم، من غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب، تغالط أيضا بذلك عن الغلب، وهذا راجع للأول، ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه، في اتخاذها وأشكالها بل في سائر أحواله"
>[1] .
فالمسألة كلها ـ كما لاحظ ابن خلدون بحق ـ نفسية، أساسها (الولع)، و (المغالطة)... فالولع ميل أقرب للتشهي منه إلى الاختيار العقلاني المبرر، والمغالطة التفاف على المشكلة، وعدم الرغبة في البحث عن الأسباب الحقيقية للهزيمة.. ثم تنتهي هذه الحالة النفسية، إلى التماهي مع الآخر والذوبان وانتحال عوائده وتقليده في زيه وشعاره وسائر أموره.
تلكم هي إذن آلية المغـلـوب في التـعـامـل مع الهزيـمة، ويبدو أنها الحالة التي تكون في لحظة الصدمة، حيث يتعطل العقل وتتحرك غريزة حب البقاء والدفاع عن الذات، فتخطئ الطريق بما تتلبس به من ولوع ومغالطة.
وجزء كبير من نخبة العالم الإسلامي سلكت الطريق ذاته وهي تتعامل مع الحضارة الغربية، فمنذ القرن التاسع عشر وإلى الآن ظهر في الأمة تيار الذوبان في الآخر والاندماج في حضارته، وانتحال قيمه وسلوكه وعوائده.
مثل هذا التيار بدرجات متفاوتة (سلامة موسى) و (طه حسين )، وامتداداتهما - في العقود المتأخرة - مع دعاة التماهي مع الغرب، والهويات المفتوحة، والمثاقفة، وغيرها من الشعارات التي ظاهرها الرحمة وباطنها من قبله العذاب!!
[ ص: 109 ]
وإذ لا يمكننا أن نتناول جميع هؤلاء الداعين إلى الذوبان في الآخر، فسنكتفي بواحد منهم، نظن أن مقولاته تشكل أنموذجا واضحا عن هذا الاتجاه... أعني بذلك الدكتور طه حسين.
فعميد الأدب العربي، كما بدا في بدايات حياته، كان مندفعا اندفاعا قويا نحو تبني أفكار عصر التنوير، باعتبارها المخرج مما تعاني منه الأمة، من تخلف حضاري.. وبدا في اندفاعه ذاك صادما للأمة وموروثها بطريقة حركت ضده خصومات كثيرة، بحق وبباطل، من أولئك الذين يدافعون عن كيان الأمة وثوابتها، ومن أولئك الذين يدافعون عن التخلف وأسبابه... فنوقش علميا، كما تعرض للتخوين والتكفير!!
ونحن هنا نشير إلى أهم مقولاته، التي مثلت تيار الذوبان في الآخر والانبهار بقيمه
>[2] .
عرض الدكتـور طـه حسـين أفكاره التنويرية من خلال كتابين، كان لهما وقـع كبـير في الحيـاة الثقـافية المصرية، والعربية عموما، وذلك في بداية القرن العشرين.
الكتاب الأول: "في الشعر الجاهلي"، عام 1926م، والكتاب الثاني: "مستقبل الثقافة في مصر"، عام 1937م.
[ ص: 110 ]
- ففي كتاب (في الشعر الجاهلي) والذي أعاد إخراجه بعد ذلك تحت عنوان (في الأدب الجاهلي)، أعلن أنه سيتبنى المنهج الديكارتي في الشك، لبحث قضية الشعر الجاهلي، يقول: "أريد أن أقول: إني سأسلك في هذا النحو من البحث مسلكا المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة، أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج، الذي استخدمه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث، والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج، أن يتحرر الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما"
>[3] .
ثم يضيف: "يجب حين نستقبل البحث في الأدب العربي وتاريخه، أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها، وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به، وأن ننسى ما يضاد هذه القومية وهذا الدين، ويجب أن لا نتقيد بشيء، ولا نذعن لشيء، إلا مناهج البحث العلمي الصحيح"
>[4] .
هكذا انطلق طه حسين في بحثه، مصطنعا منهج الشك، الشك في كل شيء، رافضا أية مرجعية لا تخضع لسلطان العقل.
[ ص: 111 ]
وليس يعنينا هنا مناقشة الرجل في أفكاره، ولا في اختياره لمنهج الشك الديكارتي، فقد قتلت المسألة - كما يقال - بحثا... وإنما غرضنا أن نرى مقدار الحماسة التي كان الرجل يندفع بها، وهو يتبنى مقولات عصر التنوير، الذي قد تجاوزته أوروبا في ذلك الحين إلى عصر الحداثة
>[5] .
- أما في الكتاب الثاني (مستقبل الثقافة في مصر)، فقد بدا طه حسين، صاحب مشروع تنويري واضح المعالم، حيث صاغ أفكاره في خطة محددة بغاياتها ومنطلقاتها فلسفيا، ووسائل تحقيقها عمليا.
فكانت عباراته صريحة في ربط مصر، تاريخا وحاضرا ومستقبلا، بالحضارة الغربية، بل لا يرى مخرجا من التخلف إلا بالتماهي والذوبان في الآخر.
ويمكننا من الزاوية التي نتناول منها الموضوع هنا أن نقول: إن من الأفكار الأساسية - إن لم نقل هي الفكرة الأساس - في الكتاب هي كيفية النهوض بمصر من خلال إلحاقها دون تحفظ بالغرب... وهي الفكرة التي أفصح عنها في الفصل التاسع، فكان كل ما ذكره قبلها من قبيل المقدمات والحجج، وما ذكره بعدها من قبيل النتائج المتوقعة، أو بيان الوسائل والطرق.
يقول في الفصل التاسع: "وجوب الصراحة في الأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية، لكن السبيل إلى ذلك ليس في الكلام، ولا في المظاهر الكاذبة الملفقة، وإنما هي واضحة بينة مستقيمة، ليس فيها عوج والتواء، وهي واحدة
[ ص: 112 ] ليس لها تعـدد، وهـي: أن نسـير سيرة الأوروبيـين، ونسلك طريقهم، لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب... من زعم غير ذلك فهو خادع أو مخدوع"
>[6] .
هذه هي الغاية التي يتوخاها ويحرص عليها، ويسعى جاهدا لحمل مصر على الوصـول إليـها، هي أن نتـماهى ونذوب مع الغرب في حـضارته، هكذا بلا تحفظ، خيرها وشرها، فيما يحمد فيها ويعاب!!!
وهو لا يرى نفسه يدعو إلى بدعة أو أمر مستنكر، بل حاول قبل هذا الفصل وبعده أن يدلل على صواب ما ذهب إليه بحماس ويقين، إلى درجة أن كل من رأى خلاف ذلك، فهو إما خادع سيء النية أو مخدوع ضعيف العقل!!
ولهذا وجدناه يقدم لفكرته هذه بمقدمات، نكتفي بطرحها كعناوين، ونحيل من يطلب التفصيل إلى أصل الكتاب، إذ ليس التفصيل والمناقشة من غرضنا في هذا المقام... من هذه المقدمات ما يلي:
1- الثقافة والعلم أساس الحضارة والاستقلال (وهي مقدمة عامة) ص15.
2- هوية مصر مرتبطة بماضيها البعيد، المرتبط بالغرب أكثر منه بالشرق، ص 18-20.
[ ص: 113 ]
3- تقارب أو تماثل العقل المصري والعقل اليوناني، وتأثر كل منهما بالآخر، ص 21 .
4- العقل المصري لم يتأثر تكوينيا بالقرآن ولا بالإسلام، ص26 .
5- المجتمع المصري اندمج عمليا في الحضارة الغربية، ولم يبق إلا أن يندمج فكريا وقيميا، ص31 .
6- من أراد الغاية فقد أراد الوسيلة، فلا معنى لأن نطلب تطور الغرب ثم لا نسلك مسلكه، ص40-41.
7- لا خوف على هويتنا من الذوبان (لا خطر من الاتصال القوي بأوروبا على شخصيتنا)، ص 49-50.
8- لا قيمة لمن يعترض على دعوته بدعوى مادية الحضارة الغربية، وزهد أصحابها فيها وطلبهم الغذاء في غيرها، ص 51.
هذه هي أهم النقاط التي برر بها (د. طه حسين) دعوته الصريحة إلى الأخذ - بلا تحفظ- بالحضارة الغربية.. ومع أننا لا نريد أن نناقشه في كل هذه النقاط، إلا أننا سننبه إلى مغالطتين، ساقهما في ثنايا كلامه، ولا زالتا رائجتين عند دعاة هذا التيار.
الأولى: استشهاده بالتجربة اليابانية، فاليابانيون - على حد زعمه - أخذوا بأسباب الحضارة الغربية ولم يذوبوا في الغرب.
وهذا استدلال غريب؛ لأنه ينقض دعوته من أساسها، إذ اليابانيون انطلقوا نحو الغرب طلبا للتحديث، دون أن يتماهوا مع الأنموذج الغربي، ودون أن يأخذوا الحضارة بحلوها ومرها، كما يدعونا إلى ذلك طه حسين!!
[ ص: 114 ]
فعميد الأدب العربـي، لـم يـحسن قـراءة التـجربة اليـابانيـة، بل نظر إليها بسطحية، اكتفى منها بالمـظـاهر، ورأى النـتـائـج ولـم يـر المقدمات!.. فلا غرابة أن لا يتوافق مصيرنا ومصير اليابانيين، وقد سلكنا الدرب ذاته، بل سبقناهم إليه بسنوات!!
يقول مالك بن نبي - مبينا ما خفي عن طه حسين في الفرق بين التجربتين -: "إن اليابان قد بنى مجتمعا متحضرا، وهو قد دخل الأشياء من أبوابها، وطلب الأشياء بوصفها حاجة، درس الحضارة الغربية بالنسبة لحاجاته وليس بالنسبة لشهواته، فلم يصبح من زبائن الحضارة الغربية، يدفع لها أمواله وأخلاقه، أما نحن فقد أخذنا منها كل رذيلة، وأحيانا نأخذ منها بعض الأشياء الطيبة التي قدر الله لنا"
>[7] .
الثانية: استشهاده بما قام به المسلمون في بداية حضارتهم من اقتباس من الحضارات الأخرى دون عقدة.
وهو هنا أيضا اكتفى من المسألة بسطحها ولم يتعمق في الظاهرة، ويضعها في سياقها التاريخي، وشروطها الكفيلة بإنجاحها.
هل كان المسلم في بداية حضارته، يعاني ما يعانيه الآن من عقدة نقص تجاه الغالب؟ أم أنه كان صاحب شخصية قوية، ونفسية متزنة، وعقل متيقظ، كل ذلك في ظل شعور يقيني بأنه يحمل ينبوع الهداية والرشاد؟
[ ص: 115 ]
هذا ما سمح لنا به المقام، من ملاحظات على دعوة طه حسين، وكان يمكن أن تتجاوز كحدث تاريخي، وأفكار انتهت ظروفها، خصوصا وقد تراجع صاحبها عن الكثير منها
>[8] ... ولكننا ما زلنا نجد لدى تلاميذ هذه المدرسة من يدعونا إلى ما دعا إليه طه حسين في الثلث الأول من القرن الماضي، سواء بإعادة الدعوة إلى التماهي مع الغرب بالمطلق
>[9] .. أو بتسفيه دعاة الهوية واعتبارهم متعلقين بالوهم
>[10] ... وهي الدعوات التي تتبناها التيارات الليبرالية والعلمانية عموما.