أولا: تقدير أصحاب التخصصات، وسؤال أهل الدراية:
ميز الله كل إنسان بمواهب وقدرات وطاقات مختلفة عن غيره، وحث الإسلام على اكتشاف هذه المواهب والقدرات وعلى تفجير تلك الطاقات، واستثمارها في تنمية التخصصات التي تعمر الحياة وتقوم بأعباء الاستخلاف،
[ ص: 11 ] إذ أن وضع الإنسان في تخصصه المناسب يجعل فاعليته كبيرة ويعظم إمكانات الاستفادة الكبيرة منه .
عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : "كل يعمل لما خلق له، أو لما يسر له"
>[1] ، أي أنه ينبغي لكل إنسان أن يكتشف مواهبه المخبوءة وكفاياته المطمورة، فينميها ويستثمرها في عملية البناء من خلال المهنة التي يعمل فيها، فإن فاعليته حينئذ ستصبح مضاعفة؛ إذ سيصبح العمل محبـوبا بسـبب الموهبة، وسـهلا بسـبب الخبرة، وربما كان هذا هو المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم : "ميسر لما خلق له"
>[2] ، ولقد قال الله لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم :
ونيسرك لليسرى (الأعلى:8) أي سنيسرك لما خلقك الله من أجله، ومن المؤكد أن ذلك مرهون بقيام محمد، عليه السلام، بكل مستطاع في الترقي بنفسه والقيام بما أمر به، ولقد فعل ذلك حقا حتى قال له الله
طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (طه:1-2) ، إذ ما زال يعد نفسه وينميها حتى كاد أن يهلك نفسه .
ويدخل من ضمن معاني قوله تعالى:
قد أفلح من تزكى (الأعلى:14) معنى تنمية المواهب وتطوير القدرات؛ لأن التنمية من المعاني اللغوية للتزكي بجانب التطهر، ومن المعلوم أن الإسـلام لا يفصل في الفلاح
[ ص: 12 ] بين الدنيا وبين الآخرة، ذلك أن الفلاح الدنيوي هو طريق الفلاح الأخروي، ما دام قد أراد به وجه الله تعالى.
وينبغي أن نعي هنا أن الاستفادة من أصحاب المعرفة والتخصص وأولي الخبرة والدراية، ليست مقصورة على الأفراد في إطار المجتمع الإسلامي، بل يمكن للمسلم أن يستفيد من غيره، سواء كان فردا أو مجتمعا، كائنا أو كيانا، انطلاقا من ذات الأصل السماوي، فإن الاستفادة من أصحاب الخبرة، الذين جمعوا بين الموهبة والتدرب، يوفر الكثير من الوقت والمال والجهد.
ومما يؤيد هذا الأمر، أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل بني إسرائيل وأن يستفيد منهم بعض الآيات والعبر، قال تعالى:
سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب (البقرة:211).
يقول الإمام الرازي: "يعني سل هؤلاء الحاضرين - من اليهود-أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها، لا جرم استوجبوا العقاب من الله تعالى، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون فيه.. والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم، كما قال تعالى:
فاعتبروا يا أولي الأبصار (الحشر:2) ، وقال تعالى:
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب (يوسف:111)
>[3] .
[ ص: 13 ] ورغم أن الإمام الرازي -في النص السابق- قد جعل الدعوة موجهة لليهود، الذين عاصروا القرآن، إلا أن الخطاب موجه للمسلمين كذلك، حيث يمكن اعتبار هذه الآية دعوة للاستفادة من الآخرين، من خلال إعمال الفكر في دراسة تاريخهم لاستخراج الدروس المفيدة، واستنباط العبر النافعة، واستثمار السنن الإلهية، في مجال عمارة المسلمين للأرض، بدلالة أن آية
فاعتبروا يا أولي الأبصار جاءت بعد إيراد قصة يهود بني النضير، الذين كانوا في حصون محصنة لدرجة ظنوا معها أنها مانعتهم من الله، لكن الله أتاهم من حيث لم يحتسبوا، بسبب كفرهم وتكذيبهم، وتآمرهم على الإسلام وأهله.
ومما يؤيد ذلك أيضا أن الله أمر رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يسأل أهل الكتاب مباشرة في أكثر من موضع، منها قوله تعالى:
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (يونس:94) ، وقوله تعالى:
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون (الزخرف:45) .
ورغم أن الإسلام شمل كل ما في الرسالات السابقة من أبعاد تغييرية وإصلاحية، وهيمن عليها بهذا الشمول من خلال هيمنة القرآن على سائر الكتب السماوية، ورغم أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو أعظم الأنبياء وخلاصة المرسلين إلا أن الله أمره أن يستفيد من إمكانات الهدى الموجودة عندهم، فقد قال تعالى بعد أن قص قصصهم عليه:
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين (الأنعام:90).
[ ص: 14 ] الجدير بالذكر أن الشيخ محمد عبده، رحمه الله، أورد هذه الآية عند تفسـيره لقولـه تعالى:
اهدنا الصراط المستقيم (الفاتحة:6) ، حيث أكد على أهميـة استـحـضار التـاريخ في فهم هداية القرآن، وأورد قوله تعالى:
ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب (الرعد:6)
>[4] .
وما زالت الآيات التي تورد قصص الأنبياء تتنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في ظروف الشدة وأوقات الحاجة ليسهل الاستفادة منها، ومع ذلك فإن كثيرا من هـذه الآيات تشـير إلى تلك الفـائدة بشـكل مبـاشر، مثـل قـولـه تـعالى:
وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين (هود:120) ، ذلك أن التاريخ يعيد نفسه، كما يقال، من حيث إن سنن الله واحدة وطبائع البشر متشابهة، ومن ثم يمكن أخذ الدروس واستنباط العبر من كافة القصص.
وإذا كان قد أمر أعظم رسول بل وأعظم رجل بالمقاييس البشرية البحتة البعيدة عن النبـوة، أن يسـأل أهـل الكتاب، الذين سبقـوه، ليستـقي الفـائدة مما بقي معـهم من حـق وصـواب، فكيف بمـن هـم دونه من الناس؟ وكيف
[ ص: 15 ] إذا كان من ينبغي الاتجاه إليهم بالسؤال اليوم هم أصحاب حضارة عظيمة تجاوزوا المسلمين بها في هذا الزمن بشكل كبير؟!
ومما يؤكد تشريع الإسلام لقضية الاستفادة من أهل الكتاب، والاتجاه إليهم بالسؤال إذا عجز المسلمون عن فهم شيء وهم يعرفونه، أن الآيتين الرئيستين في القرآن حول سؤال أهل التخصص والدراية، جاءتا في سياق الحديث عن أهل الكتاب، وقد وردتا بنفس الصيغة، وهي قوله تعالى:
وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (الأنبياء:7)
>[5] ،
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (النحل:43)
>[6] ، فإن أهل الكتاب هم أصحاب الخبرة والدراية بالأديان بينما كان العرب قد طال بهم الزمن عن رسالة إبراهيم، عليه السلام، حتى أطلق عليهم مصطلح (أصحاب الفترة) وصاروا في ضلال مبين .
ونكتشف من هذا الدرس القرآني في احترام التخصصات أن وجود شيء من الغبش في التخصص لا يلغي أهمية الرجوع إليه والاستفادة مما فيه من حق وصواب، فقد حرف أهل الكتاب التوراة والإنجيل والزبور ومع ذلك سماهم القرآن ب(أهل الذكر) وأمرنا بسؤالهم، ذلك أن معالم الحق السماوي لابد أن
[ ص: 16 ] تكون موجودة، ثم إن أصحاب الاقتباس يمتلكون غربال المقاصد، الذي يستند إلى كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا الغربال يمكنهم من استبعاد الزبد واستبقاء ما ينفع الناس.
وجاء التكرار في الآيتين بذات الحروف لإبراز الأهمية البالغة لهذا الأمر في التفاعل الحضاري بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الحضارات القوية والفاعلة، كالحضارة الغربية الآن، إذ أنها أكثر الحضارات قوة وتقدما والأقوى فاعلية وتأثيرا في هذا العصر، وقد مضت بالبشرية أشواطا كبيرة إلى الأمام في التقدم العلمي والتكنولوجي، ولم تصل إلى هذا النضج والتقدم إلا بعد حوالي ثلاثة قرون من التجريب ومحاولات النهوض؛ مما أكسبهم أركمة من الخبرات النافعة، في الوقت الذي كان المسلمون فيه يغطون في سبات عميق ويغرقون في تخلف مقيت.
وبالتالي فإن المسلمين إذا أرادوا مغادرة مربعات التخلف، التي يعيشون فيها، فإنه لا يصح أن يبدأوا من أول خطوة، بل يجب أن يبدأوا من حيث انتهى الآخرون، بمعنى أنه لابد لخبرائهم أن يدرسوا التجربة الغربية في الإقلاع الحضاري برمتها، ليعرفوا نقاط القوة فيتمسكوا بها ويبنوا عليها، وليكتشفوا نقاط الضعف فيتجنبوها ويبحثوا عن وسائل ناجعة لتجاوزها .
ويزيد وجوب هذه الاستفادة من التجربة الغربية صياغة الآيتين، حيث بدأهما الله بفعل الأمر
فاسألوا ، والأمر يقتضي الوجوب في هذه الحالة؛ لأنه لا يوجد ما يصرف الأمر إلى الندب أو الإباحة، ولا سيما أن القاعدة
[ ص: 17 ] الفقهية تقول: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، ثم إنه سمى أصحاب الخبرة والدراية في أي مجال بـ (أهل الذكر) أي أهل الشرف، وهو مصطلح جميل ينم عن تقدير للعلوم والمعارف واحتفاء بالخبرات والتجارب، كأنهم صاروا بذلك أصحاب شرف رفيع ينبغي اقتفاء آثارهم والاستفادة من طرائقهم في النهوض العلمي والرقي الحضاري!
ويعظم الله الخبرة في مواضع عديدة، داعيا للاستفادة من أصحابها الاستفادة المثلى، مثل قوله تعالى:
ولا ينبئك مثل خبير (فاطر:14) ، ومع أن الآية جاءت في سياق محدد إلا أن الله صاغها صياغة عامة، حتى يتم الاستفادة منها في سائر المفردات والقضايا، التي تدخل تحت عنوانها العام، بل أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بسؤال صاحب الخبرة والدراية، حيث قال له الله تعالى:
فاسأل به خبيرا (الفرقان:59).
ولو فتشنا قواميس اللغة العربية سنجد أن الخبرة في لغة العرب تأتي بمعان عدة، من أهمها: المعرفة ببواطن الأمور، الأرض اللينة، الأرض ذات الشجر، المعرفة بالأحوال
>[7] ، ولو تمعنا في هذه المعاني اللغوية وقارنا بينها وبين الثمار، التي تستفيدها اليوم الكيانات المختلفة من أصحاب الخبرة لوجدنا أن هذه الدلالات كلها موجودة في من يسمون بالخبراء بحق، فهم يعرفون الكثير من بواطن الأمور، التي لا يعرفها غيرهم، إذ أن المعارف تلين لهم كالأرض الرخوة،
[ ص: 18 ] حيث يغوصـون فيها بمحاريث خبراتهم باحثـين عن نفائسـها، ثم إنهم يجلبـون من منافعها الكثيرة ما تجلبه الأرض ذات الشجر الكثيف من خيرات، ومن المؤكد أن الخبراء يعرفون بأحوال الأرجاء، التي يعملون فيها، ما لا يعرفه غيرهم.
ومن ثم فإن من معاني
فاسأل به خبيرا : اسألوا الأكثر خبرة ودراية في موضوع السؤال، وعلى سبيل المثال لو فرضنا أن أمتنا تريد أن تتقدم في صناعة الإلكترونيات فإنها ملزمة بالاستفادة من خبرات اليابانيين والأمريكان لأنهم الأكثر تقدما في هذا المضمار، ولو أرادت التفوق في صناعة الأسلحة فإنها مأمورة بالاستفادة من خبرات الأمريكان والروس بالدرجة الأولى؛ لأنهم الأكثر تطورا في هذه الصناعة.
ويمكن القول: إن أمتنا مأمورة بالاستفادة من خبرات الفرنسيين في صناعة مواد التجميل، ومن السويسريين في صناعة الساعات، ومن خبرات الألمان في صناعة الأدوية، ومن خبرات الإنجليز في صناعة الثياب، ومن الإيطاليين في صناعة الأحذية والبلاط، وهكذا فإن لكل صناعة خبراءها، ولكل خبرة رجالها، الذين ينبغي أن نستفيد منهم إن أردنا الوصول إلى الذروة في عمارة الأرض وصناعة الحياة.
وما قيل في الصناعة ينطبق على العلوم الإنسانية كعلوم النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة، حيث يتفوق كل شعب من الشعوب المتقدمة في علم من العلوم، بصورة لا يضاهيه فيها أحد.
وما دامت أمة الإسلام تريد استعادة دورها الريادي فإن الإسلام يأمرها أن لا تقبل بالدون، ويدعوها للاجتهاد في الوصول نحو الذرى العالية في كل
[ ص: 19 ] صناعة وتخصص، فهي تمتلك كل الإمكانات لتحقيق هذه الغاية العظمى، سواء كانت إمكانات بشرية أو إمكانات مادية ومعدنية أو طاقة أو أراضي واسعة أو أسواق.
ومن هنا يمكن القول: إن المسلمين، أفرادا وجماعات، إذا مضوا في أفكارهم وأفعالهم إلى مفارق طرق لا يعرفون إلى أين تفضي، وإذا وصلوا إلى حواف أسئلة صعبة لا يعرفون جوابها، وفي ذات الوقت يوجد من يدرك عن علم وخبرة أجوبة تلك الأسئلة ومعالم تلك الطرق، فإنهم ملزمون بسؤالهم والاستفادة منهم مهما كانوا.. ولو قصروا في طرح تلك الأسئلة والبحث عن تلك الطرائق، وأثر هذا الأمر على تحقيق المقاصد الإسلامية؛ فإنهم - أي المسلمين- آثمون بلا شك، لأنهم فرطوا في واجب من الواجبات الشرعية، التي أوجبها الله كمفردة من مفردات استكمال خلافة الإنسان لله في الأرض والسير بفاعلية في أنحائها.