3- تيار الاستيعاب الواعي:
وهذا هو التيار الذي نعتقد أنه استطاع أن يخرج من دائرة الصدمة، فتخلص من الانبهار الذي انحرف بالتيار الأول، ومن اليأس الذي استبد بالتيار الثاني. [ ص: 118 ]
فهو تيار يحاول أن يكون استجابة عقلية واعية على التحديات التي فرضها علينا التعامل مع الغرب بحضارته وحداثته.. فاتخذ موقفا مركبا، قوامه استيعاب القيم الغربية، وغربلتها في ضوء منظومتنا القيمية.
وهذا التيار هو الذي ينادي عادة بضرورة الجمع بين الأصالة والمعاصرة... إذ يتخذ من الأصالة قاعدة للتفاعل مع المعاصرة، بما فيها من قيم أنتجتها الحضارة الغربية.
وهو ينطلق في موقفه هذا من محددين أساسين:
الأول: الاعتزاز بهويته الذاتية:
إذ يرى أن الهوية الذاتية، هي قاعدة الاستفادة الحقة من الآخر، وهو بهذا يستدرك ما فات تيار الذوبان في القيم الغربية، ويرفض فكرة الهويات المفتوحة أو التي ليس لها شكل ثابت.. بل يرى أن الهوية من أخص خصائصها أنها ترتكز على ثوابت، لا يمكن أن تخضع للنقاش ولا للمراجعة.. وهي التي تكفل هنا الندية في كل حوار أو اتصال أو مثاقفة.
الثاني: الانفتاح على المشترك الإنساني:
إذ يرى أن البشر، بحكم اشتراكهم في الأصل الإنساني الواحد، وإن اختلفت منظومات قيمهم، إلا أن هذا الاختلاف لا يعدم وجود نقاط اشتراك يمكن الاستفادة منها.. وهو بهذا يستدرك ما فات تيار الرفض المطلق للقيم الغربية، ويرفض فكرة الخروج من الزمن، بالتحصن بالذات، أو ما يتوهم أنه يشكل مقومات الذات. [ ص: 119 ]
هذا التيار بدأت بذوره مع المصلحين الأوائل، ممن تميزوا بفهم صحيح للدين، وإدراك سليم للواقع.. ثم تعزز بعد ذلك مع أجيال المفكرين المستنيرين في العالم العربي والإسلامي، ممن يرون ضرورة إعادة بعث الأمة وإعادتها مرة أخرى للتاريخ، انطلاقا من تفعيل منظومتنا القيمية، بما تقتضيه طبيعة تلك القيم ذاتها، وبما يقتضيه العصر.
بيد أن هذا التيار، على ما فيه من إيجابيات، ما يزال يحتاج إلى جهد تنظيري ضخم، يمكنه من بناء الأرضية الصلبة التي تساعده على الوقوف باتزان بين التراث والمعاصرة.. بين الأصيل والدخيل.. إذ وتحت ضغط الواقع، قد يميل هـو أيضـا من حـين لآخـر، مرة تـجاه الأصيل فيقترب من المحافظة أكثر، وأخرى تـجـاه الدخـيل فيـقترب من التغريـب أكثر... وقد يلجأ حينا آخر - بوعي أو بغير وعي - إلى التلفيق بين عناصر من هذا ومن ذاك!!!... ولكنها عثرات، لا تحول بينه وبين أن يكون أمل الأمة في استعادة نقطة الارتكاز الصحيح، كما فعل أسلافنا الأوائل في فجر حضارتنا، حين وقفوا معتزين بقيمهم، غير هيابين من استيعاب قيم (الآخر). [ ص: 120 ]
التالي
السابق