الفصل الثالث
الإسلام والديمقراطية
المبحث الأول: الشأن السياسي ومكانته في الإسلام
هل في الإسلام قواعد ناظمة للشأن السياسي؟ أم هو مجرد رسالة روحية، هدفها الأسمى توثيق صلة العبد بخالقه؟...
لم يكن هذا السؤال مطروحا على العقل الإسلامي، إلى أن جاء الشيخ علي عبد الرزاق بكتابه: (الإسلام وأصول الحكم، 1925م)، فطرحه، فكان سؤاله كالقنبلة العنقودية، إذ منها تولدت أسئلة كثيرة، حول الشأن السياسي في الإسلام، من حيث إثبات وجوده أولا ثم بيان نسبته إلى بقية الأنظمة.
كان الكتاب صغير الحجم، بيد أنه أثار من الضجة واللغط، كما قال أحد الباحثين، مالم يثره كتاب آخر منذ أن عرفت الطباعة طريقها إلى بلاد المسلمين.
>[1] [ ص: 121 ]
ويبدو أن أهمية الكتاب، لا تكمن حقيقة في الفكرة التي تناولها، بقدر أثر تلك الفكرة في السياق الذي ظهرت فيه، مما جعلها تضع الأصبع على الجرح، وتوقظ ما كان نائما من إشكالات، غابت عن العقل المسلم منذ عقود طويلة.
والفكرة إذا صادفت ظروفا معينة، قد تحدث ما لم يكن متوقعا من الأثر، حتى عند الكاتب نفسه!! وكذلك كان بالنسبة لهذه "الأوراق" التي كتبها القاضي الأزهري الشيخ علي عبد الرزاق، إذ تحولت إلى حجر ألقي في بركة التفكير الإسلامي الراكدة، فحركت سواكنها، بل فجرت إشكالات لازلنا نعيشها إلى الآن، فيما نسمعه ونقرؤه من تقاذف بالاتهامات بين (الإسلاميين) و (العلمانيين) !!
وليس يعنينا هنا البحث تفصيلا في أطروحة الكتاب ولا مناقشة كاتبه، ولا أيضا البحث في الظروف التي صاحبت صدوره في الربع الأول من القرن العشـرين، فـقـد قـتـلـت المسـألتان بحثا، من شتى التيارات والتوجهات
>[2] ، وإنما يعنينا أن ننوه بأثره -كما قلنا- في إثارة النقاش، وتوليد الأسئلة، وإن لم نتفق
[ ص: 122 ] معه فيما ذهب إليه إجمالا من تجريد الإسلام - أو هكذا نفهم من كتابه-
>[3] عن البعد السياسي.
ولا تزال حقيقة الأسئلة التي أثارها على امتداد كتابه الصغير، هي مثار نقاشات التيارات التي تقسم الساحة الفكرية والسياسية في العالم العربي.
يقول: "إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسس دولة سياسية، أو شرع في تأسيسها فلماذا خلت دولته إذن من كثير من أركان الدولة ودعائم الحكم؟ ولماذا لم يعرف نظامه في تعيين القضاة والولاة؟ ولماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟ ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب في أمر النظام الحكومي في زمنه؟ ولماذا ولماذا! نريد أن نعرف منشأ ذلك الذي يبدو للناظر كأنه إبهام أو اضطراب أو نقص، وكيف كل ذلك؟ وما سره؟"
>[4] .
[ ص: 123 ]
وإنما اخترنا هذه الفقرة لسببين:
أولا: لأنها تعج بالأسئلة التي أدار حولها علي عبد الرزاق أطروحته على امتداد كتابه.
وثانيا: لأنها ترمز إلى الخطأ المنهجي، الذي يقع فيه البعض عن جهل، ويستخدمه البعض الآخر عن علم ليغالط به الناس.
أما الأسئلة فلا يعنينا هنا الإجابة عنها، وقد كفينا في ذلك بمن رد عليه من علماء عصره ومن أتى بعدهم من الدارسين والناقدين
>[5] ، زيادة على أنها تقع خارج مقصدنا في هذا المبحث.
والذي يعنينا حقا، هو الخطأ المنهجي الذي أشرنا إليه، لأننا سنجعله مدخلا لما نريده في هذا المبحث، وهو تحديد المبادئ أو الكليات التي يقوم عليها الشأن السياسي في الإسلام.
ولكن لنرجئ الحديث عنه إلى حين الإجابة عن سؤال: (هل في الإسلام نظام سياسي؟) أو بعبارة أخرى: هل اهتم الإسلام بالشأن السياسي كاهتمامه ببقية شؤون الإنسان؟
إن جـوابنا عن هذا السؤال، لن يكون إلا بالإيجاب؛ لأننا فصلنا القول في الفصل الأول في خاصية الاستيعاب الحضاري، التي تميز بها الإسلام، فبينا أن الله تعـالى وقـد اقـتضت حكمته أن يختم رسالاته بما أوحاه إلى سيدنا
[ ص: 124 ] محمد صلى الله عليه وسلم فكان من مقتضيات هذه الخاتمية أن تكون الشريعة الخاتمة مصاغة بطريقة تمكنها من استيعاب الشأن الحضاري للإنسان، الواقع منه والمتوقع، إلى نهاية الحياة على هذه الأرض.
ولما كان النشاط السياسي، من أهم وأبرز مناشط الإنسان، كان من الطبيعي والبديهي - على عكس ما يستبعده العلمانيون- أن تأتي الشريعة مستوعبة لهذا المجال من مجالات الحياة الإنسانية.
إذ لا يعقل أن تتناول أحكام الإسلام أمورا بسيطة، قد لا يكون لها كبير أثر في حياة الإنسان، ثم تهمل الشأن السياسي، الذي يعبر من خلاله الإنسان عن حركته في تعمير الأرض، والاضطلاع بمهمة الخلافة؟
من هنا وجدنا المسألة، في عداد المسلمات، لدى جمهرة العلماء، إلا من شذ متأثرا بشبهات بعض المستشرقين
>[6] ، أو منبهرا بما رآه عند الآخرين من نظم أعجب بظاهرها وغفل عن خلفياتها الفلسفية، أو موظفا لهذه الفكرة في معـركة سـيـاسـيـة أو إيـديـولوجيـة، فهو يـتـنـكب الحـق الـواضـح، طلبا للغلبة ولو بالباطل والمغالطات!!
وهي عندهم من المسلمات، لأنهم ينطلقون في بيانها من خاصية الشمول المستوعبة للشأن الإنساني -كما قلنا- وهو من مقتضيات الخاتمية، وهي من ثم دليل من أدلة صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.
[ ص: 125 ]
يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف: "السياسة العادلة لأية أمة هي تدبير شؤونها الداخلية والخارجية بالنظم والقوانين التي تكفل الأمن لأفرادها وجماعاتها والعدل بينهم، وتضمن تـحـقـيـق مصالحهم وتمهيد السبيل لرقيهم وتنظيم علاقتهم بغيرهم.
والإسلام كفيل بهذه السياسة، تصلح أصوله أن تكون أساسا للنظم العادلة، وتتسع لتحقيق مصالح الناس في كل زمان وفي أي مكان.. وبرهان ذلك أمران:
أحـدهما: أن الأصـل الأول والمصدر العام للإسلام وهو كتاب الله تعالى لم يتعرض فيه لتفصيل الجزئيات، بل نص فيه على الأسس الثابتة والقواعد الكلية التي يبنى عليها تنظيم الشؤون العامة للدولة، وهذه الأسس والقواعد قلما تختلف فيها أمة عن أمة أو زمان عن زمان، أما التفصيلات التي تختلف فيها الأمم باختلاف أحوالها وأزمانها فقد سكت عنها لتكون كل أمة في سعة من أن تراعي فيها مصالحها الخاصة وما يقتضيه حالها.
والثاني: أن الإسلام أبان بكثير من أحكامه وحكمه وآياته أن غايته هي تحقيق مصالح الناس ورفع الضرر عنهم، ومقصوده إقامة العدل بينهم ومنع عدوان بعضهم على بعض".
>[7] [ ص: 126 ]
فالمسألة عند هذا الفقيه الأصولي، كما عند غيره من علماء الإسلام، واضحة، لمن أدرك طبيعة الإسلام والخاصية الاستيعابية التي يتميز بها، إذ بنيت أحكامه -والسياسة جزء منها- على الأصول والكليات، لأنه أساسا -كما سبق بيانه في الفصل الأول- جاء خطابا للإنسان بالمطلق، ولم ينص على الجزئيات؛ لأنها من قبيل الخصوصيات، التي تتلون بحسب الزمان والمكان والبيئات.
فالشأن السياسي، جزء من منظومة التشريع، الذي جاءت به الشريعة الخاتمة، لتساير ما يتجدد من شؤون الإنسان.
فتأسست على الأصول الثابتة والتي كما شرحنا آنفا، انبنت على (الفطرة)، ذلك الجوهر الثابت في بني الإنسان.
وأفسـحـت بعـد ذلك المجـال للتغـير والتـكيـف مع متغـيرات الواقع، الذي يلاحق فيه الإنسان كل جديد، فيخترعه أو يستفيد من غيره.
نخلص من هذا، أنه لا ينفي احتواء الإسلام على نظرية سياسية إلا من له خلل في استيعاب شمولية الإسلام، وقدرته على تأطير حركة الإنسان، وهو يرتاد آفاق الحضارة في كل زمان ومكان.
فـتـنـاول الشريعـة للشـأن السـيـاسـي ليـس دخـيـلا على الـنـظـم الـتي جـاء بها الإسلام، إذ هي من مقتضيات شموليته المستوعبة، كما أنها من مقتضيات المصلحة التي تهدف هذه الشريعة لتحقيقها في دنيا الإنسان -إن قصرنا السياسة على مراعاة المصلحة الدنيوية فقط- وآخرته إن نحن أخذنا بعين الاعتبار طبيعة الفعل الإسلامي، المبني على فلسفة لا تفصل بين ما هو ديني
[ ص: 127 ] وما هو دنيوي، بل حركة الإنسان كلها في مبدئها ومنتهاها يجب أن تكون لله تعالى، أخذا وانتهاء، أخذا لشرعه وانتهاء بأن نقصده دون سواه بالعمل، قال تعالى:
( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) (الأنعام:162).
ثـم إن الشأن السياسي، وإن كان منهجيا، يصنف ضمن فروع الشريعة لا أصولها، إلا أنه يكتسي أهمية كبيرة على اعتبار أن العديد من المصالح الدينية والدنيوية مناطة به، إذ به ينتظم أمر المجتمع، وبانتظامه يستقيم أمر الحياة
>[8] .
وتأكيدنا لهذه المسالة، يستتبع سؤالا آخر، عن معالم هذه النظرية السياسية، التي جاء بها الإسلام في المجال السياسي، وهو ما سنتناوله في العنصر الموالي.