ثالثا: العدل والاعتدال في التعامل مع (الآخر):
من المعلوم أن الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق غاية عظمى ومقصد عريض يضم تحته الكثير من المقاصد النبيلة، وهو تحقيق العدل بين الناس، دون التفات إلى أديانهم وأعراقهم ولغاتهم، ومن باب أولى عدم الالتفات إلى طوائفهم ومذاهبهم وتياراتهم وأحزابهم، فالحق أحق أن يتبع.
وفي دراسة لصاحب هذا البحث عن "أسس التفكير الموضوعي في الإسلام" من خلال تدبر النصوص القرآنية وما صح من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ توصل إلى أن الأساس الثاني من هذه الأسس هو العدل والاعتدال في حالتي الحب والكره
>[1] ، حيث اهتم هذا الأساس بالتأصيل لمفردات عدة تدخل تحت هذا العنوان، وهي: مكافأة الجزاء للعمل، عدم جواز بهت الخصوم وضرورة الإشادة بإيجابياتهم، احترام المعايير الموضوعية في كل العلوم والأعمال والمعاملات، العدل في التعامل مع الآخرين، الاعتدال في حالتي الحب والكره.
ويبدو أن أهم آية في القرآن تؤسس لحرمة غمط الآخرين إيجابياتهم ومحاسنهم، قوله تعالى:
ولا تبخسوا الناس أشياءهم (هود:85) ، والنهي يفيد التحريم قطعا، وقد وردت هذه الجملة في ثلاث سور من القرآن الكريم وهي: (الأعراف:85) ، (هود:85) ، (الشعراء:183) ، وقد فسرها العلماء بما يؤكد ضرورة إنصاف الآخرين وحرمة بخسهم
>[2] .
[ ص: 42 ] يقول د. عبد الكريم بكار: "فإذا ذكر فاسق أو شاعر ملحد، أو عدو عاقل، وأردنا تقويمه وجب أن يشار إلى الصفتين معا، إنصافا له أولا، ومحافظة على رؤية متوازنة للأمور ثانيا، وحرصا على تكوين مزاج صحيح للأمة ثالثا، وإبقاء على هامش للتفاعل معه رابعا. وهذا ما مضى عليه الراشدون من سلف هذه الأمة إلى أن تفشت الأوبئة الخلقية والعور الفكري، وعمى الألوان، وتحولت الأمة إلى أحزاب و
كل حزب بما لديهم فرحون (المؤمنون:53)
>[3] .
ولم ينه الإسلام عن الغمط فقط، بمعنى الجحد النهائي لحقوق الآخرين، بل حرم حتى التطفيف، الذي يسعى لاستراق أو انتقاص شيء من حقوق الآخرين بطرق خفية كتغيير الموازين أو المكاييل، بحيث يزن للناس بميزان الشراء غير ميزان البيع، وقد حرم الله هذه الآفة في سورة سميت بالمطففين، وافتتحها الله بقوله:
ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين (المطففين:1-6).
وبالطبع فإن هذه الآيات تتحدث عن التطفيف الاقتصادي، لكن من يفقه هذا الدين يدرك أن كل أنواع التطفيف بذات الحرمة، ويستحق أصحابها الويل الشديد والعذاب الأليم، وهي التطفيف السياسي والتطفيف الأخلاقي والتطفيف الاجتماعي وغيرها من صور التطفيف.
[ ص: 43 ] ولقد كافح الأنبياء كل صور التطفيف مع تركيز كل نبي منهم على صورة من صور التطفيف الأكثر شيوعا في قومه، فقد حارب خليل الله إبراهيم، عليه السلام، التطفيف العقدي، فشن الغارة على الأصنام، التي اتخذها الناس زلفى تقربهم من الله، حسب زعمهم، واشتهرت في هذا السياق مناظراته لقومه وإفحامه لهم؛ مما دفعهم لرميه في النار.
وتولى ابن أخيه لوط، عليه السلام، محاربة التطفيف الأخلاقي، وبذل كل مستـطاع من أجل تجفيف مستنقعات الفسـاد الآسنـة، قـال تعالى:
ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر ... (العنكبوت:28-29).
وبدوره قام موسى، عليه السلام، بمحاربة التطفيف السياسي، الذي تفشى في عصره، حيث كان فرعون يكيل بمكيالين عندما جعل من بني إسرائيل عبيدا وخدما للمصريين، وفي سبيل ذلك أطلق موسى، عليه السلام، صيحة التحرير قائلا لفرعون بكل قوة:
فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم (طه:47).
وحارب شعيب، عليه السلام، التطفيف الاقتصادي الذي شاع في قومه، فقال لهم:
أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين (الشعراء:181-183).
[ ص: 44 ] ومن مقتضيات الموضوعية في هذا المجال: ضرورة تنظيم عواطف الحب والقبول وضبط انفعالات الكره والرفض. ومن ضبط عواطف الرفض: النظر إلى الذنب لا إلى المذنب، وكف التجاوز ضد الكائن أو الكيان المكروه مهما كان المبرر، بحـيث لا يتـم تـجـاوز الحـق أو العـدل، فـلا اعتـداء أو ظـلـم أو جور أو إسفاف أو سب أو افتراء، وأن يبقى رد الفعل محكوما بحدود الشرع
>[4] .
وقد علمنا نبي الله لوط، عليه السلام، درسا بالغ الأثر في هذا السياق، فمع أنه تعامل مع أكثر الأقوام انحطاطا إلا أنه في حواراته معهم لم يقل لهم بأنه يكرههم وإنما يكره ما يفعلون، حيث قال لهم:
إني لعملكم من القالين (الشعراء:168) ، أي من المبغضين، وعندما نعلم متى قال هذا الكلام الرفيع تزداد قيمته، فقد قاله ردا على قولهم له:
قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين (الشعراء:167) ، فلقد جعلوا من الطهارة جريمة يستحق أهلها الطرد من بلادهم والتهجير من بيوتهم، ومع ذلك فإن غضب لوط، عليه السلام، من هذا الانحراف الشديد ومن هذا الظلم لم يدفعه لكرههم، وإنما قال لهم بأنه يكره ما يفعلونه من هذه الأقذار، ثم إنه بعد هذا التهديد يدعو الله فيقول:
رب نجني وأهلي مما يعملون (الشعراء:169) ، حيث يؤكد الدرس السابق وهو أن طلبه للنجاة إنما هو من أفعالهم القبيحة وأخـلاقهم المنحـطـة وليس من أشخـاصهم، وبهذا فإنه لم
[ ص: 45 ] يقطع حبال العلائق معهم حتى وهو في هذا الوقت العصيب وبعد أن استنفد كل وصائل الإصلاح والإقناع.
وهذا هو ديدن جميع الأنبياء مع أقوامهم، فإن براءتهم كانت من أفعال الشرك والشذوذ وليست من الأشخاص، مهما كان قبحهم، فلقد قال نبي الله إبراهيم، عليه السلام، وهو في قمة الانفعال بعد أن أفلت جميع الظواهر التي اتخذها الناس آلهة من دون الله:
فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون (الأنعام:78) ، فهو يتبرأ من الأصنام لا منهم.
ولقد علم الله حبيبه صلى الله عليه وسلم هذه القيمة العظيمة فقال:
أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون (هود:35) ، هذا في معرض الرد على الاتهام له بالافتراء، أما في مقام العصيان له فقد قال له الله:
فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون (الشعراء:216) ، فلا الاتهام بالافتراء ولا موقف العصيان والتمرد سيدفعان محمدا صلى الله عليه وسلم إلى تجاوز أعمالهم وأفكارهم إلى أشخاصهم، وبذلك ظلت الحبال ممدودة إليهم، ولقد أسلم كثيرون بعد سنوات من الصد والتكذيب بما فيهم بعض أعلام الصحابة الكبار، مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أسلم بعد ست سنوات من البعثة، وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل، رضي الله عنهم، الذين اعتنقوا الإسلام بعد مرور أكثر من عشرين سنة على بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ نتيجة هذه الخلال النبوية الراقية.
[ ص: 46 ] ولا بد أن هذه الأمور وغيرها تدخل تحت نطاق وصية الله وأمره للمؤمنين بالشهادة لله والقيام بالقسط والتي وردت في أكثر من آية، منها قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (المائدة:8)
>[5] .
ويؤكد الله ذات الحقيقة بصورة مختلفة - كجزء من إعجاز القرآن في تنويع أساليبه في القضايا المهمة - بقوله تعالى:
ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب (المائدة:2)
>[6] .
الجدير بالذكر أن هذا الجزء من الآية نزل بشأن مشركي قريش، الذين أخرجوا الصحابة من ديارهم في مكة المكرمة وصادروا منازلهم وأموالهم، وعندما أتوا من المدينة المنورة لأداء العمرة في البيت الحرام قام هؤلاء المشركون بصدهم بالقوة، وحتى لا يعمي الغضب المسلمين ويدفعهم للاعتداء وتجاوز الحدود، التي حددها الإسلام في هذا السياق، فقد نزل النص القرآني ينهى بكل وضوح عن الاعتداء، بل ويدعو للتعاون مع هؤلاء على البر والتقوى.
[ ص: 47 ] والبر هنا هو عنوان عريض، يضم تحته كل ما يصون حرمات وحقوق الإنسان، والتقوى عنوان جامع لكل ما يتصل بتعظيم حقوق الله، أي أن النص يدعو المؤمنين للبحث عن القواسم المشتركة بينهم وبين هؤلاء المشركين، الذين صدوهم عن زيارة بيت الله المحرم، فإذا كان هذا التشديد في حق هؤلاء الذين جمعوا بين الكفر والظلم والفجور، فكيف بغيرهم؟!
وعندما يتحقق العدل والاعتدال بهذه الصورة في التعامل مع الآخر، تصبح الأرضية مناسبة لرؤية محاسن الآخر والاستفادة من منجزاته بعد اقتباسها وفق ضوابط الشرع الإسلامي وآلياته، التي سنوردها في المبحث الثالث من هذا البحث.